استمع إلى الملخص
- في قاعدة حميميم العسكرية الروسية، يقيم نازحون من قرى الجبل بعد فرارهم من مذابح مارس، ويواجهون صعوبات في العودة بسبب انعدام الأمن، وسط معارك عنيفة بين القوات الأمنية وفلول النظام.
- في طرطوس، تستمر الجهود لملاحقة المتورطين في الجرائم، مع استمرار الانتهاكات وغياب الضابطة العدلية، مما يبرز الحاجة إلى خطط حكومية شاملة لمعالجة الأوضاع.
باتجاه مدينة اللاذقية، تختفي آثار النظام القديم، الذي خطف بلدًا وطائفة لأكثر من نصف قرن. يسقط "باسل" من اسم المطار الدولي، وترتفع "اللاذقية" مكانه. تسمو أعلام سورية الحرّة الجديدة في شارع المدينة الرئيسي، ويراقص الهواء في أجوائها عبد الباسط الساروت، رافعًا يده إلى السماء "سوريا للكلّ".
القاضي والجلّاد
إلى القرداحة، مسقط رأس آل الأسد، حيث دارت معارك دامية في القرى المحيطة، ووقعت مجازر طائفية بحق المدنيين الشهر الماضي وأُعدمت عائلات بكامل أفرادها، نتّجه، لكن ما إن نصل إلى النقطة الأمنية التي تحرس بابها "القرداحة ترحّب بكم"، حتى نُمنع من الدخول، إلّا بتصريح خطّي موقّع من المحافظ. وبينما نحن منتظرون الموافقات الأمنية، يترجّل من سيّارة صغيرة تقرقر وترتعش عند التوقّف قبل أن تُطلق ريحها الأغبر، رجلان مربوعان، يهرعان صوب حافلة توقفت عند النقطة ويؤشّران إلى رجل داخلها. بعدها، يُنزل عناصر النقطة الرجل من الحافلة، ويتسابقون عليه ضربًا، صفعًا وركلًا. يعود مسؤول الحاجز إلينا لاهثًا متعرّقًا، مبرّرًا وقد شهدنا على الحادثة، بأنّ الرجل سرق منزل الاثنَين الآخرين، اللذين اشتكياه للحاجز، ولماذا لا يشكواه للشرطة ويُسجّل محضر ويُفتح تحقيق؟ المخفر مغلق في القرداحة. وكيف تأكّدت من السرقة؟ ماذا لو كان هذان يكيدان له؟ يتطلّب الأمر اثنين من الشهود، بحسب الشريعة الإسلامية، وهما شاهدان؛ وما علاقة الشريعة يا أخي؟ عنصر الأمن إذًا، صار الآن مشرّعًا وقاضيًا وجلّادًا. يتقدّم صاحبا السيّارة المتهرهرة نحونا والبؤس يعشعش فيهما من الرأس حتى الأخمصَين، يقولان إنّهما شكيا "آكل العلقة" مرّات عدّة للنقطة، وما أن شاهدا غريمهما حتى سارعا لإبلاغ الحاجز. نضطر آسفين للسؤال عن الطائفة للمرّة العشرين في جولتنا، فيجيبان أنّهما من قرية علوية قريبة.
يذكّر هذا المشهد المضحك المبكي بتصرّفات الأمن عند حواجز النظام المخلوع، كما يعكس حالة الفوضى الأمنية التي تختلف حدّتها من محافظة إلى أخرى، لكنّها تؤكّد بما لا يقبل الشكّ بأنّ الملف الأمني أولوية الأولويات، ولن تقوم قائمة أيّ دولة ما لم تُحلّ المعضلة الأمنية.
"جاء الشيخ"، يقول أحدهم. يتقدّم نحونا مسؤول أمنيّ؛ رجلٌ في أواخر العشرينات أو أوائل الثلاثينات، منسّق الكلام والهندام كما أغلب مسؤولي النقاط والأفرع العسكرية والأمنية، الذين صادفناهم في محافظات سورية. لا بدّ من تأكيد ملاحظة هنا على هامش جولاتنا في مختلف المحافظات، بأنّ مَن يمسك الأمن العام حاليًا (باستثناء السويداء، وشمال وشرق حيث قوات سوريا الديمقراطية "قسد") هم من فصائل إدلب، يتوزّعون خصوصًا في الساحل ودمشق. واضحٌ لديهم، حسُّ الانضباط العالي. عن هذا، يقول لنا مسؤول أمنيّ رافقنا في جولة سابقة إلى إحدى المحافظات، لن نذكرها حفاظًا على هويته، بأنّه كان في الفصيل الذي أسّسه وكبّره وحوّله الرئيس أحمد الشرع منذ البدايات، ويشير إلى أنّ سرّ الانضباط هو نوع العقوبة؛ فمن يخطئ من المحسوبين على فصيله، ينال العقوبة مضاعفة. أفسح انتهاء الحرب أمام الشاب العودة إلى محافظته والدراسة في كليّة الحقوق.
