استمع إلى الملخص
- القيادات الدينية والعسكرية في السويداء، مثل الشيخ حمود الحناوي وحركة رجال الكرامة بقيادة يحيى الحجار، ترفض أي طروحات تقسيمية وتؤكد على الوحدة الوطنية، مع توجيه بوصلتها نحو دمشق.
- السويداء تواجه تحديات أمنية معقدة وتدخلات خارجية، خاصة من إسرائيل، مع تفاؤل حذر بإمكانية تحسين الوضع عبر تعزيز الثقة بين الحكومة والشعب.
"ليس هنالك درزي وسنّي وعلوي وشيعي ومسيحي، ليس هنالك إلا أبناء أمة واحدة وتقاليد واحدة ومصالح واحدة ليس هنالك إلا عرب سوريون"
سلطان باشا الأطرش
صعبٌ أن تدخل جبل حوران، الاسم الجغرافي والتاريخي لجبل العرب، دون استعادة تاريخه البعيد والقريب، فسلطان باشا الأطرش يطلّ عليك من البوابة، وحكايات رفاقه في الثورة السورية الكبرى ضدّ الفرنسيين عام 1925، وثوّار الجبل ضدّ العثمانيين خلال القرون الماضية، سترافقك في كلّ حارة ومنزل ومضافة تُدعى إليها. وهذا التعلّق الذي يبديه الأهالي بتاريخهم ورموزهم الوطنية، قد يكون المفتاح لإجهاض طروحات التقسيم وقطع الأيادي الإسرائيلية. وفي لقاءاتنا مع قيادات دينية وعسكرية وناشطين في المحافظة، سنلاحظ أنّ التيار الذي تتجه بوصلته نحو دمشق يمثل الغالبية، وينطلق في موقفه هذا من تاريخ أهله الوطني والعروبي.
الحناوي: التقسيم ليس في ثقافتنا
دبيب الجوفيات أمام دارة القنوات، مقرّ الشيخ حكمت الهجري، والإنشاءات الخدميّة في مقام عين الزمان، مقرّ يوسف جربوع، يتلاشيان أمام مضافة سهوة البلاطة عند شيخ العقل حمود الحناوي. هنا، المقرّ أبسط وأكثر روحانية، حتى حديث الشيخ معنا كان أقرب إلى درس توجيهي منه إلى موقف سياسي واضح حادّ. لا يعارض الحكومة الجديدة، لكن أيضًا لا يكيل لها دعمًا واضحًا. مع هذا، يشير إلى ضرورة إعطاء فرصة للقيادة الجديدة "الحكم ملح الأرض ويحتاج لإعطاء فرصة؛ إذا أحسن، فنحن داعمون، وإذا لم يحسن، نتواصل في النصح والإرشاد والإصلاح"، مع ثناء على الخطوات الأولى التي قامت بها الحكومة "تبشّر بالخير"، ويؤكّد أنّ الشعب السوري وسطيّ غير متعصّب ولا طائفيّ. وعند الحديث عمّا يشاع عن طروحات التقسيم، ينتفض رافضًا "التقسيم لم يدخل في ثقافتنا، وننظر إلى الشعب السوري من ناحية الوحدة الوطنية".
تستعيد طروحات التقسيم مشاريع الانتداب الفرنسي، الذي قسّم سورية إلى عدّة دويلات، فأنشأ دولة جبل الدروز، ودولة جبل العلويين (بين عامي 1921 و1936)، وهما دويلتان رفضهما قادة الثورة السورية الكبرى، وفي المقدّمة سلطان باشا الأطرش وصالح العليّ، مطالبين بسورية موحّدة مستقلّة.
نستعيد مع الحنّاوي لحظات سقوط نظام بشار الأسد. يكشف لنا أنّه قبل السقوط بثلاثة أيّام، اتصل به قائدا المعسكرين الشرقي والجنوبي، وقالا له "نحن بحمايتكم"، عندها أدرك أنّ أمرًا ما سيقع، فهذا لا يكون إلا نذير شيءٍ عظيمٍ. نهض في الليل، وكتب بيانًا صغيرًا وجّه فيه نداءً إلى الأهالي بالحفاظ على الأملاك العامة والهدوء، وعند الرابعة فجرًا في اليوم التالي، بدأت الاتصالات وعلموا بسقوط الطاغية. "كنّا نتوقّع ذلك، لكن لم نتوقّع أن يجري بهذه السرعة"؛ وهل فرحت يا شيخ؟ "شعوري لحظتها أنّ دوام الحال من المحال، ولو دامت لغيرك لما آلت إليك؟". لم يؤيّد الحنّاوي الثورة السورية، لكنّه أيضاً لم يكن منحازاً للنظام كما كان شيخَا العقل الآخران جربوع والهجري في فترات عديدة. كان أقرب إلى الحياد الدفاعي، وهو الموقف الغالب في المحافظة خلال فترة الثورة.
