استمع إلى الملخص
- قامت إسرائيل بتوغلات عسكرية واحتلت قرى في المنطقة العازلة، مما أدى إلى اشتباكات مع السكان المحليين، وحاولت خلق بيئة صديقة عبر تقديم مساعدات إنسانية.
- التحركات الإسرائيلية تتماشى مع استراتيجياتها السابقة، حيث تسعى لتوسيع نفوذها إلى عمق 15 كيلومترًا داخل سوريا، مما يهدد بخلق منطقة نفوذ استخباري تصل إلى أبواب دمشق.
بعد ساعات من سقوط نظام بشار الأسد، في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو سقوط اتفاقية فصل القوّات الموقّعة إثر حرب 1973، وأمر جنوده بالتقدّم واحتلال المنطقة العازلة، لفرض واقع جديد على طول ثمانين كيلومترًا من المنطقة الحدودية الفاصلة والممتدة من جبل الشيخ شمالًا إلى ريف درعا جنوبًا، منهيًا بذلك خمسة عقود من السلام الصامت بين إسرائيل وسورية.
بدأت إسرائيل "ترتيبها الجديد"، مدفوعةً بجنون التفوّق الذي حققته على عدّة جبهات؛ فطالما أنّها قادرة على النجاة من حرب إبادة وتغيير المعادلات في المنطقة، لمَ لا تتقدّم نحو قضم المزيد من الأراضي؟ ليس صعبًا تخمين نيّات إسرائيل، فقد صار بيّنًا أنّها تتطلّع إلى التوسّع وضمّ الأراضي المحتلّة، وفرض هيمنة أُحادية، ماذا يترك كلّ هذا لسورية الجديدة شعبًا وقيادة؟ خياران؛ المواجهة أو المواجهة. وبما أنّ السلطة الجديدة غير قادرة حاليًّا على هذا، ولا راغبة أيضًا، قد تصير المواجهة عبر المقاومة الشعبية خيارًا.
خلال فترتين متباعدتين؛ الأولى في الأسبوع الرابع من سقوط النظام، والثانية في الشهر الرابع منه، جُلنا في مناطق حدودية. بدأنا من القنيطرة وانتهينا في ريف درعا الغربي، لرصد تحرّكات إسرائيل، ومحاولاتها في خلق وقائع جديدة.
بدأ الاجتياح من المنطقة العازلة، فاحتُلّت في غضون ساعات، قبل أن تتوغّل قوّات الاحتلال باتجاه القنيطرة، متقدّمةً خمسة إلى عشرة كيلومترات عن خطّ وقف إطلاق النار خلال الأسابيع الأولى. واحتلّت ثلاث قرى محاذية للخطّ على الأقلّ عبر نصب حواجز عسكرية فيها ومنع السكّان من الدخول والخروج، بحسب ما قال لنا الأهالي يومها، وكانت دبابابتها حين وصلنا إلى المنطقة في الأسبوع الرابع من سقوط النظام، تتمترس عند مشارف مدينة السلام (البعث سابقًا) التي تبعد أقلّ من 2 كيلومتر عن خط وقف إطلاق النار. رافقت التوغّلات عمليات تجريف أراض، وحفر خنادق، وبناء سواتر ترابية، ونصب حواجز عسكرية، ونقاط رصد ومراقبة، خصوصًا في التلال والمواقع المرتفعة. انسحبت قوّات الاحتلال بعد شهرين من مدينة البعث بعد أن عاثت خرابًا في مبنى المحافظة والمحكمة، حيث تمركزت قوّاتها، فيما واصلت توغّلاتها في البلدات المحاذية للشريط العازل، معزّزةً الحواجز العسكرية.
احتلّت إسرائيل القنيطرة بعد حرب 1967، قبل أن تستعيدها سورية مدمّرة ومهجّرة وحدها بدون الجولان بعد حرب 1973، لكنّها بقيت منطقة منزوعة السلاح، بموجب اتفاقية فصل القوّات (1974). وتنصّ الاتفاقية على أن تكون القوّات الإسرائيلية غربي خط وقف إطلاق النار (أ)، والقوّات السورية شرقي الخط (ب). وتقع منطقة القنيطرة، غربي الخط (أ-1)، ولا توجد قوّات عسكرية بين الخطين (أ) والخط (أ-1)، فيما تكون الأرض شرقي الخط (أ) تحت الإدارة السورية، أمّا منطقة الفصل، فمحدّدة بين الخطين (أ) و(ب).
