سلاح أميركا المتفلت: وباء الموت المجاني لا يحرك واشنطن

سلاح أميركا المتفلت: وباء الموت المجاني لا يحرك واشنطن

20 ابريل 2021
يعد القتل بالسلاح الفردي ثاني مسبب للوفيات بين الشباب في أميركا (Getty)
+ الخط -

فيما يقارب الرئيس الأميركي جو بايدن أجندته الداخلية، بمنطق الأولويات، يتصاعد الجدل في الولايات المتحدة، مجدداً، حول مسألة السيطرة على السلاح الفردي، بعدما شهدت البلاد سلسلة من حوادث إطلاق النار الفردي، وُضعت في خانة عمليات القتل الجماعي، حيث قتل في كلّ واحد منها أربعة أشخاص أو أكثر. هذه الحوادث، التي وقع آخرها أول من أمس الأحد في ولاية لويزيانا، داخل متجر لبيع الخمور، وأدّى إلى إصابة خمسة أشخاص بجروح خطيرة، صنّفتها الإدارة الأميركية الديمقراطية كـ"وباء صحّي"، مشابه لوباء كورونا. وتعجب كبير علماء الأوبئة في البلاد، أنتوني فاوتشي، بأن هناك من لا يزال يجادل حول ما إذا كان تفلت السلاح الفردي الذي يقتل المئات، بل الآلاف أحياناً، سنوياً، في الولايات المتحدة، هو بمثابة وباء أم لا. فيما دعا مشاهير أميركيون في عالم الفن وغيره، إلى "حملة تلقيح" ضد العنف الناجم عن تملّك الأسلحة الفردية.

ورأى بايدن ونائبته كامالا هاريس، أن هذه المسألة تأخذ بعداً دولياً، بعدما أصبحت حوادث إطلاق النار في الولايات المتحدة والموت "المجاني" الناجم عنها، تشكل إحراجاً قوياً لسمعة أميركا أمام المجتمع الدولي. لكن بايدن نفسه، الذي اختبر لعقود طويلة الجدل المؤسساتي والدستوري في واشنطن حول السيطرة على السلاح الفردي، يدرك أن الكثير من التحركات التشريعية في الكونغرس لهذا الهدف، لا تزال لا تطعم خبزاً، هو الذي قال مرة، عام 1984، إنه "السلاح الفردي قبل 6 أعوام، قبل 5 أعوام...إنه السلاح اليوم وغداً"، في إشارة إلى صعوبة حلّ هذه المعضلة المرتبطة جذرياً بالدستور، وبالخلاف الأيديولوجي الكبير بين الجمهوريين والديمقراطيين، ولكن أيضاً بنفوذ لوبي السلاح، والجمعية الوطنية الأميركية للبنادق "أن أر آي".

بايدن: أحداث إطلاق النار تشكل إحراجاً قوياً لسمعة أميركا أمام المجتمع الدولي

وأصيب 5 أشخاص، ليل الأحد – الإثنين، بجروج خطرة، بعدما تعرّضوا لإطلاق نار، في متجر لبيع الخمور، في شريفبورت، في ولاية لويزيانا. وأكدت الشرطة، أنها تلاحق سيارة بيضاء من طراز "فورد"، يشتبه أن سائقها هو من أطلق النار على المتواجدين أمام المتجر. وكانت حادثة شريفبورت، قد سبقتها حادثتا إطلاق نار في اليوم ذاته، إحداها سجّلت مقتل 3 أشخاص داخل شقة سكنية في أوستن، تكساس، وأخرى أدت إلى مقتل ثلاثة، وإصابة إثنين، بعد تبادل لإطلاق النار، في مقاطعة كينوشا، في ولاية ويسكونسين. وكان حادث مماثل وقع الخميس الماضي في إنديانابوليس، عاصمة ولاية إنديانا، بعدما قتل مسلح 8 أشخاص، وأصاب أشخاصاً عدة آخرين في منشأة تابعة لشركة "فيديكس"، قبل أن ينتحر. وفي نهاية شهر مارس/آذار الماضي، قتل 4 أشخاص، بينهم طفل، في مبنى إداري في جنوب كاليفورنيا، فيما لقي 10 أشخاص حتفهم في 22 مارس، في حادث إطلاق نار على محل بقالة في بولدر في كولورادو. وجاء ذلك بعد أقل من أسبوع على إطلاق رجل النار وقتله 8 أشخاص، بينهم ست نساء من أصول آسيوية، في منتجع صحّي في أتلانتا في جورجيا.

