استمع إلى الملخص
- أظهرت الثورة السورية قدرة على ضبط النفس وتجنب الانتقام، مع تجهيز حكومة انتقالية وإعادة تشغيل المرافق، والتعامل مع العالم الخارجي بأسلوب متزن، مما يعكس تحضيراً مسبقاً لكوادر الثورة.
- رغم التحديات المعقدة، تقدم التجربة السورية الجديدة مؤشرات مطمئنة بوجود وعي ونموذج مختلف، مع فهم أعمق لطبيعة الدولة ومتطلبات المرحلة القادمة.
هذه المرة، حملت الثورة معها، في سورية، القوة والمشروع. لم تكرر الثورة أخطاء الثورات في مصر وتونس واليمن وغيرها، حين ارتخت الثورة على الأنظمة الفاسدة واتكأت إلى ذات المؤسسات، حتى فاجأتها الثورات المضادة واستولت على المسار بأكمله.
بدت الثورة في سورية بعد سقوط بشار الأسد، على قدر مقبول من الجاهزية للانتقال إلى مشروع الدولة، وأظهرت الاستعداد الكبير لتحقيق استحقاقات الدولة، ومأسسة هذا الانتقال إلى مرحلة ما بعد النظام البعثي، على أسس سليمة وقواعد صحيحة، وتحمّل عبء إعادة بناء المؤسسات الحيوية والعصب الأساس في الدولة، على أسس وعقيدة جديدة، لا يكون فيها المجتمع هو المستهدف الأول، ذلك أن سورية لم تكن دولة مؤسسات بأي معنى كان، فقد كان البلد حزمة متراصة من المربعات الأمنية، يحكم كلاً منها شخص أو جماعة.
حملت الثورة المنتصرة على نظام "المسالخ البشرية" في سورية معها مشروع الدولة، ما يؤكد ذلك بالأساس، السرعة التي تخلصت فيها الثورة من وهج الانتصار، وقمعها بذاتها كل نوازع الانتقام، وهذه مسألة بالغة الأهمية تشير إلى وجود تحضير وتأهيل مسبقَين لكوادر الثورة السياسية والعسكرية. وما يعزز ذلك، السرعة التي جهزت بها الثورة حكومة انتقالية وإعادة تشغيل المرافق الخدمية على نسق مختلف، وسرعة تشكيل صورة الدولة ومخاطبة العالم الخارجي، والتعامل مع هذا العالم بمصالحه المتناقضة، بأسلوب متزن وخالٍ من التشنج والخطاب الثوري، وتبديد المخاوف التي تشكلت جراء صورة نمطية، وبدء خطوات بناء مؤسسة توافق وطني عبر مؤتمر حوار وطني يؤسس لدستور انتقالي، قبل صياغة دستور جديد.
لكن، وقبل المشروع، كان واضحاً أن ثوار سورية، على قناعة من أن الثورة على الأوضاع وتركيز التغيير بالمعنى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، خصوصاً في بلد تعددي كسورية، يحتاج إلى إعادة بناء مرتكزات القوة، بمعناها المادي المتعلق بمؤسسات الأمن والجيش، وتغيير عقيدتها تجاه المجتمع المحلي والإنسان السوري (في عهد الأسد كان كل سوري مشروع معتقل)، وتجميع السلاح بيد الدولة وضبط الأمن والسلم الأهلي، أو برسملة القوة المجتمعية، والتوظيف الصحيح للرموز المحلية، وسحب كل فواعل الفتن الطائفية والمناطقية، واستيعاب كافة المكونات ضمن المشروع الوطني الجديد.
صدقاً، من المبكر الحكم على المآلات والتسرع في تقدير المسار ما بعد الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 في سورية، خصوصاً أن سورية لا تحسد في واقعها الحالي على ما لا يحصى من المصاعب والمشكلات المعقدة، والذي لا يُخفى على فاحص المعضلات والعوامل المتداخلة والعناصر المحلية والإقليمية المتدخلة. لكن التقييم الأولي لملامح التجربة الجديدة في هذا البلد، تطرح مؤشرات مطمئنة، وإن بحذر، بوجود وعي كبير وأن هناك نموذجاً وعقلاً مختلفاً وجيلاً جديداً من "الثوار"، مقارنة مع تجارب التغيير السالفة، أكثر احتكاكاً مع تجربة الحكم، (بحكم تجربة إدلب)، وأوسع فهماً لطبيعة الدولة والاستحقاقات المحلية والإقليمية.