وتبلغ المساحة الفاصلة بين الخطين، والتي احتلتها إسرائيل مع سقوط النظام، 235 كيلومترًا، بطول 80 كيلومترًا، وعرض يبدأ من 200 متر جنوبًا ويتّسع حتى 10 كيلومترات وسطًا وشمالًا. وإضافة إلى منطقة الفصل التي تتمركز فيها قوات الأمم المتحدة "أندوف"، يقرّ الاتفاق منطقتين متساويتين لتحديد الأسلحة والقوات. وقد لاحظنا خلال توجّهنا من ريف دمشق إلى القنيطرة، اختفاء آثار النقاط والآليات العسكرية للجيش السوري، كلّما اقتربنا أكثر من الشريط الحدودي. وبحسب ما علمنا من جنود سوريين كانوا يتجمهرون أمام مركز لتسوية أوضاعهم وتسليم سلاحهم في القنيطرة بعد سقوط النظام، أنّهم كانوا يتوزّعون في نقاط محدودة داخل تجمّعات مدنية، ويحملون أسلحة فارغة من الرصاص.
خلال سنوات الثورة، حاولت إسرائيل التدخل، ولو بشكل محدود وبأساليب ناعمة في مناطق الشريط الحدودي، بغرض خلق بيئة صديقة خصوصًا بعد سيطرة فصائل المعارضة (وبينها الجيش الحرّ وجبهة النصرة) على القنيطرة وريف درعا الغربي المحاذيَين، وهو ما أدّى لاحقًا إلى تعليق عمل القوّات الدولية في المنطقة الفاصلة "أندوف". وأطلقت إسرائيل في محافظة القنيطرة عملية أسمتها "الجار الطيب" في محاكاة لسياسة "الجدار الطيب" في لبنان، خلال الحرب الأهلية، حين تقرّبت من فصائل مسيحية وأرسلت إليها السلاح، قبل أن تنشئ لاحقًا مليشيا لحد في الجنوب (أكتوبر1976).
غير أنّ عمليتها في القنيطرة لم تتطوّر إلى إنشاء مليشيات، فقد بدأت بتطبيب جرحى مدنيين ومسلّحين، وتقديم مساعدات إغاثية، ثم وصلت إلى دفع رواتب مرتفعة لمسلّحي فصيل من بضع مئات يسمّى "فرسان الجولان"، الذي انحلّ بعد سيطرة نظام الأسد على المحافظات الجنوبية كاملة بدعم روسي وإيراني عام 2018. وتعهّدت روسيا حينها، بإبعاد مليشيات إيران وحزب الله عن الحدود.
لم تقع مواجهات مباشرة بعد في ريف القنيطرة بين القوّات المتوغّلة والأهالي، على خلاف مناطق ريف درعا الغربي، حيث وقعت اشتباكات بين مواطنين سوريين مسلّحين وقوّات الاحتلال؛ في حدث غير مألوف سوريًّا. وإلى تلك المنطقة، وتحديدًا مدينة نوى في درعا، سنتّجه بعد أيّام من سقوط تسعة شهداء في قصف إسرائيلي، وصفه الأهالي بأنّه "اشتباك مباشر دفاعًا عن أرضنا".
نواة مقاومة
على بعد أمتار من سدّ الجبيلية في بلدة نوى بريف درعا الغربي، تمركزت قوّة إسرائيلية في بناء فارغ من طابق واحد وسط منطقة زراعية، قبل أن تُجبر على الانسحاب بحماية رتل من المروحيات والدبابات، بعد اكتشافها من أهالي نوى. ما عثرنا عليه في البناء من مخلّفات طعام معلّب وسكاكر ولوحة زهر وشطرنج، يدلّ على أنّ القوّة مكثت في المكان لفترة. على أحد جوانب لوحة الزهر والشطرنج، حروفٌ عبرية ירין דלל Y.D، وترجمته "يارين دلال"، يبدو أنّه اسم صاحب اللوحة.
من سطح البناء، يطلّ علينا الجولان المحتلّ؛ أراضٍ زراعية خصبة تتوزّع فيها عَنفات هوائية، يعلوها تلّ الفرس، وفي قمّته تظهر بالعين المجرّدة منشآت للرصد والرقابة، وتتصل به سلسلة تلال منخفضة. تتقدّم التلال على طول خط وقف إطلاق النار تجمّعات سكّانية لقرى الشجرة، وعين ذكر، وسحم الجولان، وكويا. بعيدًا عن سفوح تلال الجولان وقممه نمدّ النظر شمالًا، فيتراءى لنا جبل الشيخ (جبل حوران) بقممه الأربعة ملفوحًا بالبياض، والذي احتلته إسرائيل كاملًا بُعيد سقوط الأسد. يتجاوز ارتفاع أعلى قمم الجبل 2800 متر، ويكشف مثلثًا حدوديًّا يمتد إلى جنوب شرقيّ لبنان، ما يعدّ نقطة استراتيجية لإسرائيل، جعلت منه أهمّ مركز للرصد والتجسّس، حين احتلّته بعد حرب 67، فيما بقي جزؤه الشرقي تحت السيادة السورية (مساحة 80 كلم من ألف كيلومتر هي إجمالي مساحة الجبل).
