سد النهضة: تغيير فيلتمان وأحاديث الفنيين تربك الحسابات المصرية

سد النهضة: تغيير فيلتمان وأحاديث الفنيين تربك الحسابات المصرية

07 يناير 2022
المياه الجوفية العميقة في مصر غير متجددة (محمد الشاهد/فرانس برس)
+ الخط -

ألقى الإعلان عن استقالة المبعوث الأميركي إلى منطقة القرن الأفريقي جيفري فيلتمان بظلال أكبر من الغموض حول مصير أزمة سد النهضة الإثيوبي بين مصر والسودان وإثيوبيا، والتي تاهت في أروقة السياسة الخارجية الأميركية. 

يأتي ذلك وسط أزمات أخرى، على رأسها الحرب الأهلية المتفاقمة في إثيوبيا بين القوات الموالية لجبهة تحرير تيغراي الشعبية والجيش، وانقلاب السودان العسكري في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

وجاء الإعلان عن استقالة فيلتمان قبل أن يتوجه إلى إثيوبيا، أمس الخميس، للقاء كبار المسؤولين الحكوميين بشأن محادثات السلام، كجزء من مسعى واشنطن الأخير لإنهاء الصراع، وقبل زيارة مرتقبة إلى القاهرة، كشفت عنها مصادر غربية، لـ"العربي الجديد"، مقررة في نهاية يناير/ كانون الثاني الحالي، بناء على اتصالات مصرية أميركية متعلقة بتطورات أزمة سد النهضة، وتطورات الأوضاع في الجارة الجنوبية السودان، وبطلب مصري.

ارتباك داخلي مصري بشأن قضية المياه

الإعلان عن استقالة فيلتمان جاء أيضاً وسط ارتباك داخلي ظهر في الحكومة المصرية أخيراً، بشأن قضية المياه، التي تمثل أهمية وأولوية قصوى بالنسبة للأمن القومي المصري، لا سيما بعد إعلان إثيوبيا، في يوليو/ تموز الماضي، عن اكتمال المرحلة الثانية من ملء السد بنجاح، بحسب ما كان مخططاً لها، بمقدار 13.5 مليار متر مكعب من المياه.

الحديث الدائم عن ندرة ونقص المياه في مصر مسألة ضرورية في السياسة الخارجية

وبينما يحذر وزير الري في الحكومة المصرية محمد عبد العاطي من خطورة نقص المياه الواردة من نهر النيل بسبب السد الإثيوبي، ومن ندرة المياه الجوفية في بلاده وأنها مورد غير مستدام، يتحدث الرئيس عبد الفتاح السيسي عن مشروعات طموحة لاستصلاح أربعة ملايين ونصف مليون فدان من الأراضي الصحراوية. فمن أين يأتي بالمياه؟

خبراء في مجال المياه وفي القانون الدولي أكدوا أن تصريحات وزير الري "ضرورية" لدعم موقف مصر دولياً عند الحديث عن "قضية المياه وسد النهضة".

وأوضحوا، في أحاديث مع "العربي الجديد"، أن "أدبيات السياسة الخارجية المصرية ثابتة منذ فترة طويلة، وحتى قبل بناء السد الإثيوبي، وتتمثل في ضرورة الحديث بشكل دائم عن خطورة نقص المياه بشكل عام في مصر، سواء الواردة من النيل الأزرق في إثيوبيا عبر السودان، والذي يأتي بنسبة 80-85 في المائة من المياه المغذية لنهر النيل، ولكن هذه المياه تصل إليه في الصيف فقط أثناء هطول الأمطار الموسمية علي هضبة الحبشة، وهو ما يعرف بفيضان النيل، أو الواردة من المياه الجوفية العميقة".

الحديث عن ندرة المياه مسألة ضرورية خارجياً

وأوضحت المصادر أن "الحديث الدائم عن ندرة ونقص المياه في مصر مسألة ضرورية في السياسة الخارجية، حتى تحصل القاهرة على الدعم الدولي في قضية المياه، سواء كان سياسياً لموقف مصر في أزمة سد النهضة مع إثيوبيا، أو اقتصادياً يتمثل في المساعدات التي تحصل عليها مصر من جهات دولية لإقامة مشروعات مائية، وما إلى ذلك".

