استمع إلى الملخص
- أقيمت جنازة نافالني في موسكو وسط إجراءات أمنية مشددة، واتهمت أرملته السلطات بإخفاء جثته. زادت وفاته من الضغوط الغربية على روسيا، حيث فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات إضافية.
- تعاني المعارضة الروسية في المنفى من انقسامات داخلية، ولم تؤثر وفاة نافالني على المشهد السياسي الروسي، حيث فاز بوتين بولاية جديدة وسط تعتيم إعلامي.
في 16 فبراير/شباط 2024، أعلنت الهيئة الفيدرالية الروسية لتنفيذ العقوبات أنّ المعارض الروسي الأبرز، مؤسس صندوق مكافحة الفساد، أليكسي نافالني، أصيب بوعكة صحية داخل زنزانته في القطب الشمالي، وأغمي عليه دون أن يتمكن أطباء من إنعاشه. وجاء في شهادة وفاته أنه توفي لـ"أسباب طبيعية"، وسط تشكيك المعارضة الروسية في صحة الرواية الرسمية، وترجيحاتها بتعمد السلطات تشديد ظروف سجن نافالني للقضاء عليه، بعدما كان يعد أشد المعارضين للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ما أدى إلى التنكيل به حتى وفاته. وقبل وفاته بأشهر، نُقل نافالني في عام 2023 إلى الإصلاحية رقم 3 "الذئب القطبي" ذات نظام خاص (الأكثر تشدداً بين نظم أداء عقوبة السجن في روسيا) في دائرة يامالو-نينيتس ذاتية الحكم، في شمالي روسيا، وذلك بعد أن كان يقضي عقوبة السجن لمدة تسع سنوات في قضية "احتيال" بالإصلاحية ذات نظام مشدد رقم 6، في منطقة كوفروف بمقاطعة فلاديمير الواقعة شرق موسكو. لكن في أغسطس/آب 2023، حُكم على نافالني بالسجن لمدة 19 عاماً مع أداء العقوبة في إصلاحية ذات نظام خاص لإدانته بإنشاء "جماعة متطرفة".
بعد أن ماطلت السلطات الروسية في تسليم جثمان نافالني لأكثر من أسبوع، أقيمت جنازته ومراسم توديعه إلى مثواه الأخير بمدفن بوريسوفسكويه بموسكو في نهاية المطاف، يوم 1 مارس/آذار 2024، وسط إجراءات أمنية مشددة وحالة من التعتيم الإعلامي. وفور وفاة نافالني، أعلنت أرملته يوليا نافالنايا، مواصلة كفاح زوجها، متهمة السلطات الروسية بإخفاء جثته لأنها "تنتظر لكي يختفي أثر سم نوفيتشوك من جسم نافالني"، في إشارة إلى محاولة تسميم تعرض لها نافالني بالغاز نفسه في عام 2020. وزادت وفاة نافالني من الضغوط الغربية والعقوبات على روسيا. وفيما استدعت كل من السويد وفنلندا وألمانيا وفرنسا وهولندا وإسبانيا، سفراء روسيا لديها يومها لطلب توضيحات بشأن وفاة نافالني، فرض الاتحاد الأوروبي بعدها، عقوبات على 33 فرداً وكيانين لهم صلة بوفاة زعيم المعارضة الروسية.
وقال الاتحاد الأوروبي في بيان يومها إن القائمة الجديدة تشمل المستعمرات العقابية التي سُجن فيها نافالني فضلاً عن مسؤولين كبار في النظام القضائي الروسي. وفيما حمّل الرئيس الأميركي في ذلك الحين، جو بايدن، بوتين و"زمرته" المسؤولية المباشرة عن وفاة نافالني، فإن الولايات المتحدة وبالتزامن مع مرور أسبوع على وفاة المعارض الروسي وعامين على الغزو الروسي لأوكرانيا أعلنت عن أكبر حزمة عقوبات ضد روسيا مستهدفةً القطاع المالي الروسي والمجمع الصناعي العسكري. كما شملت العقوبات يومها ثلاثة من المسؤولين الحكوميين الروس الذين كانت لهم صلة بوفاة نافالني. بدورها فرضت كندا عقوبات على مسؤولين روس قالت إنهم "شاركوا في انتهاك حقوق نافالني ومعاقبته القاسية وفي النّهاية وفاته". وفي الداخل الروسي، لم تؤثر وفاة نافالني على المشهد السياسي، إذ أجرى الكرملين بعد شهر انتخابات رئاسية أسفرت عن فوز بوتين بولاية جديدة بنسبة تفوق 85% من الأصوات، وسط تعتيم إعلامي كامل على الواقعة إعلامياً مع اقتصار تناولها على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها "يوتيوب" الذي تحول في السنوات الأخيرة إلى الملاذ الرئيسي للمدونين المعارضين الروس، إلى أن بدأت هيئة الرقابة الروسية روس كوم نادزور العمل على إبطاء أدائه منذ العام الماضي.
