روسيا ـ تشيكيا: حرب جاسوسية على حدود الستار الحديدي

روسيا ـ تشيكيا: حرب جاسوسية على حدود الستار الحديدي

25 ابريل 2021
يبلغ عدد موظفي السفارة الروسية في براغ 125 شخصاً (فرانس برس)
+ الخط -

على وقع استمرار التوتر الدبلوماسي والتراشق السياسي بين روسيا وأوروبا، برزت حالة أمنية تُعيد برأي بعض المتابعين ووسائل الإعلام مشهد حرب الجاسوسية وتجنيد العملاء بين الاتحاد السوفييتي (1917 ـ 1991) والغرب، أيام الحرب الباردة (1947 ـ 1991). وظهرت بوادر عملية التجسس من بوابة جمهورية تشيكيا، التي شكّلت ذات يوم خط حدود "الستار الحديدي" الفاصل بين السوفييت والغرب، أثناء وحدتها مع سلوفاكيا في إطار دولة تشيكوسلوفاكيا (1918 ـ 1993). وكانت الدولة المفككة بالغة الأهمية لموسكو، لوقوعها في قلب أوروبا وعلى حدود ألمانيا والنمسا، التي كانت محور الاهتمام السوفييتي استخباراتياً، بسبب ما تضمّه فيينا من منظمات دولية، وهو ما دفع الأوروبيين إلى إبداء مخاوفهم من تزايد نمط التجسس الروسي، فتطرد بين حين وآخر "دبلوماسيين" روساً. ويخشى الأوروبيون من جرأة موسكو على تجنيد جواسيس و"مليشيا" شبه عسكرية في قلب أوروبا.
وتمثل الحالة التشيكية، في سياق ما يجري في الكواليس الأمنية، مجرد مثال على جرأة الاستخبارات الروسية، وريثة جهاز "كي جي بي"، سيئ الصيت بالنسبة لدول غرب أوروبا وشمالها. وتُقلق هذه الجرأة حلف شمال الأطلسي أيضاً، بعد الكشف عن مدى اختراق الجهاز الأمني الروسي لأمن الحلف ودولة تشيكيا.

ومنذ أكثر من أسبوع أكد جهاز الاستخبارات التشيكي تورّط عملاء روس في عملية أمنية معقدة بتفجير مخازن سلاح تشيكية في عام 2014، كانت تحوي تلك المستودعات على أطنان من الذخائر المعدّة للتصدير إلى أوكرانيا. واستمر التحقيق في القضية في السنوات الماضية، مؤدية إلى طرد 18 دبلوماسياً روسياً. كما اعتقلت الاستخبارات التشيكية عناصر مؤيدة لموسكو، ووجدت كميات من الأسلحة المخزنة لمجموعات شبه عسكرية قريبة من الكرملين.

أنشأت روسيا خلايا مسلّحة في تشيكيا للقتال في أوكرانيا

وسبق أن أبلغت براغ الحلفاء الغربيين أن الجاسوسين الروسيين المتهمين بمحاولة قتل العميل المزدوج سيرغي سكريبال بغاز أعصاب في بريطانيا عام 2018، مشاركان بالتفجير وعمليات أخرى. وحددت وسائل إعلام تشيكية، بناء على معلومات أمنية وسياسية، اسمي الرجلين، رسلان بوسغيروف وألكسندر بيتروف، باعتبارهما جزءاً من "وحدة النخبة في جهاز المخابرات العسكرية الروسية". ونشرت شرطة مكافحة الجريمة المنظمة صورة الرجلين باعتبارهما مطلوبين لبراغ. وألمحت بعض المواقع التشيكية أن الروس جنّدوا عميلاً داخل الجيش التشيكي، ساهم في تدمير المستودعات، وهو ما أكده رئيس الوزراء أندريه بابيس، موجّهاً أصبع الاتهام إلى الاستخبارات الروسية.

وتواصل الأجهزة الأمنية التشيكية حملاتها التي بدأت منذ فجر الأربعاء الماضي، لاستهداف شبكات وأشخاص مقربين من الكرملين. وذُكر أيضاً أن "روسيا بنت علاقات مع رجال أعمال وصحافيين في البلد، بعضهم ساعد في تدعيم الرواية الروسية، والتحذير من أن حرباً ستقع بين أوروبا وموسكو"، وفقاً لشبكة "ريسبكت" الإعلامية التشيكية.