انفعل شيخ العقل مرّة عند الحديث عن التقسيم، وثانيةً عند الحديث عن التدخل الإسرائيلي في الشأن الدرزي عبر الإعلان عن حماية الدروز، مؤكدًا "نحن وطنيّون ملتزمون بالقضايا العربية والإسلامية والإنسانية، لا نقبل التعامل مع أي جهة معتدية". وعن زيارة الوفد الدرزي إلى الجولان، أكّد "نحن لم نعلم بها مسبقًا، ولم نسأل عنها"، نافيًا "أي مشاركة من أهالي المحافظة بها"، مشيرًا إلى أنّ "الذين ذهبوا هم أبناء الجولان السوري المحرومون من أراضيهم. ذهبوا لرؤية أهلهم، وهل هذه جريمة؟".
يستطرد للحديث عن تاريخ الدروز وثوراتهم خلال حقبات مختلفة ضدّ السلطنة العثمانية وصولًا إلى الثورة العربية الكبرى ضدّ الفرنسيين، ورفضهم الدولة الدرزية المستقلّة، وإصرارهم على سورية موحّدة، فـ"كيف نُوضع بقفص الاتهام؟".
قبل أن نُنهي حديثنا معه، يدخل أحد الشيوخ المرافقين له حاملًا لوحة كبيرة عليها رسمٌ لشيخ على صهوة فرس أبيض يهاجم فوهة مدفع، يقول لنا "هذا جدّي أبو علي قسّام الحناوي، أحد قادة الثورة ضدّ العثمانيين في القرن التاسع عشر". نسأله: هل تعلم ماذا قال ضابط فرنسيّ عن قتال أهل جبل العرب ضدّ الاستعمار؟ كان اسمه بينيت دوتي، شارك مع القوات الفرنسية في معركة المسيفرة (1925)، التي فتحت الطريق أمام القوات الفرنسية لاحتلال السويداء، كتب عن الثوار "لقد رأيت أولئك الجبليين المتعصبين يتقدمون نحونا وفي أجسادهم عدد من الإصابات من رصاصاتنا، يتقدمون ليموتوا فوق أسلاكها الشائكة… تقدم أولئك الشيوخ قصيرو القامة الغريبة المظهر بلحى مشعشعة طويلة كأنهم أرواح سحرية من عالم غير عالمنا، ظلوا يتقدّمون نحو أسلاكها الشائكة، ومن ثم وبحركة واحدة راحوا يقفزون من فوقها. وفجأة سقطوا جميعًا دفعة واحدة. كانوا يحملون في أجسادهم عددًا من الإصابات برصاصنا منذ اللحظة التي انطلقوا فيها".
تدبّ الحماسة في سيماء شيخنا الذي يبلغ من العمر 72 عامًا، فيردّ السؤال بالسؤال، والحكاية بالحكاية، وهل تعلمين ماذا فعل جدّي الأكبر في معركة قراصة (1887)؟ لقد قفز نحو المدفع ونزع عمامته، وسدّ بها الفوهة. لم يقف مشايخ العقل الثلاثة إلى جانب الثورة السورية، يقول الحناوي عن ذلك بأنهم لم يريدوا الدخول بالاقتتال الأهلي، "فوقفنا على الحياد وتوسّطنا لوأد الفتنة حقنًا للدم السوري".