ورافق ذلك عجز المعارضة الروسية عن توحيد صفوفها منذ ذاك الحين، فبعد مرور عام على رحيل نافالني، في الإصلاحية رقم 3 "الذئب القطبي" في بلدة خارب، أقصى شمالي روسيا، لم تتمكن المعارضة الروسية غير النظامية في المنفى من توحيد صفوفها والاتفاق على زعيم جديد. بل تمر هذه المعارضة آلياً بموجة من التصدعات والانشقاقات والصراعات تحول دون تحدثها بصوت واحد في معارضتها لبوتين، والحرب الروسية المفتوحة في أوكرانيا التي تقترب من إكمال عامها الثالث. من آخر حلقات هذا الانقسام، الضجة التي أثيرت حول صندوق مكافحة الفساد بعد أن أنتج المدون الروسي المعارض الهارب إلى إسرائيل، مكسيم كاتز، في الخريف الماضي، تحقيقاً مصوراً حظي بأكثر من ثلاثة ملايين مشاهدة على منصة يوتيوب. اتهم كاتز في التحقيق، الصندوقَ بتلقي تمويل وتبييض وجوه المصرفيين القائمين على مصرف "بروبزنس بنك" المتعثر رغم قيامهم - وفق ما توصل إليه - باختلاس أموال المودعين والاستيلاء عليها عبر تسجيل شركات وهمية في الخارج وإقراض أنفسهم عبرها.
دافع القائمون على الصندوق عن أنفسهم، في التحقيق المذكور، ونفوا التهم الموجهة إليهم. لكن رواية كاتز حظيت بدعم من بعض رموز المعارضة الروسية في المنفى، بمن فيهم الملياردير الهارب، المالك السابق لشركة "يوكوس" النفطية العملاقة، ميخائيل خودوركوفسكي، والمصرفي المنشق، مؤسس المصرف الابتكاري "تينكوف بنك"، أوليغ تينكوف، الذي أقر بعدم مشروعية توظيف أموال المودعين في العمليات عالية المخاطر في الخارج. بصرف النظر عن مدى صحة هذه الاتهامات، إلا أن هذه الحملة ألحقت ضربة كبيرة بسمعة الصندوق الذي استمد شعبيته من اسم نافالني. وهو المعارض الذي أصر على مواصلة كفاحه ابتداء من العودة إلى روسيا بعد تلقيه العلاج في ألمانيا إثر تسميمه، في عام 2020، بغاز أعصاب يشتبه أنه ينتمي لمجموعة "نوفيتشوك" سوفييتية المنشأ، مروراً بحبسه لدى عودته، ووصولاً إلى تشديد ظروف سجنه التي أوصلت، وفق أنصاره، إلى وفاته.
زعيم غير تقليدي للمعارضة
يوضح عضو المجلس الإقليمي لحزب يابلوكو (تفاحة) الليبرالي المعارض في موسكو، أليكسي كرابوخين، أن نافالني لم يكن زعيماً تقليدياً للمعارضة "غير النظامية" الرافضة لقواعد اللعبة التي يضعها الكرملين، بل كان أقرب إلى "زعيم روحي" لم يخش من العودة إلى روسيا. ويعرب عن أسفه في الوقت نفسه لإعلاء المعارضين الآخرين طموحاتهم الشخصية في "صراعهم المثير للسخرية على لقب زعيم المعارضة".