نعود إلى المسؤول حسِن الكلام عند باب القرداحة، فقد أكّد لنا حاسمًا بأنّنا لا نستطيع الدخول إلى المدينة والقرى المحيطة بها، إلّا بموافقة من المحافظ وبمرافقة أمنية لحمايتنا. يشير إلى وقوع هجمات على النقاط الأمنية في القرى داخل الجبل عميقًا، إذ يتحصّن فارّون ومطلوبون، آخرها كان قبل ساعتين من وصولنا. يرفض أن يحدّد عدد المطلوبين الملاحقين، وأبرزهم، لأنّه غير مخوّل بالحديث عن ذلك. ويتفق أمنيون تحدّثنا معهم في أوقات وأماكن مختلفة، على أنّ التضاريس الجبلية ووعورة الطرق يصعّبان مطاردة الفارّين. ويذهب البعض إلى وصف الفلول بالخلايا النائمة، ويشبّهونها بما جرى في درعا؛ إذ ظلّ ثوّار داخل المحافظة ولم يغادروها أيّام عمليات المصالحة مع نظام الأسد، بموجب اتفاق أستانة. وعندما آن الأوان، تحرّكت ضدّه.
******
مخيّم اللجوء
داخل قاعدة حميميم العسكرية الروسية، وفي حديقتها الخلفية الواسعة المتصلة بالشارع والمسوّرة بسياج حديدي، حيث تنتشر خيامٌ بيضاء، يقيم نازحون من قرى الجبل، فرّوا من مذابح 6 و7 و8 مارس الماضي. يسهل التعرّف على الشارع المواجه للقاعدة، من خلال اللافتات الروسية على رؤوس الدكاكين الصغيرة المتفرّقة، التي يبتاع منها الجنود الروس حاجياتهم اليومية. الدخول إلى مخيّم النازحين أو القاعدة غير ممكن، بلا موافقة أمنية سورية وروسية معًا. كما أنّ المقيمين داخلًا يرفضون الحديث، أو الخروج من المنطقة، والعودة إلى منازلهم، بحسب ما يقول مواطن سوريّ لديه دكّانة قريبًا من سياج الحديقة، استضافنا فيها، وحدّثنا عن الخوف وقطع الأرزاق وأحوال الأهالي البائسة، وعاد إلى الاشتباكات والمذابح وفرار الناس إلى داخل القاعدة. وكانت المنطقة نقطة معارك ساخنة بين القوّات الأمنية وفلول النظام. يُظهر مُضيفنا غضبًا شديدًا ممّا حصل "الهجمات كانت بتهمة الدين. انتهى الموضوع، نقطة"، ويكرّر ما قاله أغلب أبناء الساحل بأنّهم كانوا "خزّان التوظيف في الجيش خلال النظام السابق، الذي لم يهتم لأحوالنا البائسة"، ويخلص متهكّمًا "لم نرَ بشار الأسد في القرداحة إلّا ثلاث مرّات، الأولى حين مات والده (حافظ)، والثانية حين مات أخوه (باسل)، والثالثة حين ماتت أمّه (أنيسة مخلوف)".
*******
صرخة الفزعة التي سبقت المذبحة
في منطقة الرميلة (جبلة) التي تقع فيها الكليّة الحربية، آثارُ اشتباكات كانت من الأعنف بين القوّات الحكومية وفلول النظام، سقط خلالها عدد غير معلوم من القتلى. زجاج النوافذ مهشّم، وآثار الرصاص في الحيطان التي خُطّت عليها كتابات "دولة إدلب" و"أحرار إدلب – لواء حمزة" و"إننا أهل إدلب" و"أحرار منبج".
تحرس المكان قوّات أمنية، يتقدّم عنصر منهم لمنعنا من استطلاع المحلّ القريب من الطريق الرئيسي وتدوين الكتابات المتناثرة على حيطانه الداخلية والخارجية، لكن مارًّا بسيارة تتبع الأمن العام يخفض زجاج النافذة مستطلعًا، قبل أن يطلب منه أن يدعنا وشأننا، فنفهم بأنّه المسؤول. يتقدّم نحونا عنصر الأمن، ولطافته قد ازدادت الآن بعد موافقة مسؤوله. نسأله من أي منطقة أنت؟ يجيب من إدلب. ونفتح حديثًا يطول معه. الرجل كان من المحاصرين في ناحية الدالية في جبلة، يقول إنّه كان موجودًا في رتل عسكريّ يضمّ تسع سيارات عسكرية محمّلة بـ 100 عنصر أمني في ناحية الدالية، متجهًا لإلقاء القبض على مطلوبين قبل أن يتعرّض لكمين من عناصر الفلول. حوصروا ليومين وقُتل عشرون من رفاقه بينهم قائد الكتيبة (لواء النخبة)، قبل أن يجري تخليصهم. يقول إنّ قائد الكتيبة (أبو هاجر)، ظلّ ينزف من السادسة مساءً حتى 11 ليلًا، ثمّ مات. حين تعرّضوا للكمين، اتصلوا بعائلاتهم ورفاقهم، وطلبوا النجدة.