قائد رجال الكرامة مع دمشق لكنه لن يسلّم السلاح
تختفي الحواجز الأمنية الحكومية في السويداء، على خلاف بقية المحافظات (باستثناء شمال شرق البلاد، حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية). فالأمن لا يزال بيد الفصائل المحلّية، والتي صدّت، بدعم من المرجعيات الدينية، وأوّلهم حكمت الهجري، دخول أيّ قوّات حكومية إلى المحافظة. يصعب تخمين العدد الدقيق لهذه الفصائل، وحين طرحنا السؤال على قادة فصائل بارزة ومرجعيات دينية في الجبل، اكتفوا بالقول إنّها تكاثرت كالفطر بعد سقوط نظام الأسد، بحيث صار كلّ بضعة أنفار يشكّلون تنظيمًا مسلّحًا، خصوصًا بعد الاستيلاء على أسلحة القطع العسكرية للنظام.
وكانت كبرى الفصائل المسلّحة قد شكّلت في يناير/ كانون الثاني الماضي مجلس شورى عسكرياً، هدفه التنسيق مع دمشق لحلّ مشكلة دمج الفصائل في وزارتي الدفاع والأمن، لكن لا يظهر أيّ تقدّم في هذا الملفّ حتى اللحظة.
قبل سقوط النظام، كانت المجموعات المسلّحة محصورة بثلاثة تشكيلات أساسية، أكبرها حركة رجال الكرامة، بقياد يحيى الحجّار (الشيخ أبو حسن)، وأحرار جبل العرب بقيادة الشيخ سليمان عبد الباقي، الذي يعدّ الأقرب إلى القيادة الجديدة في دمشق حاليًا ومبعوثها إلى الفصائل. انصبّ اهتمام هذين الفصيلين خلال السنوات الماضية على حماية الجبل. إضافة إليهما، كانت هناك تشكيلات متفرّقة أسّس بعضها ودعمها النظام السابق وإيران، وتورّطت بالخطف وتجارة المخدرات والسلاح، خصوصًا في ظلّ قرب المحافظة من الأردن، حيث تنشط في المناطق الحدودية الجردية عمليات تهريب الكبتاغون والسلاح نحو المملكة. وإلى هناك سنتجّه لنلتقي قائد حركة رجال الكرامة الشيخ يحيى الحجار (أبو حسن).
تصطف على جانبي الطريق نحو قرية شنيرة القريبة من الحدود جداول الزيتون وحقول العنب، الذي تصنع منه المحافظة نبيذها المعتّق، وتخصّص له مهرجانًا سنويًا. وبين مدينة السويداء وشنيرة، سنمرّ ببلدة الكفر، حيث يطلّ علينا تل قليب، وهو جبل مرتفع كان يشعل فوقه أهل الجبل النار إذا أحسّوا بخطر محدق بهم، ليراها إخوانهم في جبل الشيخ فيفزعون لهم. في مضافة بيت جبليّ عتيق، وسط صمت القرى الذي يقطعه مواء القطط وثغاء الغنم، نلتقي ابن الجبل أبو حسن، واللقاء الذي حجزنا له نصف ساعة وبعضَ القليل، سيمتدّ لساعة ونصف الساعة.
تعدّ حركة رجال الكرامة أكبر فصيل عسكريّ في المحافظة وتقدّر عناصره بالآلاف "بينها مجموعات سرّية تظهر بالمظهر المدني"، بحسب زعيمه، وأكثرهم تنظيمًا، ومن ضمن الأقرب إلى التحرّك الثوري في سورية، منذ تأسيسه من قبل الشيخ الثائر أبو فهد البلعوس، الذي اغتاله النظام السوري في تفجير عام 2015.
بدأ رجال الكرامة نشاطهم في عام 2012، لكنّه لم يكن منظمًا. أسّس الشيخ أبو فهد البلعوس الحركة، ثورةً ضدّ حكم دكتاتوريّ جثم على صدور السوريين لأكثر من 54 عامًا، خصوصًا في ظلّ سطوة وفيق ناصر، قائد الأمن العسكري في درعا، الذي "أبدع في زرع الفتنة والفساد بيننا وبين أهلنا في درعا"، على حدّ وصف الشيخ يحيى.
حين بدأت الحركة نشاطها، كان عناصرها ثلّة يعدّون على أصابع اليد الواحدة "لأنّ الخوف الذي زرعه النظام منع أبناء المنطقة من رفع الصوت". بين عامي 2013 و2014، تقصّدت الحركة اعتماد نظام البيارق في تشكيلاتها العسكرية، وهو تقليد حربي قديم في جبل العرب، عُرف خصوصًا خلال الثورة السورية الكبرى ضدّ الانتداب الفرنسي.
