ضغوط ترامب على كندا تبدّد أوهام "الأهل والأقارب"

14 فبراير 2025
متظاهرون ضد إجراءات كوفيد في أونتاريو، 12 فبراير 2022 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- أثار عهد ترامب تحديات في العلاقات الأمريكية-الكندية، مثل فكرة ضم كندا وفرض تعرفات جمركية أثرت على الاقتصاد الكندي، مما زاد من قلق الكنديين بسبب التداخل الاقتصادي الكبير بين البلدين.
- استجابت كندا للضغوط الأمريكية بتوحيد الأطياف السياسية وصياغة خطة "كندا أولاً"، مع محاولات لتعزيز أمن الحدود والحفاظ على استقلالها الاقتصادي والسياسي، وتعزيز المشاعر الوطنية.
- تاريخ العلاقات بين البلدين مليء بالتوترات، حيث تسعى كندا للحفاظ على استقلالها واستغلال مواردها الطبيعية، مع البحث عن شراكات تجارية متنوعة لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة.

لم يكد دونالد ترامب يحطّ قدميه مجدداً في البيت الأبيض، حتى بدر منه العجب. سيل "شطحات"، أو "فنتازيات" لم يتوقف، من الاستيلاء على قطاع غزة وتحويله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، إلى ضمّ كندا وجعلها الولاية الأميركية الـ51 مروراً بنيته السطو على غرينلاند وقناة بنما. كلّ ذلك، لم يعد يخفي شعوراً بعدم الارتياح الدولي من تسلّط أميركي في عهد ترامب على العالم، يضعه مراقبون في خانة الاستفزاز والضغوط والابتزاز لانتزاع المكاسب، على غرار ما تتعرّض له كندا. إذ بينما توصف كندا، في أقصى شمال القارة الأميركية، غالباً، حتى من قبل أبنائها، بـ"الكلب المطيع" (lapdog) لـ"اليانكيز"، في إشارة للجار المهيمن والقوي، الولايات المتحدة، يتفاخر الكنديون، حين يكون خصوصاً الرئيس الأميركي ودوداً، بـ"علاقة الأهل والأقارب"، أو التي "تفوق حلاوتها شراب المايبل (القيقب maple syrop)"، الشجرة الرمز لكندا. وبينما لا أحد استطاع فهم الأسباب التي تحدو ترامب إلى استفزاز كندا، دولة "السلام والأخوة والاندماج" كما ترى نفسها، تعيد تهديداته لها التذكير بالعلاقة بين هذين البلدين الجارين، واللذين يتمتعان بأطول حدود برّية مشتركة في العالم، وهي علاقة "حلفاء" في العلن، ولكن غالباً ما ولّدت شعوراً بالتبعية لدى الكنديين، وأحياناً بالهلع، على الرغم من مظلّة التاج البريطاني.

ترامب لا يمزح

ولم يحزن شعب لفوز ترامب مجدداً بالرئاسة الأميركية، في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أكثر من الكنديين على الحدود الشمالية. فبينما كان بعض الأميركيين الساخطين من هذا الفوز، يعلّقون بحزم أمتعتهم للهجرة إلى كندا، كان جيرانهم الذين يتشاركون معهم الحدود والثقافة ذاتها، يتوجسون من أربع سنوات أخرى، قد تكون أصعب عليهم من ولاية ترامب الأولى، حين فرض عليهم تعرفات جمركية تركت تأثيرها على الاقتصاد الكندي، وانتهت مع فوز جو بايدن بالرئاسة.

ولا يتعلّق الأمر فقط بسلاح الضرائب الذي فرضه ترامب قبل ثماني سنوات تقريباً على كندا، بل أيضاً بالتضارب بين أيديولوجيتين، يعكسهما البلدان عموماً، حيث تمثل كندا رمزاً للانفتاح والاندماج والتعددية العرقية والثقافية، بما هي دولة يعتمد رفاهها خصوصاً على سياسة نشطة ومتناسبة لاستقبال المهاجرين، فيما يختزل ترامب ثقافة الانعزالية. رغم ذلك، فإن أحداً في كندا لم يكن يتوقع استهتاراً إلى هذا الحدّ بعقود من تلبية أوتاوا للمطالب الأميركية، مع ترديد الرئيس الأميركي الـ47 يومياً أنه أكثر من جدّي في رغبته في أن تصبح كندا الولاية الـ51، وقد رفع خريطة تحريفية عن ذلك. واعتبر رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، أخيراً، بحسب ما سُرّب عنه، أن ترامب "جدّي"، وكلامه "ليس مزحة"، في وقت دعا فيه القادة السياسيون في كندا، من كلّ الأطياف، إلى التوحد، وصياغة خطة "كندا أولاً"، اقتصادية وسياسية، لمواجهة الضغط الأميركي.