ويقضي حوالي 40 ألف شخص في الولايات المتحدة كل عام، بأسلحة نارية، أكثر من نصفهم انتحاراً. وبحسب شبكة "سي أن أن"، بناء على بيانات من "أرشيف عنف السلاح"، فإنه منذ 16 مارس الماضي، شهدت الولايات المتحدة 50 حادثة إطلاق نار أدت إلى موت جماعي (مقتل أكثر من 4 أشخاص)، كما شهدت منذ بداية العام 150 حادثة من هذا النوع على الأقل.

وأصبح هذا النوع من البيانات، والمعطيات، بمثابة تكرار تستعيده وسائل الإعلام الأميركية وتقاريرها في كلّ مرة تهز البلاد أحداث مأساوية مرتبطة بتفلت السلاح بين المواطنين، وذلك لإعادة التذكير بعقم الحراك السياسي الذي لطالما شهدته واشنطن للحدّ من هذه الظاهرة، التي ترتبط بتاريخ حمل السلاح في البلاد، والمتأصل بدوره في ثقافة الأميركيين، والأميركيين الشماليين عموماً. وتعد الولايات المتحدة وكندا، الأعلى بين الدول المتقدمة في العالم، في نسبة الوفيات لديهما من حوادث القتل الفردي، والتي تعتبر في أميركا مع الانتحار، السببين الثاني والثالث للوفيات لدى الفئات العمرية الشابة.

في المقابل، تجري مقاربة هذه المسألة، في الولايات المتحدة، عبر تشريح إنجازات كلّ رئيس على حدة، لجهة ما استطاعت إدارته أن تمرره، ليس لناحية إيجاد حلّ جذري لـ"وباء عنف السلاح"، بل لاستمرار العمل على إغلاق "الثغرات"، بحسب مصطلحات واشنطن، للحدّ من تداعيات تفلت السلاح. ويرتبط اقتناء السلاح الفردي في الولايات المتحدة، بالتعديل الثاني في الدستور، الذي يجيز للأميركيين ويسهّل لهم امتلاك السلاح الفردي، بل تبادله بين بعضهم على نطاق واسع.

شهدت الولايات المتحدة 50 حادثة إطلاق نار أدت إلى موت جماعي منذ 16 مارس الماضي

وفيما يعتزم بايدن المضي قدماً في خطته لتحسين البنية التحتية الأميركية، التي تبلغ كلفتها 2.5 تريليون دولار، لا يبدو متحمساً كثيراً للدخول في صدام مع الجمهوريين حول مسألة الحد من السلاح الفردي، حيث لا تزال تشريعات عدة مرّرها الديمقراطيون في مجلس النواب، في عهد بايدن، وعهد سلفه دونالد ترامب، عالقة في مجلس الشيوخ، وتحتاج إلى تصويت قد يكون مستحيلاً، للحصول على 60 صوتاً في المجلس. ويرفض الجمهوريون بشكل قاطع النقاش حول مسألة السلاح، متهمين الديمقراطيين، تماماً كمسألة "إصلاح الشرطة"، بأن أي تشريع للحزب الأزرق، هدفه الذهاب بعيداً في التعرض لـ"التعديل الثاني"، أو "لإلغاء تمويل الشرطة"، وهما مسألتان يرفض المحافظون المساس بهما.  

وفي مسعى للالتفاف على الجمود في الكونغرس، سار بايدن على خطى الرئيس الأسبق باراك أوباما، عبر التحرك داخل السلطة التنفيذية، ومرّر في هذا الإطار، خلال شهر إبريل/نيسان الحالي، ستة إجراءات تنفيذية، قال إنها تساعد في وقف الأزمة الناتجة عن عنف السلاح، فيما اعتبرها زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس النواب، كيفين مكارثي، "تجاوزاً غير دستوري". من جهته، أكد زعيم الأكثرية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، أنه سيحمل تشريعات للحد من السلاح إلى داخل المجلس، للنقاش، قريباً، لكنه تحرك وصفه متابعون بـ"الرمزي". ولا يتملك الجمهوريون أي حافز للتعاون مع نظرائهم الديمقراطيين حول المسألة، نظراً لنفورهم الأيديولوجي والمرتبط بقاعدتهم الشعبية، تجاه أي إجراءات للحد من الأسلحة النارية. ويأتي ذلك، فضلاً عن خشيتهم من التيار اليميني المتطرف المتصاعد داخل الحزب، والذي يقوده الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي كان سارع للتصويب وانتقاد إجراءات بايدن التنفيذية الأخيرة.