المنطقة المحيطة بالبناء زراعية بالكامل، وتظهر فيها مراعٍ للماشية، يقول أهالٍ من المدينة التقيناهم لاحقًا بأنّها مقصدٌ للمتنزّهين. نتقدّم داخل المنطقة الزراعية كيلومترات قليلة نحو المكان الذي سقط فيه تسعة شهداء باستهداف مباشر من المروحيات الإسرائيلية. في المكان أثرُ مجزرة؛ أحذية وحاجات شخصية ممزّقة، ورصاصات فارغة تشي بوقوع مواجهة. يشرح مسؤول أمنيّ ما جرى: رصد مزارعون توغّل قوّة إسرائيلية في أراضيهم؛ فسارعوا للتصدّي واتّصلوا بالأهل والجيران مستغيثين. لبّى شبيبة من القرية نداء الفزعة حاملين أسلحة خفيفة؛ بعضٌ هرع راكضًا، وآخر ركب درّاجات نارية. رصدتهم قوّات الاحتلال، واستهدفت مجموعة منهم بصاروخ من مروحية.
ويشير إلى أنّ رتلًا من القوّات الإسرائيلية معزّزٌ بآليات ومروحيات عسكرية تقدّم من جبيلية على بُعد أربعة كيلومترات، لتخليص "القوّة المحاصرة" من الأهالي، قبل أن يستهدف الشباب. وشاركت في التوغّل أكثر من 40 آلية عسكرية وثلاث مروحيات. الرواية التي عرضها علينا الأمني تتقاطع مع حديث والد أحد الشباب الضحايا، يقول إنّه فقد ثلاثة من أبنائه، اثنين في قتال نظام الأسد، والثالث في صدّ الاعتداء الإسرائيلي، ويضيف أنّ ابنه (21 عامًا) تلقى اتصالًا من أبناء جيرانه يطلبون النجدة بعد حصارهم من قوّة إسرائيلية، فحمل سلاحه مع شباب من المدينة وسارعوا إلى المكان، لكن قوّة إسرائيلية رصدتهم.
العناصر الأمنية التي رافقتنا إلى المنطقة، كانت من حمل جثامين الشباب بعد الانسحاب الإسرائيلي. على مشارف مركز أمني يطلّ على سوق شعبيّ في نوى، يخبرنا المخوّل بالتحدّث للصحافيين بأنّ الأهالي أطلقوا على الضحايا لقب "شهداء السنوار"، وبأنّ ما جرى كان هبّة دفاعية تلقائية ردًّا على التوغّل والاستفزاز، ومنع الأهالي من الوصول إلى زرعهم، وسرقة أغنامهم (سرقت قوّات الاحتلال 70 رأس غنم) "الجميع هنا مسلّح، الشيخ، والشاب، والصغير؛ وحين تُحتلّ أرضهم، سيهبّون بالغريزة دفاعًا. هناك دروس قديمة وجديدة تعلّمناها، نرى ماذا يفعلون في غزّة (في إشارة إلى حرب الإبادة). لن نترك أرضنا لهم".
يرصد الأهالي أكثر من 50 توغّلًا إسرائيليًّا في منطقة درعا وحدها منذ ديسمبر/كانون الأوّل 2024، أعمقها وصل إلى سبعة كيلومترات. يترافق ذلك مع عمليات مماثلة لما يجري شمالًا من تفتيش للمنازل وتجريف أراض وشقّ طرق وحفر خنادق، وتشييد نقاط محدّدة ثمّ الانسحاب وإعادة التموضع. ومما يسرّب إسرائيليًّا، يبدو أنّّ هناك مخططًا لتوسيع منطقة السيطرة إلى عمق 15 كيلومترًا، وخلق منطقة نفوذ استخباري حتى 60 كيلومترًا، يعني إلى أبواب دمشق.