لا يتعلّق الأمر فقط بسلاح الضرائب الذي فرضه ترامب قبل ثماني سنوات تقريباً على كندا، بل أيضاً بالتضارب بين أيديولوجيتين

وكان مايكل والتز، مستشار ترامب للأمن القومي، قد أكد أن ترامب لا ينوي فعلاً دعوة الجيش الأميركي لاجتياح كندا (الحدود البرّية هي الأطول بين بلدين في العالم، بـ9 آلاف كيلومتر (و120 معبرا برّيا)، وهي أقلّها تأميناً عسكرياً لناحية عديد الجنود المنتشرين نظراً لطبيعة التحالف بين البلدين، وعدم تشكيل أحدهما خطراً على الآخر)، في وقت تحدث الرئيس الجمهوري عن "إخضاع اقتصادي" أولاً، علماً أنه أجّل بعد عودته للبيت الأبيض، فرض زيادة بالرسوم الجمركية بنسبة 25% على الواردات من كندا (ومن المكسيك)، ما جنّب اندلاع حرب تجارية، فيما يبدو أنه أصبح أكيداً فرضه 25% زيادة جمركية على الصلب والألمنيوم المستورد، والتي تتصدر كندا لائحة الدول الموردة منها إلى الولايات المتحدة. ويرى متابعون، أن هدف ترامب من تهديداته المتكرّرة لكندا، هو ابتزازها، وفق نظرية الهيمنة وفائض القوة الأميركي، للاستحواذ مجاناً على مواردها الطبيعية وحتى على نفطها، بالطريقة ذاتها التي يحاول بها استفزاز أوكرانيا وابتزازها لحمايتها.

ورغم توحد السياسيين في كندا، من الحزبين المحافظ والليبرالي وغيرهما من الأحزاب، على رفض تصريحات ترامب بشأن ضمّ كندا، والتنديد بضغوطه التجارية، إلا أن سردية ترامب العدوانية، واصلت تقوية بيير بوالييفر، مرشح المحافظين لرئاسة الحكومة، في الانتخابات التشريعية المقبلة المقرّرة في وقت لاحق هذا العام. وبوالييفر، ملقب بترامب كندا، وهو يواصل التقدم في استطلاعات الرأي أمام الحزب الليبرالي الذي كان ترودو تنحى عن زعامته، وذلك باعتماده على التسويق لأجندة "كندا أولاً"، متعهداً بدوره كما ترامب، قطع المساعدات الكندية عن العالم، والتفرغ لتعزيز بناء قوة عسكرية في القطب الشمالي، كما يتعهد بتعديل سياسة استقبال المهاجرين، واتباع سياسة صقورية حيال الصين. وليس معروفاً، إذا ما كان ترامب بتصريحاته هذه، يقدّم خدمة للسياسي المحافظ (45 عاماً)، قبيل الانتخابات، على اعتبار أن أكثر العلاقات دفئاً بين الولايات المتحدة وكندا، تكون عادة حين يكون المحافظون في الحكم في أوتاوا.

في كل الأحوال، فإن حرب التعرفات الجمركية التي أطلقها ترامب، وتطاول كندا، تثير الهلع في أوتاوا، فيما تعزّز تعليقاته "الجدّية" بشأن الرغبة في ضمّ كندا للولايات المتحدة، المشاعر الوطنية لدى الكنديين، حيث أكدت آخر استطلاعات الرأي الكندية، ارتفاع نسبة هذه المشاعر لديهم، رداً على ترامب. ووجد آخر استطلاع لمعهد "أنغوس ريد"، نشر في الخامس من فبراير/شباط الحالي، ارتفاعاً بـ10 نقاط بنسبة الكنديين الذين يقولون إنهم "فخورون جداً بهويتهم الكندية" (قال ترامب إن معظم الكنديين سيوافقون على الضمّ)، من 35% في ديسمبر/كانون الأول الماضي، إلى 44، بينما انخفضت نسبة "غير الفخورين على الإطلاق"، من 6 إلى 4%. وقال 91% من الكنديين إنهم يريدون تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة.