في مرحلة متقدّمة، أطلق أبو فهد دعوته بتحريم الدمّ السوري على السوري، وأعلن رفض التجنيد. كيف نفّذ ذلك؟ في البداية، منعت الحركة دخول البيوت والقبض على مجنّدين، ثمّ أُعلن عن حُرمة دخول البيوت "من العنات إلى الثورة"، أيّ من أوّل ضيعة في الجبل إلى آخرها. وكان هناك أكثر من 40 ألف متخلّف عن الجيش. وشمل قرار أبو فهد محافظة درعا، كما يقول قائد حركة الكرامة. وعلى أثر هذا التصعيد، خطط النظام لاغتيال أبو فهد على طريق الجبل، ونجح بذلك. كان الشيخ أبو حسن حينها في المستشفى الذي تعرّض لتفجير ثانٍ عبر سيارة مفخّخة.
تولّى الحجار قيادة الحركة بعد أبو مسعود البلعوس، وأعاد تنظيم صفوفها بعد مرحلة من الانقسامات. ظلّت الحركة على معارضتها لنظام الأسد. واكتشفت في التقارير الاستخبارية التي انفضحت بعد سقوط النظام أنّه يدلّل على عناصرها بـ"العميل الإرهابي".
يستحضر زعيمها هجوم "داعش" 2018، ويستدلّ به للإشارة إلى استبسال أبناء الجبل في ردّ العدوان عبر "جيش الفزعة" الذي شُكّل حينها عفويًا من خمسين ألف مقاتل. يكشف أنّ حركته رصدت قبل ذلك الهجوم تحرّكًا لنقل عناصر داعش بحافلات تابعة لنظام الأسد من مخيم اليرموك إلى المشرّف، ما يدلّ على أنّه هجومٌ مدبّر. ويضيف دليلا ثانيا يتمثّل في تهديد مستشارة الأسد لونا الشبل، ابنة السويداء، لأهالي منطقتها بأنّهم إذا لم يرسلوا أبناءهم إلى الجيش، فإنّ داعش قد يهاجمهم، ما يشير إلى تعامل واضح بين النظام وداعش. يضيف أن "داعش صديق النظام. لم تُسجّل معركة قوّية مع النظام، ما يدلّ على ترابط بينهما قولًا واحدًا. داعش كان العصا التي يضرب بها النظام". لكن هذا لا يعني أنّ حركة رجال الكرامة لم تتعامل مع نظام الأسد "فتحنا خطوطًا معه لإطلاق أبنائنا الموقوفين".
ماذا عن تسليم السلاح وحلّ الحركة؟ يجيب إنّ الرئيس السوري أحمد الشرع وجّه دعوة إلى رجال الكرامة وغيرهم من الفصائل، لحلّ الفصائل. لكن "السلاح وُجد للدفاع، فإذا تأمّن عندها نسلّم الثقيل منها". يضيف "سلاحاتنا متل قمحاتنا، لن نسلّمها. نحن جاهزون لتسليم السلاح الثقيل الذي غنمناه من النظام، لكن سلاحنا الذي جلبناه نحن والناس التي فزعت لنا به، لن نسلّمه". كما أنّ المرشحين من أبناء السويداء للأمن العام سيكون دورهم في المحافظة حصرًا وليس في بقية المحافظات، وهو موقف يتقاطع مع غالبية القيادات الدينية والعسكرية. ويرى أنّ ما جرى في الساحل والفوضى الأمنية لا تشجّع على تسليم السلاح، ومعالجة المشكلة قد تتطلّب سنوات.
يدعو أبو حسن إدارة الشرع إلى أن "تحبّب الناس فيها، نحن في مرحلة خوف. لا توجد ثقة". ويزيد من الطين بلّة: "التاريخ غير المشجع للهيئة. الناس لم يتقبلوها بعد، لا يزالون ينادون العناصر الأمنية (المندمجين في وزارتي الأمن والدفاع) بالهيئة"، وفي هذا إشارة من الشيخ لاحظناها خلال وجودنا في سورية على فترات متباعدة. يقول إن "مجزرة الساحل ضيّعت كلّ الشغل السابق للحكومة. حالة واحدة لم يقدروا على السيطرة عليها؛ هذا أفقد الثقة"، ودعا إلى محاسبة المعتدين في مجازر الساحل ومعالجة الانتهاكات لحلّ مشكلة انعدام الثقة.