أما التناقض ما بين تصريحات وزير الري عن أزمة نقص المياه وحديث الرئيس حول استصلاح ملايين الأفدنة، ففسرته المصادر بأن "لكل مقام مقال".

وقالت إن "حديث وزير الري غالباً ما يكون موجهاً إلى الخارج من أجل ضمان الدعم الدولي. أما حديث السيسي فهو على الأرجح يكون موجهاً إلى الداخل، لتقديم صورة عن النظام تبين نجاحه وإنجازاته في المجالات المختلفة وعلى رأسها الزراعة. وهي الصورة التي حرصت جميع الأنظمة السابقة، منذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر مروراً بنظام (أنور) السادات و(حسني) مبارك وحتى اليوم، على تصديرها للشعب، فلطالما حرص كل هؤلاء على التقاط الصورة المشهورة لهم أمام حقول القمح، باعتبارها أهم الإنجازات في بلد زراعي بالأساس".

وأضافت المصادر أنه "على الرغم من ذلك، فإن ما يحدث يعد أمراً غير مقبول في السياسة، ويبرز التناقض الواضح داخل حكومة السيسي، ومن شأنه أن يؤثر على موقف مصر الدولي في قضية سد النهضة الإثيوبي".

تناقض بين السيسي ووزير الري

وكشفت تصريحات وزير الموارد المائية والري المصري قبل أيام، والتي أكد خلالها أن المياه الجوفية العميقة في مصر هي مياه "غير متجددة"، عن تناقض مع تصريحات السيسي، التي أكد خلالها عزم حكومته على استصلاح ملايين الأفدنة في أراضٍ صحراوية، وزراعتها باستخدام المياه الجوفية.

وتحدث السيسي، الأسبوع الماضي، مع رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة اللواء إيهاب الفار، في أثناء افتتاحه مشروعات بمنطقة "توشكى"، حول إمكانية زراعة 150 ألف فدان إضافية بجانب الـ200 ألف فدان الموضوعة في الخطة الزراعية في توشكى. 

ورد اللواء إيهاب الفار: "من النهاردة نبدأ نعمل الدراسات، وخلال أسبوع نرد فيها". وتم إدراج مشروع "توشكى"، الذي تم تدشينه في 9 يناير/ كانون الثاني عام 1997، إبان عهد الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك، ضمن خطة البرنامج الرئاسي للسيسي لزراعة 4.5 ملايين فدان.

وقال مصدر فني وخبير بمركز بحوث الصحراء التابع لوزارة الزراعة إن توجه السيسي أخيراً لمنطقة توشكى، التي أنشئت في عهد مبارك، جاء بعد فشل المشروعات الزراعية التي كانت ضمن خطة المليون فدان الأولى، التي زادت إلى مليون ونصف المليون، ثم إلى 4.5 ملايين فدان بعد ذلك.

الدراسات على المياه الجوفية في مناطق مثل المغرة في الصحراء الغربية أثبتت عدم صلاحيتها للزراعة أصلاً

وأشار المصدر إلى أن مناطق مثل المغرة في الصحراء الغربية، والتي عملت شركة "الريف المصري" على مدار سنوات مضت على تطويرها وتجهيزها للزراعة وصرفت مئات الملايين من الجنيهات عليها من أجل أن تدخل ضمن مشروع المليون ونصف المليون فدان، وتبلغ مساحتها 280 ألف فدان، أثبتت الدراسات التي أجريت بعد ذلك على المياه الجوفية عدم صلاحيتها للزراعة أصلاً، لاحتوائها على نسب ملوحة عالية جداً.

وأضاف أن هناك أراضي أخرى في منطقة سيوة بمحافظة مرسى مطروح، على مساحة أكثر من 20 ألف فدان، بالإضافة لمنطقة الفرافرة، والمنيا الجديدة، وكلها مناطق ثبتت صعوبة زراعتها بعد تجهيزها وصرف الملايين عليها.

وأوضح المصدر أنه بعد تقسيم أراضي المغرة من قبل شركة "الريف المصري"، وتوصيل الطرق والبنية الأساسية لها، قامت بتخصيص قطع أراض للمواطنين، شرط تأسيس شركات بينهم لا يقل عدد المساهمين فيها عن 10 أفراد، ومساحة القطعة تصل إلى 230 فداناً، على أن يدفع المساهمون في كل قطعة أرض مبلغاً مقدماً من ثمن الأرض، ومن ثم يسددون الباقي على أقساط تبدأ بعد 4 سنوات، وهي فترة سماح من الشركة، حتى تتم زراعة الأرض.