ورغم ارتفاع منسوب الشعور بـ"الانتماء الوطني" لدى الكنديين رداً على الاستفزاز الأميركي، يسود اعتقاد تاريخي في كندا، بأمرين، يرتبطان بشكل عام، باعتماد هذا البلد الدائم على الولايات المتحدة: أولاً، أن كندا لا تحتاج إلى جيش قوي، نظراً أن الجار الأميركي سيهب دائماً لحمايتها، وثانياً، أن كندا ذات اقتصاد "تبعي"، فرغم مساحة البلاد الشاسعة، وهي ثاني أكبر بلد في العالم من حيث المساحة الشاملة (البرّية والبحرية)، بعد روسيا، إلا أن عدد سكّانها القليل مقارنة بحجمها (حوالي 40 مليون نسمة)، وتمركزهم بما هم أكثرية بالمناطق الحضرية (تتمركز غالبية الكنديين بالمدن والمناطق الحدودية مع الولايات المتحدة)، يجعل الاقتصاد معتمداً بصورة أكبر على التوريد إلى الخارج، وليس بين المقاطعات (تتألف كندا من 10 مقاطعات و3 أقاليم). وفي هذا الخصوص، فإن 70% من واردات كندا تذهب للولايات المتحدة (كندا هي الأولى على لائحة الدول التي تستفيد من ورادات 36 ولاية أميركية أيضاً)، فيما تستورد الأخيرة من كندا 60% من نفطها الخام، وخصوصاً من مقاطعة ألبرتا. وبحسب إدارة الطاقة الأميركية، فإن ربع استهلاك الأميركيين اليومي من النفط، يأتي من كندا.

كندا تعتقد بامتلاكها أوراق قوة، تجاه الضغط الأميركي، رغم محاولة ترودو الاستجابة لبعض ضغوط إدارة ترامب

وإذا كان أكثر المتفائلين حول طبيعة العلاقات التجارية بين البلدين، يتحدثون عن "تداخل" اقتصادي وليس "تبعية"، فإن كندا تعتقد أيضاً بامتلاكها أوراق قوة، تجاه الضغط الأميركي، رغم محاولة ترودو الاستجابة لبعض ضغوط إدارة ترامب، كإعلانه تعيين كيفن بروسو في منصب يسمى "قيصر الفنتانيل"، ومهمته مكافحة تهريب هذا النوع من المخدّر الأفيوني الاصطناعي عبر الحدود ومحاربة الشبكات المنتجة له داخل كندا (بحسب تقرير لصحيفة نيويورك تايمز نشر في السادس من فبراير الحالي، فإن 1% فقط من الفنتانيل الذي دخل الولايات المتحدة العام الماضي، جاء من كندا)، وتعزيز أمن الحدود الكندية لمحاربة شبكات التهريب والجريمة المنظمة.

ويقول اقتصاديون كنديون إن ذهاب ترامب بعيداً في الحرب التجارية سيؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع في الولايات المتحدة، وزيادة نسبة التضخم، فيما كان الأميركيون انتخبوه خصوصاً لتخفيض نسبة التضخم وتحسين نسبة معيشتهم. كما أن فرض الرسوم الإضافية على استيراد الصلب والألمنيوم، من شأنه أن يترك عواقب كارثية على البلدين، ومن بينها على صناعات أساسية في الولايات المتحدة. وبرأيهم، فإن ذلك ما حدا ترامب إلى فرملة اندفاعته، أملاً كما قال بالتوصل إلى "هيكلة جديدة لاتفاقات التجارة" مع كندا.

كندا "سيراً على الأقدام"

