استمع إلى الملخص
- تأثير الأحداث الطائفية على العلويين: يعاني العلويون من الانقسام والخوف بعد هجمات مارس/آذار، حيث تم استغلالهم كخزان بشري في الحرب، مما أدى إلى تدهور وضعهم الاجتماعي والاقتصادي.
- استغلال النظام السابق للطائفة العلوية: اعتمد النظام السابق على العلويين كذراع أمنية، وبعد سقوطه، تعرضت الطائفة لضغوط كبيرة، حيث زادت المحسوبيات والفساد، مما أدى إلى تهميشهم اجتماعياً واقتصادياً.
العجوزُ والبحر
يتقدّم بخطى بطيئة في وضح النهار على رصيف بحريّ خاوٍ. يخبط رجلًا في الأرض، ويُرخي الثانية، فتهرّ معوجّة. يحني ظهره، وكأنّه يجرّ حملًا ثقيلًا. خطوط وجهه ثمانينيّة. يلتحف بمعطف ووشاح لا يدلّان على شظفٍ أو مشقّة. يمدّ يده "لللاه… أعطونا مالًا لله". حروفه تخرج متعثّرة، والرعشة تهزّ أطرافه، لكنّ عينيه متصلّبتان، لا ترفّان، البؤبؤ يتّسع ملامسًا الحدقة، والبياض ثلجيّ وضّاح. يهدج العجوز وحيدًا على رصيف مدينة جبلة في الساحل السوري، غير مبالٍ لعنصر الأمن الواقف معنا ولا للصيّاد عند الشاطئ ولا للبحر، كمن خسر كلّ شيء.
من أين أنت يا عمّ؟ من الزهيريات. وأين تقيم؟ مكان قريب. حرقوا منزلي هناك، واستأجرت منزلًا هنا. وعائلتك؟ يأخذ نفسًا عميقًا، ثمّ يحبسه، وتغرورق عينانه "عندي خمسة؛ ثلاث بنات وشابان". هل أصابهم أذىً؟ يهزّ رأسه بخفّة يمينًا ويسارًا مومِئًا "لا"، ويمضي. نتبعه. قتلوا جيراني، رأيتهم. يريد قتلنا لأنّنا علويون. الزهيريات بلدة معظم أبنائها من الطائفة العلوية، تقع عند أطراف مدينة جبلة. شهدت اشتباكات لعدّة أيّام بين فلول النظام والقوّات الأمنية؛ أُحرقت فيها منازل، وسقط قتلى.
تعكس حالة الشيخ؛ الصدمة، الخوف، والانقسام الطائفي الحاد، ما تعيشه الطائفة العلوية (تشكّل ما نسبته 10% إلى 13% من سكّان سورية) في الساحل السوري منذ هجمات ومذابح الثامن من مارس/آذار الماضي. يتفق كثيرٌ من أبنائها الذين التقيناهم في الساحل على وصف حال طائفتهم بالمخطوفة؛ ماضيًا وحاضرًا. فقد حوّلها نظام حافظ الأسد ماضيًا إلى ذراع أمنية لحماية نظامه. وصار الجيش طريقًا للتنفّع وسلّمًا للترقّي لأبنائها، سادًّا أيّ سبيل أمامهم للعيش خارجه، إلى أن صاروا يشكّلون الغالبية في كل من الجيش والأجهزة الأمنية، خصوصاً بعد الثورة، ويقبضون على المناصب العليا. وحين وقعت الحرب، استغلّ ابنه بشار، الطائفة خزانًا بشريًا للنجاة من السقوط. وبعد سقوطه وفراره، اتخذها رجاله الفارّين من العدالة دروعًا بشرية، وأعطوا ذريعةً لثلّة من المتطرّفين المدفوعين بغريزة الثأر لأن تشنّ مذابح طائفية. في رواياتهم، يفرّق من التقيناهم بين شرطيّ سيّئ لا وجه له، رأوا ملامحه حين وقعت المذابح، وشرطيّ طيّب بائن الوجه.
أن تتطرّق إلى موضوع طائفي في بلادنا مسألة شديدة التعقيد؛ لؤمٌ أن تسأل الناس عن هويتهم الطائفية "علويٌّ أنت، أم سنّي؟" وحين تستحي، تسأل عن منطقتهم، وتشغّل رأسك في التخمين لحياكة القصة الكاملة، والأشدّ خبثًا أن تبحث في العلامات الفارقة؛ اللهجة، اللباس. لكنّ لا مفرّ من هذا لتدوير الزوايا. أوّلًا وأخيرًا، ستتكشف ملامح الجريمة كاملة، لكن يبقى أنّ الانقسام الأهلي الموجود حاليًا صعبٌ أن يُسقط إلا بعدالة شاملة، ومحاكمة مجرمي الأمس واليوم.