أليكسي كرابوخين: يجب الإقرار بأن المعارضة قد لا تكون موحدة دائماً
يقول كرابوخين في حديث لـ"العربي الجديد"، إنه "يصعب وصف نافالني بأنه زعيم تقليدي للمعارضة غير النظامية أو المعارضة عموما، نظراً لوجوده في السجن خلال السنوات الأخيرة". جعله ذلك "صوت الضمير وزعيماً روحياً يوصل رسائله إلى جمهوره عبر محاميه لنشرها على حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن قرر العودة إلى روسيا عقب رحلة العلاج، مدركاً تماماً أن السجن بانتظاره، وإن كان على الأرجح يأمل ألا يموت على الأقل". وحول رؤيته لأسباب انقسام المعارضة اليوم، يضيف كرابوخين "العديد من وجوه المعارضة اضطروا إلى المغادرة إلى الخارج، وقد رُفعت قضايا جنائية بحق عدد منهم، فيما كانوا سيواجهون مصير نافالني في حال بقائهم". وبرأيه "فمن الصعب ممارسة العمل السياسي من المنفى"، مضيفاً أنه على قناعة "بأن السياسي يجب عليه أن يقيم داخل بلده، وأنا شخصياً وجدت من خلال عضويتي في حزب يابلوكو الطريقة المشروعة الوحيدة لمعارضة السلطة من داخل روسيا".
يتطرق كرابوخين في السياق نفسه إلى "عامل الطموحات الشخصية"، موضحاً أن "صندوق مكافحة الفساد لم يبد يوماً استعداداً لإقامة تحالف واسع النطاق مع أحد، وخودوركوفسكي وكاتز لهما طموحاتهما أيضاً في صراع مثير للسخرية على لقب زعيم المعارضة". ومع ذلك يرى ضرورة "الإقرار بأن المعارضة قد لا تكون موحدة دائماً نظراً لتباين الرؤى حيال السلطة الحاكمة ومستقبل روسيا". ويخلص إلى أن "عجز الشخصيات المعارضة عن توحيد صفوفها يمنعها من الاتفاق على زعيم جديد وتجاوز الانقسامات الداخلية".
خلافات المعارضة الروسية
من جهته، يلفت الأستاذ بكلية العلوم السياسية في جامعة موسكو الحكومية، ستانيسلاف بيشوك، إلى أن أهمية ظاهرة نافالني في المشهد الروسي تكمن في أنه استطاع أن يشارك مشاركة نشطة في الحياة السياسية من دون أي حزب أو كيان مسجل رسمياً، معتبراً أن انقسامات المعارضة في المنفى أمر طبيعي ليس بجديد، في ظروف وجودها خارج البلاد.
ستانيسلاف بيشوك: نافالني لم يكن يوماً زعيماً معترفاً به للمعارضة
يقول بيشوك لـ"العربي الجديد"، إن "مشهد السياسة الروسية اتسم في السنوات الـ10 أو الـ15 الأخيرة بشيء من التناقض، إذ احتضن البرلمان أحزاباً معارضة اسمياً، لكنها لم تطعن يوماً في سلطة بوتين ولم تحتج على سياساته الداخلية أو الخارجية". إلا أن نافالني، وفق بيشوك "الذي لم يترأس أي حزب مسجل رسمياً، أشهر طموحاته الرئاسية ورفضه التام لنهج بوتين، وحل في المرتبة الثانية بانتخابات عمدة موسكو في عام 2013، وسعى للترشح للرئاسة في عام 2018". مع ذلك، يلفت إلى أن نافالني لم يكن يوماً زعيماً معترفاً به للمعارضة، و"لم يقد رسمياً إلا صندوق مكافحة الفساد وشبكة المقار الإقليمية التي تأسست لدعم حملته الرئاسية، فأصبح وجه المعارضة الأشهر بين السكان والأكثر خطورة على السلطة".
وحول رؤيته لأسباب عجز المعارضة غير النظامية في المنفى عن تجاوز خلافاتها، يرى أنه "في ظروف العملية الديمقراطية الطبيعية، لكانت كل أحزاب المعارضة الروسية مسجلة وتزاول نشاطها داخل روسيا لا المنفى، ولكانت منشغلة بمنافسة السلطة على أصوات الناخبين لا بتصفية الحسابات وتبادل الاتهامات بالتعاون مع السلطة في السابق". وباعتقاده يشبه ذلك "العمليات التي جرت في أوساط المهاجرين من أنصار الحرس الأبيض (وحدات متطوعين هاجروا أولاً إلى جنوب روسيا) ممن فروا إلى أوروبا بعد الحرب الأهلية (ضد الجيش الأحمر أي السوفييتي، بين 2018-2019) في أعقاب ثورة البلاشفة في عام 1917".