يقول مسؤول في وزارة الإعلام التقيناه لاحقًا في دمشق، إن القوّات الأمنيّة الحكومية فقدت السيطرة على الجبل ليومين كاملين، بعد الهجمات المتزامنة التي شنّها فلول النظام في جبلة ثمّ الدالية وحميمم والقرداحة وبانياس وطرطوس، وإنّهم سيطروا على مراكز أمنية وحيوية، ويضيف "كان لدى القوّات الأمنية أكثر من 300 أسير"، في إشارة إلى القوّات التي حوصرت خلال الهجمات، ويتطّرق أيضًا إلى اتصالات من المحاصَرين بأهاليهم وأقاربهم في المحافظات الأخرى، وإطلاق صرخة "الفزعة".
*******
الشيخ والسجينان
يجلس رجلٌ خمسينيّ عند الرصيف البحري لمحافظة طرطوس يحدّث شابًا إلى جانبه، وعيناه على جزيرة أرواد التي جعل منها الانتداب الفرنسي يومًا معتقلًا لقادة الحركة الوطنية ومعارضيهم في سورية ولبنان. "ما قولك؟ هل لدينا الوقت للذهاب إلى الجزيرة؟ ماذا لو انتظرنا حتى الليل، ولم يسمحوا لنا أيضًا برؤيتهما". جاء الرجل لرؤية ابنه الموقوف في السجن المركزي من "الهيئة" (يقول هذا حرفيًا ويقصد الأمن العام)، أمّا الشاب، فجاء لرؤية شقيقه المسجون رفقته. الموقوفان عنصران في وزارة الدفاع، جرى توقيفهما بسبب شكوى ضدّهما من مواطنين في طرطوس. لم يعرف الرجل وصديقه ما طبيعة هذه المشكلة، كلّ ما عرفاه أنّهما ذهبا للسجن، وأنّ "الشيخ" (المسؤول الأمني في السجن) رفض السماح لهما برؤية الموقوفين حتى إشعار آخر، وأنّ سبب التوقيف "مشكلة مع الأهالي". بعد أخذ وردّ، يقرّران العودة إلى دمشق قبل مغيب الشمس، على أن يعودا غدًا في محاولة أخرى. عقب أحداث الساحل، أكّدت القيادة السورية أنّها ستلاحق المتورّطين في الجرائم "حتى لو كانوا من أقرب الناس" إليها، ثمّ شكّلت لجنة تقصي حقائق لم تنهِ عملها بعد. غير ذلك، لم تُسجّل بعد أكثر من ستة أسابيع، إلّا توقيفات محدودة تكاد لا تُذكر.
*******
أسئلة مفتوحة
خلال جولتنا المقيّدة لأسباب أمنية في الساحل السوري، التي شملت مراكز المدن وليس القرى الجبلية، أخبرنا أهالٍ في جبلة، والضاحية وجبيبات، وحميميم، واللاذقية، أنهّم لم يلتقوا لجنة تقصي الحقائق التي شُكّلت بعد مذابح الساحل السوري، كما أَخبرونا عن حصول انتهاكات (حالة خطف وقتل من ملثمين في اللاذقية، لم نستطع التحقق من صحتها)، وتعرّض القوى الأمنية لكمائن وإطلاق نار (رصدنا ثلاثة حوادث، بحسب روايات أمنيين التقيناهم بمواقع متفرّقة من جولتنا)، ويُشاع أخبار عن حالات خطف نساء بدوافع طائفية، لم نستطع التحقق منها، فبقيت في إطار نقل عن ناقل. وكان واضحًا غياب الضابطة العدلية في مناطق الساحل، وعدم وجود آلية واضحة للإبلاغ عن الانتهاكات، إضافة إلى الشرخ الأهلي، الذي يحتاج لخطط وبرامج حكومية شاملة، كما تغيب أخبار التوقيفات؛ فوراء من ارتكب الجرائم بحق المدنيين في النهاية، فاعلٌ.
توجّهنا إلى لجنة تقصّي الحقائق، التي كانت أثناء مغادرتنا الساحل في طرطوس، وتستعدّ للتوجّه إلى دمشق لتسليم تقريرها وطلب تمديد عملها (مُدِّد ثلاثة أشهر)؛ بهذه الأسئلة وغيرها، فأكّد المتحدّث باسمها ياسر فرحان، بأنّهم اتخذوا قرارًا بعدم التصريح الإعلامي حاليًا لأغراض التحقيق وخصوصيته، مرحّبًا بتوضيح كلّ النقاط حين يسمح عملهم بهذا.