في المكان الذي التقينا فيه العجوز قبالة البحر؛ في ضاحية مدينة جبلة، شاهدنا الانقسام الطائفي الحادّ بأمّ العين في الساحل السوري. انقسامٌ عموديّ، والخطّ الفاصل، مبنى أزرق عند الرصيف البحري، يمثل بالنسبة لأبناء المنطقة علامة فارقة تشقّ البرّ والبحر والشاطئ طائفيًا؛ بين الشمال العلويّ والجنوب السنيّ. يظهر رصيف الشمال خاليًا تمامًا، والبنايات المصفوفة من ناحيته مهجورة حديثًا، يدلّ على ذلك خواؤها وبعضُ الغسيل المنسيّ على شرفاتها، لكن عنصر الأمن يصرّ على غير ذلك. أما الجنوب، فيسير على رصيفه المشاة ولو بتؤدة واستحياء.
*******
الفتى والكفن
العقرب يقترب من السادسة مساءً، ولم تتبق إلّا ساعة واحدة حتى يحين حظر التجوّل الذاتي في الساحل. نتّجه مسرعين إلى مقهى الزوزو في جبلة؛ المعروف بتاريخه ملتقىً ثقافيًا، لملاقاة أحد أبناء المدينة.
بعد مجازر الساحل (بدأت في السادس من مارس/آذار الماضي)، أمسك المحامي علي نصّور يد ابنه الوحيد (تسعة أعوام)، الذي أنجبه بعد عشر سنوات من الزواج، وحمل الكفن، وسار بهما باتجاه جامع أبو بكر الصديق في وسط المدينة. فعل ذلك بمبادرة فردية لإطفاء نيران "الخميس الأسود"، كما يصفه. اختار الجامع لرمزيته، فمنه صدحت أوّل صيحات الثورة في جبلة، حمل رسالة "محبة وتعزية وتبرؤ"؛ طلب عدم تحميل الطائفة وزر الجرائم، وأراد أن يقدّم التعازي للأمن العام، وتبرّؤ الأهالي من الجريمة، فقيل له (التقى مسؤولًا أمنيًا في المنطقة لم يسمّه) إنّ الوقت غير مناسب.
يقول إنّ الانقسام حادٌ في الساحل، ويشير إلى أنّه تعرّض لهجوم من أبناء طائفته بعد مبادرته، واتُهم بخيانة الطائفة، التي صارت منغلقة على ذاتها بعد المجازر "خوفٌ، وضياعٌ، وتشتت". يزيد من حدّة المشكلة ارتفاع وتيرة الخطاب الطائفي والتحريض: "الآن يسألون على الحواجز العسكرية، أنت شو؟" في إشارة إلى السؤال عن الطائفة.
في الأسابيع الأولى لسقوط النظام، واستلام فصائل الثورة ذات التوجّهات الإسلامية السلطة، خافت الأقليات من إمكانية تعرّضها لهجمات وحملات انتقام رغم طمأنة القيادة الجديدة، خصوصًا أنّ نظام الأسد بنى عقيدة حربه ضدّ شعبه على الفزّاعة الإسلامية المتطرّفة. "بعد مرور أشهر، ظنّينا أنّ العاصفة مرّت بسلام"، إلى أن وقعت الواقعة، يقول المحامي، عادت الطائفة إلى المربّع صفر، حتى الأصوات التي تدعو لمصالحة أهلية تُخمد من المتشدّدين، أو تُهدّد بالمقاطعة، كما حصل معه.
رغم مشهد الانقسام، يؤكّد أنّه خلال المجازر التي وقعت في جبلة "كان أهالي السنّة في حيّ جبيبات المختلط يحمون العلويّين من المسلّحين" الملثمين. ويرى المحامي أنّ المشكلة بدأت عند فصل الموظفين وحلّ الجيش؛ "معظم أبناء الطائفة يعملون في مؤسسات حكومية أو الجيش؛ هذه سياسة ممنهجة اعتمدها النظام السابق عقودًا، وحين يفصل كلّ هؤلاء سيتحوّلون إلى مجرمين". ثمّ يقول إنّ فلول النظام "يأخذون الطائفة برمّتها درعًا بشرية".