إلى نتنياهو قولاً واحداً: لا نريد حمايتك
يؤكّد الحجار أنّ توجّه حركته هو "دمشق قولًا واحدًا؛ وتاريخنا عروبي. التقسيم مرفوض". ماذا عن التدخّل الإسرائيلي في الشأن الدرزي؟ "نحن لا ننكر تواصلنا مع أهلنا في فلسطين، في صلة قرابة وعلاقة مصاهرة. لكن علاقتنا مع السلطة الإسرائيلية صفر". ولا يُخفي تخوّفه "من التدخل الإسرائيلي، في ظل طروحات (رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين) نتنياهو". ويعرب عن تصوّره بأنّ الأخير "أصبح قوّة في المنطقة، والحكومة السورية الجديدة اليوم ليست جاهزة لفتح حرب جديدة مع إسرائيل، كما أننا لا نتمنى وقوع حرب بين إسرائيل وتركيا أو بين إسرائيل وإيران، لأن أي حرب جديدة ستكون ساحتها السويداء، ويبدو أن إسرائيل مستفيدة من حالة الفوضى، وتريد استمرار هذه الحالة". أمّا نتنياهو "سيئ الصيت"، فلا يدّعي حماية الدروز محبّة بهم، "ولكنّه يريد اللعب بورقة الأقليات، ونحن نقول له لا نريد حمايتك قولًا واحدًا".
رغم كلّ شيء، الفوضى الأمنية وغياب الثقة، فإنّ الشيخ متفائل: "الحكومة تحتاج وقتًا، وليس معها عصا سحرية لحلّ كلّ مشاكلنا". قال لنا إنه اتصل بوزير الزراعة الجديد (أمجد بدر، ابن السويداء) فور تعيينه، وطلب منه أن يعمل لأجل كلّ سورية، وليس من أجل السويداء فقط. وتمنّى أن تتوفّر له الفرصة بعد استعادة الأمن للعودة إلى حياته الأولى فلاحًا في أرضه، وراعيًا لقطيع من الغنم يملكه في القرية.
تحدّث الشيخ عن اللحظات الأولى بعد سقوط النظام، قال إنّه بعد اتضاح أمر السقوط، توجّهت عناصره إلى قطع عسكرية للنظام كانت مرابطة في السويداء وطلب من الضباط تسليم السلاح والانسحاب، مَن سلّم سلِم، ومن رفض وقاوم تعرّض لهجوم وسقط قتلى من الجانبين.
يكشف لنا الشيخ يحيى عن حادثة كان شاهدًا عليها عند سقوط النظام السوري وتوجّه فصائل الجنوب نحو دمشق. ينقل الرواية عن ابن عمّه، وهو مقاتل شاب في صفوف حركته. يقول إنّه ورفاقه وأثناء اقتحامهم المقرّات الأمنية والاستخبارية، توجّهوا إلى فرع فلسطين، وهناك عثروا على مستودع مليء بالسلاح، لكن ما كادوا يضعون أيديهم على الغنيمة حتى باغتتهم فرقة من اللواء الثامن الذي يقوده أحمد العودة. وطلب عناصر الفرقة من رجال الحركة أن يخرجوا فورًا بأسلحتهم الفردية الخفيفة، قبل أن يلاحظوا أنّ الكثير من الأسلحة والأوراق المهمة استولى عليها اللواء الثامن (التابع للفيلق الخامس). خلال الأيّام الماضية، جرى حلّ اللواء الثامن في درعا، في خطوة مهمة على طريق دمج الفصائل وتسليم أسلحتهم في محافظات الجنوب، فهل تُحلّ عقدة السويداء؟
في طلعة طريق فرعي في مدينة السويداء، بيتٌ يسكن كتفًا من الجبل، تُعرض في إحدى غرف أرضيّته أشغالٌ يدويّة بسيطة، يُعرف بها عادة أهالي الجبال، كالمخرّزات، والمزخرفات، والمطرّزات، والمحيّكات، والصابون البلديّ، وغيرها من اليديويات التي تصقلها أيادٍ ناعمة. يعجّ المعرض البسيط بأهالي المنطقة؛ طلابًا ومعلّمين وناشطين وصغار فلاحين. كثيرٌ من الحضور شارك في حراك السويداء، خصوصًا النساء اللواتي تصدّرن المشهد في ساحة الكرامة على مدى عام ونصف العام.