تاريخياً كان وضع جمهورية تشيكيا معقّداً بعض الشيء مع روسيا، فعلى الرغم من أن التاريخ شهد قمعاً سوفييتياً في "ربيع براغ" 1968، إلا أن روسيا تملك حلفاء في معسكر قومي متشدد في تشيكيا، شاركها على تشكيل جماعات شبه عسكرية في حرب أوكرانيا 2014. وكشفت السلطات الأمنية التشيكية أخيراً عن اعتقال مجموعة من نفس التيار كانت تتأهب للسفر لمساندة الروس، بعد التوتر الأخير مع أوكرانيا.

في اللعبة الاستخباراتية، بين الغرب وروسيا، يمثل أيضاً موقع تشيكيا أهمية خاصة لم تتراجع بتفكك الاتحاد السوفييتي. وهو ما كشفت عنه الحملات الأمنية الأخيرة لوحدة مكافحة التجسس التشيكية. وذكرت الأجهزة الأمنية التشيكية والأوروبية أن موسكو، ومن خلال سفارة ضخمة تضم أكثر من 125 موظفاً، باتت في العقدين الأخيرين "مركزاً مهماً للمهام السرية في الدول الأوروبية والتنسيق مع المليشيات الموالية لروسيا". مع العلم أن عديد موظفين السفارة الأميركية لا يتعدى الـ80 شخصاً. ونقل موقع "أكتوالني" الإخباري التشيكي عن نائب رئيس الاستخبارات التشيكي السابق يان بادوريك، قوله إن "روسيا ما تزال تستخدم الأساليب السوفييتية للتغطية على الأنشطة غير القانونية حول العالم. وهذا الوجود الروسي في براغ مهم للغاية لأجل النشاط في أوروبا، وتزايد كثيراً منذ نهاية الحرب الباردة".

بدوره، أوضح موقع "هيلداسيبس" المتخصص بالتحقيقات الصحافية في تحقيق خاص عن عمل سفارة موسكو في مايو/أيار 2020، أن الاستخبارات التشيكية لديها قناعة "من خلال تقرير رسمي أن السفارة تضم عملاء في الاستخبارات المدنية الروسية (أس في آر) والاستخبارات العسكرية (جي آر يو) وجهاز الأمن الروسي (أف أس بي). كما أن نحو 60 دبلوماسياً من السفارة هم من أهم متابعي المصالح الروسية في وسط أوروبا، وبأجهزة وتقنيات حديثة وعلاقات سرية".

غالباً ما تلاقت مصالح الرئيس التشيكي مع روسيا

وبعد الكشف عن دور السفارة في عمليات غير مشروعة، عارض الرئيس التشيكي ميلوش زيمان، تقارير استخبارات بلده، بل طالب بتسليم "الأدلة والوثائق" إلى موسكو للتأكد منها. وزيمان مقرّب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأثار موقفه سجالاً داخلياً بعد أن طالب بإقالة رئيس جهاز الاستخبارات، ميكال كوديلكا، الذي يعمل منذ سنوات على متابعة وتحجيم عمل الاستخبارات الروسية على أراضي بلده، وبدعم غربي.

وغالباً ما تعارضت مواقف زيمان مع مصالح بلاده دعماً للكرملين، خصوصاً في مجال السياسات الخارجية. ورأت وسائل إعلام تشيكية أن زيمان في الأزمة الأخيرة مع موسكو لم يتخذ موقفاً حاسماً "وهو يضعف الحكومة التشيكية". وتتشابك مصالح زيمان ومحيطه من أصحاب الأعمال والمال مع مصالح المحيطين بالكرملين، وبالأخص لناحية اهتمام موسكو ببناء مفاعلات نووية في براغ، وهو ما جرى فضحه في الخريف الماضي، حين زار مستشار لزيمان موسكو من دون التنسيق مع الخارجية أو سفارة بلده. وعزز ذلك الشكوك في بناء روسيا شبكة مصالح وضغط حتى في قمة هرم السلطة في براغ. وحين كشف جهاز الاستخبارات التشيكي عن أن أحد كبار موظفيه كان يتعاون مع جهاز المخابرات الروسي عينه زيمان مستشاراً أمنياً لديه.

وعلى الرغم من التقارير السابقة عن نفوذ شبكة بوتين، في أوساط اليمين القومي المتطرف في أوروبا؛ وفقاً لما كشفت عنه تقارير أخيرة، إلا أنها المرة الأولى التي تتحرك فيها دولة أوروبية على هذا النطاق، لاستهداف علاقة الكرملين بشبكة شبه عسكرية تشيكية معادية أصلاً لأوروبا ولعضوية بلدهم فيها.

المساهمون