يشير إلى تجاوزات وانتهاكات لاحقة للمجازر من قبل عناصر الأمن، لكن الناس تخشى أن تتقدّم بشكوى "هناك خوف من الذهاب إلى المخفر، لا وجود لثقافة الشكوى ضدّ الأمني في بلادنا". يصف ما جرى بأنّه انقلاب فاشل، متحدّثًا عن أكثر من 36 ساعة من إطلاق نار متواصل بعد الكمين ضدّ حاجز الأمن، وبشتّى أنواع الأسلحة؛ رصاصٌ، ومدفعية، وقصفٌ جوّي.
على بعد عشرات الأمتار من تقاطع مروريّ وسط جبيبات؛ يقول الأهالي إنّ الجثث كانت مرمية قريبًا منه، والاشتباكات والقنص، وإعدام المدنيين، استمرّت أيّاماً، نتحدّث إلى ضابط في النظام السابق أجرى تسوية (س. ديوب)، مقيمٌ في المنطقة. يقول إنّ "المسلّحين الملثمين"، وهيئات بعضهم أجنبية (فرّقهم من الشعر الطويل، واللهجة، مع العلم أنّ إعفاء اللحى والشعر ملاحَظة عند كثير من العناصر الأمنيين الذين التقيناهم في المحافظات، خصوصًا الناشئين منهم)؛ كانوا يتقصّدون دخول المنازل التي يسكنها علويون أثناء الأحداث. تؤكّد زوجته الواقفة إلى جانبه حديثه، مشيرة بيدها إلى البناية التي يسكنانها.
يشير الضابط إلى أنّ فوجاً من القوّات الأمنية كان يبحث عن مطلوبين وأسلحة في وقت سابق، ويفتش المنازل من دون التعرّض للأهالي. لكن لاحقًا، دخل مسلّحون ملثّمون إلى منزل جيرانه، واعتدوا عليهم وسرقوا هواتفَ وأموالًا. غضب الرجل ظاهرٌ، يتحدّث عن أنّ التطوّع في الجيش كان الخيار الوحيد لأبناء المنطقة، وسبيلًا للعيش، وبأنّ "الرؤوس الكبيرة فرّت" من البلد، ويكرّر موقفًا اجتمع عليه كلّ من التقيناهم: "طرد الموظفين وقطع أرزاقهم يحوّلانهم إلى مجرمين". يشتدّ غضبه: "فلول النظام صار الشمّاعة" للتضييق على أبناء المنطقة. ويخلص إلى أنّ "البلد بلدنا، لا نريد أن نضيّعه".
*******
على طول الشاطئ في جبلة، تتسابق قصور مسؤولي النظام السابق إلى الفخامة والأبّهة، وكأنّهم يحاولون إثبات شيء ما. يصحّح لنا زميلنا المراسل في جبلة: "هذه فلل؛ أمّا القصور، فلم تروها بعد". جميع قادة النظام السابق العسكريين والاستخباريين أبناء جبلة يملكون قصورًا فخمة ليست إلّا بيوتًا صيفية لهم؛ رئيس فرع الأمن السياسي في درعا عاطف نجيب (سفاح درعا) وقائد قوّات النمر سهيل الحسن وقائد قوات "الغيث" التابعة للفرقة الرابعة غياث دلا ورئيس المخابرات الجوية إبراهيم الحويجة، وغيرهم.
اعتُقل قادة كبار من النظام السابق خلال الأشهر الماضية، شأن عاطف نجيب وإبراهيم الحويجة وحيان ميا وسفاح صيدنايا محمد كنجو، فيما يظلّ آخرون طلقاء، وإليهم يُنسب تدبير الهجمات ونصب الكمائن ضدّ القوّات الأمنية والتي لحقت بها مذابح الساحل، أبرزهم دلا، والضابط في الحرس الجمهوري مقداد فتيحة. وكان دلا قد أعلن، قبل ساعات من الهجمات الأولى على النقاط الأمنية في الساحل، عن "المجلس العسكري لتحرير سورية"، فيما قال فتيحة إنّ هجومهم بدعم روسي، وإنّهم سينالون الاعتراف إذا صمد هجومهم أربعاً وعشرين ساعة. وراء القصور/الفلل في الشوارع الخلفية، تتوارى منازل الفقراء، فلا يُرى منها غير السماء، فأزلام نظام الأسد قد استولوا على إطلالة البحر أيضًا.