وأضاف المصدر أنه بعد استلام الأراضي من قبل المواطنين، كان المطلوب منهم حفر آبار لاستخراج المياه الجوفية، ولجأ معظمهم إلى مركز بحوث الصحراء لتحليل العينات المستخرجة قبل الشروع في حفر الآبار، وهي العينات التي أثبتت وجود نسب ملوحة عالية جداً لا تسمح بالزراعة.

من جهته، قال مصدر في "الريف المصري" إن الشركة تدرس الآن مد فترة السماح للمواطنين الذين تم تخصيص أراضٍ لهم بمنطقة المغرة من أجل الزراعة، حيث ينص العقد على أن يبدأ المواطنون في زراعة الأرض في مدة لا تتجاوز 4 سنوات. 

وأضاف المصدر أن من ضمن الأمور الأخرى التي تدرسها الشركة، بالتعاون مع وزارة الزراعة، منح المواطنين أراضي بمناطق أخرى، مثل الفرافرة والمنيا والوادي الجديد.

لا يمكن الاعتماد على المياه الجوفية

وكان وزير الري محمد عبد العاطي قد شدد، الأحد الماضي، خلال لقاء مع محافظ الوادي الجديد، على "ضرورة الالتزام التام بتطبيق كافة الضوابط والاشتراطات الخاصة باستخدام المياه الجوفية، الأمر الذي يسمح بتحقيق الإدارة المُثلى للموارد المائية والاستخدام الرشيد لها، خاصة أن المياه الجوفية العميقة في مصر هي مياه غير متجددة".

وأشار إلى "أهمية مواصلة التوسع في استخدام الطاقة الشمسية في تشغيل الآبار، في إطار الإجراءات المتخذة لتقليل الانبعاثات، والتحكم في معدلات السحب من المخزون الجوفي، مع التوسع في التحول لاستخدام نظم الري الحديثة، بدلاً من الري بالغمر، الأمر الذي يؤدي لترشيد الاستخدامات المائية وتحقيق الإدارة الرشيدة للمياه الجوفية".

منير برسوم: الري بالمياه الجوفية عالية الملوحة يؤدي لتدهور الأرض وانخفاض إنتاجيتها

كلام وزير الري وصفه الخبير في مركز بحوث الصحراء، الدكتور منير صبحي برسوم، بأنه "جرس إنذار" يؤكد أنه "لا يمكن الاعتماد على المياه الجوفية كمصدر أساسي للمياه المستخدمة في المجال الزراعي، خصوصاً ملايين الأفدنة التي يتحدث عنها الرئيس من وقت لآخر، وأن المصدر الرئيس للمياه في مصر هو نهر النيل".

وقال برسوم، في تصريحات خاصة، إن الري بالمياه الجوفية عالية الملوحة، أو مياه الصرف الزراعي، يؤدي إلى تمليح الأرض وتكوّن طبقة ملحية تشكل "نواة تصحر الأرض"، وتؤدي لتدهور الأرض وانخفاض إنتاجيتها، علاوة على القضاء على الكائنات الحية تحت سطح التربة، والتي لها دور أساسي في زيادة خصوبة التربة وحفظ التوازن البيولوجي بينها وبين غيرها من الكائنات الحية، ما يُحدث في النهاية خللاً في التوازن البيئي‏.‏

ورأى برسوم أن "المناطق القابلة للزراعة، التي تهدف الدولة لاستصلاحها بالصحراء الغربية والواحات، تتعرض لضياع جودة أراضيها، نظراً لأن هذه الأراضي تعتمد على الأمطار والمياه الجوفية، ما يتسبب أيضاً في تمليح التربة، فيحدث انهيار لبناء التربة بحيث تصبح الأراضي متصحرة غير صالحة للزراعة ومعرضة لمهاجمة الكثبان الرملية دون عائق، وينتج عن ذلك وصول الكثبان الرملية إلى أراضي الدلتا والوادي القريبة"‏.