في داخل القاعة وساحتها الخارجية، يشكّل الحضور تلقائيًا مجموعات صغيرة. يتبادلون أطراف الحديث حول أحوال البلد، يحتدّ النقاش، وتتباين وجهات النظر قبل أن تعود وتلتقي. حسن الأطرش، مدرّس مادة الإحياء في إحدى مدارس الجبل، يرى أنّ حلّ مشكلة البلد يكون عبر الحياة السياسية الديمقراطية، ومفتاحها إنشاء الأحزاب. نظام الحزب الواحد خرّب الحياة السياسية. يتقدّم قليلًا نحو فتاة عشرينية مشيرًا بيده وموجّهًا حديثه إلينا، فتلتفت الفتاة وتقف له. يقول إنّها أكثر تلاميذه نباهةً، "استمعوا إليها". تخرّجت الفتاة حديثًا من كلّية الهندسة، وتقيم حاليًا في دمشق، وتنشط في الحزب الشيوعي السوري المؤسّس حديثًا، وتقول إنّها ورفاقها بدأوا العمل على تنظيم أنشطتهم للمشاركة في الحياة السياسية بفعالية.
على بُعد أمتار قليلة من المنزل المستضيف للمعرض، متحفٌ لمروان قاسم أبو خير، وهو أحد وجهاء المدينة، فيه مقتنيات قديمة جمعها في فترات متلاحقة، تعبّر عن عادات وتقاليد وبعضٍ من تاريخ أهل الجبل، بينها أدوات زراعية قديمة: حمّالة توضع على ظهر الجمل تسمّى "الشاغر"، ومطاحن ومحمصة (محماسي)، وأباريق قهوة عربية يسمّيها أهل القرى "مصبّات" وقناديل يسمّونها "لوكس"؛ تسميات يتشارك بها أبناء المنطقة من قرى الجبل والسهل خصوصًا. يدلّنا على صندوق أسلحة خشبيّ قديم، حوّله إلى خزانة للكتب "استبدلنا الرصاص بالكتب"، يقول منقّلًا نظرنا بإشارات من يديه بين أدواته القديمة. يحتفظ في متحفه الصغير أيضًا بأنبوب قديم يسمّى محلّيًا "بوري"، كان جزءًا من تمديدات اشتغلتها ابنة الجبل أسمهان الأطرش لنقل المياه من النبع إلى ضيعتها عيرة عام 1943. وقبل تمديدات الـ"بوري"، كان "المنشل"، وهي جرّة حديدية بيضاوية الشكل، كانت سيّدات الجبل يتخصّرنها لنقل المياه من النبع.
في كأس نحاسيّ، ملاعق ذهبية. يحملها أبو خير ويشير إلى أنّ الجنرال ديغول كان قد استخدمها عام 1941 لتناول العشاء في مضافة جدّه قاسم أبو الخير، عضو قيادة الثورة السورية الكبرى الـ13 (إلى جانب إبراهيم هنانو وصالح العلي وسلطان باشا الأطرش وغيرهم). يومها جاء ديغول إلى صلخد، ثم إلى عرمان القريبة، حيث منزل أبو خير، آتيًا إليه لاستسماحه بعدما هدم الفرنسيين داره، وحاملًا إليه تعويضًا. رفضه أبو الخير وردّ عليه "أنا لا أقبض ثمن جهادي". عرض عندها ديغول أن يحمل ابنه الصغير جاد الله، لتعليمه في فرنسا. فردّ أبو الخير "لا أريد منك شيئًا، أريد فقط أن تترك بلادي وتذهب إلى بلادك". ينادي مضيفنا أبو الخير زوجته لتحضر له مسدّسًا. المسدس لأبيه، وهو واحد من 13 مسدسًا أهداها مفتي القدس أمين الحسيني إلى رفاق الثورة السورية الكبرى.
عند مغادرتنا محافظة السويداء بعد جولة طويلة، سنتلقّى على هواتفنا خبرًا عاجلًا يفيد: "إسرائيل تلغي قرار السماح بدخول العمال السوريين الدروز للعمل في الجولان المحتل".