وتتعلق إجراءات الرئيس الديمقراطي تحديداً، بمحاولة تقييد ما يسمى بـ"الأسلحة الشبح"، وهي الأسلحة النارية التي تجمع يدوياً من جهات ومواد يسهل شراؤها عبر الإنترنت، عبر تعهد بأن تنشر وزارة العدل في غضون 30 يوماً (من تاريخ إصدار البيت الأبيض القرار في 7 إبريل الحالي)، قواعد للمساعدة على وقف انتشار "الأسلحة الشبح". كما أن الوزارة، في غضون 60 يوماً أيضاً، ستنشر تشريعاً للولايات تحت خانة "العلم الأحمر" (ريد فلاغ)، وهي قوانين تسمح لأفراد من العائلات أو للجهات الموكلة تطبيق القانون، بطلب أمر قضائي، يمنع بشكل مؤقت "أشخاصاً مأزومين" (نفسياً مثلاً)، الحصول على أسلحة نارية، إذا كان هؤلاء الأشخاص يشكلون خطراً على أنفسهم أو على غيرهم، بالإضافة إلى الاستثمار في "التدخلات المجتمعية" للحد من الظاهرة، وتعيين ديفيد شيبمان ليقود "مكتب التبغ والكحول والأسلحة النارية"، وهو مكتب لم يقر أي مدير له منذ عام 2015.

لا يبدو بايدن متحمساً كثيراً للدخول في صدام مع الجمهوريين حول مسألة الحد من السلاح الفردي

ويعد إنهاء حصانة صانعي الأسلحة، من أكثر المشاريع طموحاً، التي قال بايدن، بداية الشهر الحالي، مع إعلانه إجراءاته التنفيذية، إنه يريد "من الله" أن يساعده لتحقيقها، في إشارة منه إلى مدى الصعوبة التي يواجهها سعيه هذا. وقال بايدن إن "معظم الناس لا يدركون، أن الصناعة الوحيدة في الولايات المتحدة التي لا يمكن ملاحقتها قضائياً، وهي الصناعة التي تدر مليارات الدولارات، هم صانعو الأسلحة". وأشار بايدن في ذلك إلى قانون صدر عام 2005 تحت عنوان "قانون حماية تجار السلاح القانونية" الذي يحمي بشكل واسع صانعي الأسلحة النارية والمتاجرين بها من الملاحقة في المحاكم عندما يستخدم أفراد أسلحة نارية تمّ شراؤها منهم بشكل غير قانوني.

ويعد هذا القانون، بالإضافة إلى فرض إجراء "بحث دولي حول خلفية" مقتني الأسلحة النارية، الهدف الأكبر للجمعيات والتيارات المطالبة بالحد من انتشار السلاح الفردي في البلاد. وكان السيناتور الديمقراطي كريس مورفي قد حثّ ترامب، من دون فائدة، على دعم الحراك في الكونغرس لتوسيع إجراءات البحث في خلفية المشترين للأسلحة النارية، والتي تجريها عادةً وكالة "أف بي آي". وتواجه هذا البحث اليوم، عوائق عدة، كما أن إمكانية إهداء فرد سلاحاً لأفراد من عائلته، تعيق عملية السيطرة على انتشار الأسلحة النارية في البلاد. وتحاول ولايات عدة الالتفاف على الجمود في واشنطن حيال الموضوع، إلا أن المقاربة تبقى غير كافية.

في المحصلة، يشابه كثير من المتابعين بين أيّ جهد حالي للحد من انتشار السلاح الفردي في الولايات المتحدة، وبين ملف "إصلاح الشرطة"، حيث يبقى الترقيع سيّد الموقف. ويزيد الأمر مأساوية، ربما، بالنسبة إلى الكثير من أهالي الضحايا، سواء الذين قتلوا بعنف الشرطة أو برصاص مواطنيهم من حاملي البنادق والأسلحة النارية، أن بعض الديمقراطيين يأملون حصول ارتفاع في عدد ضحايا الموت المجاني هذا، لدفع الجمهوريين إلى الانصياع وتغيير قواعد اللعبة، وهو رهان يبقى أيضاً، رغم سوداويته، غير مضمون أبداً.

المساهمون