ويذكّر الضغط الذي يمارسه ترامب على ترودو (سخر الرئيس الأميركي من رئيس الحكومة الكندي الشاب ووصفه بـ"حاكم كندا")، بفترة سابقة خلال عهدي الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، ووالد ترودو، بيار ترودو، حين أثار فوز نيكسون بالرئاسة (1968)، الهلع في كندا، بعدما توعد خلال حملته الانتخابية بـ"الحصول على حصة من كل شيء كندي، اللحوم والصلب، وكلّ شيء"، وحرم كندا لاحقاً من الإعفاءات الجمركية، ما إطار ما سمي بـ"صدمات نيكسون". وفي العموم، فإن تاريخ البلدين، بحسب الكاتبة جنيفر لفين بوندر، في موقع policy options politiques، الكندي، لم يخل من تبعات الموجات "الحمائية" الأميركية، منذ عام 1860 (تاريخ استقلال كندا عن التاج البريطاني هو في الأول من يوليو/تموز 1867)، لكنها لفتت إلى أن اقتصاد البلدين "كانا مجبرين على التداخل منذ مراحل الحربين العالميتين وما بعدهما"، رغم استعداد أوتاوا لتفعيل ورقة خيارات معدّة بمواجهة أي سيناريوهات محتملة. ولطالما ارتفعت أصوات في كندا، تنادي بتنوع الشراكات، ومنها حتى الصينية، كما أن هناك أيضاً تقييما سلبيا في أوتاوا لطبيعة القيود والعقوبات التي تفرضها إدارة ترامب على كوبا، والتي يتأثر بها التبادل التجاري وقطاع الاستثمارات بين كندا وكوبا.

سياسياً، فإن الخدمات الكثيرة التي قدّمتها كندا للولايات المتحدة (البلدان عضوان بتحالف الخمس عيون الاستخباري)، وآخرها اعتقال المديرة العامة لشركة هواوي الصينية منغ وان شو، عام 2018، في عهد ترامب الأول، وتسعير الخلافات مع الصين، وكذلك تحريك عدد من القضايا "الحقوقية" وفرض عقوبات والتي يعتبرها البعض بطلب أميركي للضغط على بعض البلدان أو تماشياً مع الأجندة الأميركية، كما غضّ النظر عن قضايا أخرى كالقضية الفلسطينية وتسليح دول "ديكاتورية" (قضية الخلاف الدبلوماسي الأخير مع الهند بعد مقتل معارض من السيخ في كندا، العقوبات على فنزويلا)، لا يعني أن كندا لم تثر الغضب الأميركي حين تمايزت عن واشنطن في بعض المفاصل التاريخية، ومنها رفضها لغزو العراق.

فشلت الولايات المتحدة في غزو جارتها الشمالية، عام 1812، لتشن عليها بريطانيا العظمى حرباً أدت لدخول بريطانيا واشنطن

أما على صعيد ضمّ كندا، فالتاريخ الأميركي – الكندي، لم يخل أيضاً من "الشطحات الأميركية"، حيث إن الولايات المتحدة كانت فشلت في غزو جارتها الشمالية، عام 1812، لتشن عليها بريطانيا العظمى حرباً أدت لدخول بريطانيا واشنطن وإحراقها البيت الأبيض. ومن المعروف أيضاً أن الولايات المتحدة أّعدّت في عام 1930، ما عرف بـ"خطة الحرب الحمراء"، لغزو كندا، وإلحاق الهزيمة ببريطانيا، ثم إنفاق الكونغرس الأميركي 57 مليون دولار في 1935، لتعديل خطّة الغزو، والتي لم تنفذ في كل الأحوال مع صعود هتلر. ورأت مجلة تايم في تقرير نشر في الرابع من فبراير الحالي، أن ترامب ينضم إلى لائحة طويلة من الرؤساء الأميركيين ومنهم الآباء المؤسسون الذين لطالما رأوا في كندا بلداً يجب السيطرة والاستحواذ عليه. وكان الرئيس الأميركي توماس جيفرسون أكثرهم ثقة بنفسه، إذ ينقل عنه قوله في عام 1812، لصحيفة فيلادلفيا، إن "الاستحواذ على كندا... هو مسألة سير على الأقدام". أما الكنديون، فيسخرون على مواقع التواصل من هذه "الأحلام" الأميركية، إذ يقولون إن كندا، ستجعل الولايات المتحدة مؤلفة من 60 ولاية، نظراً للاختلافات السياسية والاقتصادية بين المقاطعات الكندية، والنظام اللامركزي المهيمن. وكتب موقع "ذا إنتربرتر" في 14 يناير الماضي، بلهجة ساخرة، أن المقاطعات الكندية "أصبحت شديدة الاستقلالية، والاندفاعة لحماية امتيازاتها، لا سيما النفطية منها، وهي حتى تتوجس من بعضها"، كما أن الكنديين برأيه، يرفضون الخضوع لنظام أميركي ثنائي الحزبية، في وقت لن تقبل الولايات المتحدة أن تصبح دولة ثنائية اللغة.