في وسط مدينة نوى التي يقترب عدد سكّانها من مئة ألف على مساحة 22 كيلومترًا مربعًا، تُنصب بيوت العزاء عند ذوي الشهداء، إلى جانب بيت عزاء مركزي، تأتيه وفود من القرى المجاورة القريبة والبعيدة، تسارع الخُطى على وقع هتافات التكبير و"لبيك يا شهيد". قد يتجاوز عديد الوفد الواحد ألف شخص، بحسب ما رصدنا أثناء وجودنا أمام خيمة العزاء بعد أسبوع من الحادثة. يؤدّي الوفد الذي يتصدّره وجهاؤه، واجب العزاء، قبل أن تُلقى كلمات على مكبّر نُصب وسط الساحة، ترثي الشهداء، وتشدّد على المقاومة. ظلّت الوفود تتسابق إلى نوى لأكثر من أسبوع، جاءت من حلب وحماة ودمشق وريفها واللاذقية وإدلب وطرطوس ودير الزور، وغيرها من المحافظات، يتقدّمها وجهاؤها.
المشهد في نوى، لم يختلف عن قرية كويّا، التي تبعد 30 كيلومترًا في أقصى الجنوب الغربي، فالثانية قد سبقت الأولى إلى الاشتباك مع القوّات الإسرائيلية بأسلحة خفيفة، عند تصدّي شبابها لعمليّات توغّل. واستُشهد وقتها سبعة وأصيب آخرون.
بين الليلة والبارحة
تتقاطع تحرّكات إسرائيل في سورية والمنطقة عمومًا اليوم، مع الفترة التي سبقت حرب 67؛ وقتها، صعّدت اعتداءاتها إلى أن استولت على أراضٍ عربية، لا تزال تحتلها، واليوم تصعّد لتثبيت احتلالها وقضم المزيد من الأراضي. فبعد حرب 48 وتوقيع اتفاق الهدنة (1949)
، ثُبّتت حدود مؤقتة لإسرائيل مع سورية وأُنشئت منطقة منزوعة السلاح بمحاذاة سهل الحولة، وبحيرة طبريا، وفي القنيطرة. غير أنّها عملت على خلق وقائع تفتح الطريق أمامها نحو السيطرة على مواقع استراتيجية؛ فراحت تهاجم بين الفينة والأخرى القوّات السورية المتمركزة عند بحيرة طبريا، وترسل جنودًا إسرائيليين متنكّرين فلاحين إلى المناطق السورية لاحتلال مناطق. ومع حلول 1960، كانت قد أمّنت سيطرتها التامة على بحيرة طبريا وبدأت تنفيذ مشروع الناقل القُطري، لجرّ مياه البحيرة إلى صحراء النقب والسيطرة على روافد نهر الأردن. ثم راحت تمهّد لحرب موسّعة، وصعّدت تحرّشاتها، وهدّدت بغزو دمشق واحتلالها، فاستفزت مصر. نشبت الحرب (1967)، واحتلت إسرائيل، القدس والضفة وسيناء وشرم الشيخ، ومعظم الجولان (1200 كلم مربع من إجمالي 1860)، والقنيطرة، ثمّ استولت على جبل الشيخ. وفي المحصلة، خسرت سورية المناطق المنزوعة السلاح التي أُنشئت في عام 1948.بعد نكسة 67، خططت سورية سرًّا مع مصر للحرب، وباغتتا إسرائيل في السادس من أكتوبر. خلال ثمان وأربعين ساعة، كانت القوّات المصرية قد عبرت قناة السويس، وسيطرت على خط بارليف. على الجبهة السورية، استعادت القوّات القنيطرة وهضبة الجولان كاملةً وجبل الشيخ، وتقدّمت نحو سهل الحولا ومشارف بحيرة طبريا. قبل أن تتوقف مصر عن القتال للتفاوض. بدأت إسرائيل عندها هجومًا معاكسًا، فاحتلت الجولان والقنيطرة وراحت تهدّد دمشق. توقفت الحرب في 16 أكتوبر (القرار 338). وانسحبت إسرائيل من مواقع احتلتها، لتستعيد سورية فقط 100 كيلومتر مربّع ضمنها القنيطرة، بموجب اتفاق فصل القوّات الذي أخرجه هنري كسينجر، صديق إسرائيل، الذي لم تعرف له مثيلًا. يقول باتريك سيل عن الاتفاق "نجح كسينجر في جعل سورية شرطي حدود (عبر منع هجمات الفدائيين)". دخلت سورية بعدها مرحلة لا سلم ولا حرب، لأكثر من نصف قرن، ظلّت تتأرجح خلالها بين جولات معلنة وأخرى سرّية من مفاوضات السلام.