*******
تمدّ يدها إلى شجرة الإسكدنيا، تلتقط حبّتين وتعطينيهما، الثمرة ناضجة، والطعم حلوٌ زكيٌّ. يتوارى بيتها خلف قصر كان يملكه قياديّ فارّ في نظام الأسد، ويحرسه اليوم عناصر الأمن. تتوزّع في ساحة القصر الشاسعة سيّارت فارهة مصفّحة لا تزال في موقعها منذ سقوط النظام، بحسب ما يقول الحارس. أكثر من هذا لا نستطيع أن نرصد بسبب الإجراءات الأمنية.
تنادينا سيّدة في الجهة المقابلة لبيت الإسكدنيا، وتدعونا لاحتساء القهوة وتناول قطع من الحلوى المحشيّة بالتمر في باحة الدار التي تظلّلها أشجار اللوز. في المنزل سيّدة وزوجها وطفلة تتلصّص من النافذة على الغرباء في حيّهم. شهد الحيّ اشتباكات، لا يعرف ربّ المنزل ولا سيّدته شيئًا عنها وعن أطرافها، غير أنّهما وأفراد العائلة اختبأوا يومين كاملين، مقفلين باب الدار، وأصوات النيران لا تتوقّف. وحين طُرق الباب من مجهولين مرّة، لم يفتحوه. أثناء القعدة، تدخل الابنة آتية من عملها في مديرية الثروة البحرية، لا تبدو مرتاحة للغرباء في منزلهم، لكن بعد الجلوس تُطلق العنان لغضب مكبوت. تتحدّث عن الفساد المتعشعش في المديرية، والسرقات، والمحسوبيات، وتهميش الإدارة لها لأنّها "حاربت الفساد" قبل سقوط النظام، ثمّ تُثني على "جماعة إدلب" الذين يمسكون المديرية، وطريقة إدارتهم. و"جماعة إدلب" هو التعبير المصطلح شعبيًا للإشارة إلى المسؤولين الذين يتولّون مناصب رفيعة في الإدارات والمؤسّسات العامة، وليس بالضرورة أن يكونوا من محافظة إدلب. الابنة أرملة ضابط سوري، قُتل في معارك رأس العين، تدّعي أنّه تُرك لينزف عمدًا إلى أن مات. تقول إنّه سُجن شهرين لرفضه أمرًا عسكريًا باستخدام السلاح ضدّ المدنيين، وهذا ما أثار حنق رؤسائه عليه، فتخلّصوا منه. تنتقل إلى حديث الساعة، تقول إنّهم (لا تسمّيهم) يتّخذون أبناء الطائفة دروعًا بشرية، مشيرة إلى هجمات من داخل بيوت المدنيين: "لقد خسروا كلّ شيء، ويريدوننا أن نخسر معهم".
*******
قصّة قصيرة
اسمي مهنّد؛ علويٌّ من بلدة مصياف. كنت في دمشق، حيث أعمل نادلًا في النهار وسائق سيّارة أجرة مساءً، يوم وقعت المجازر في بلدتي. قُتل ثلاثة من أقاربي، أحدهم عامل بلاط، والثاني دهّان، والثالث طفلٌ في السابعة. دخل مسلّحون ملثمون إلى المنازل، اقتادوا الرجال للذبح، وتركوا النساء.
كنت قبل عملي هذا جنديًا في جيش النظام. لم نكن نملك الخيار إلّا أن نكون في الجيش، لا نملك أرضًا ولا مصنعًا. جميع أفراد عائلتي وأبناء بلدتي مثلي. نعم، شاركت في القتال مع جيش النظام، وكنت على الجبهات وفي الصفوف الأمامية، أنفّذ الأوامر. وأشتبك مع مقاتلين؛ كانت حربًا. الهرب أو الرفض لم يكن خيارًا. أغلب الضباط الكبار ومعهم قادة النظام فرّوا، وتركونا وحدنا. كنّا وقودًا لحرب النظام. أخذوني إلى الجبهة عبر التجنيد الإجباري قبل أكثر من تسعة أعوام، كان راتبي 27 ألف ليرة (دولارين ونصف دولار). بعد خمس سنوات، صار خمسين ألفًا، وبعد تسعة صار مئة وعشرين ألفًا (12 دولارًا). سرّحوني قبل أن أستحق التعويض بشهرين. كلّنا هكذا، نحن المجنّدون الإجباريون. كنّا نسرّح قبل موعد التقاعد المستحقّ، بعد أن يفرغوا منّا. أخبرنا النظام أنّ علينا القتال، لأنّ المتطرّفين يريدون رمينا نحن العلويين في البحر.
لم نذكر بعد أنّ عيني مهنّد تشبهان عينيّ العجوز عند البحر.