استمع إلى الملخص
- العلاقات السورية الروسية تمر بمرحلة حساسة، حيث تتفاوض القيادة الجديدة حول الديون الروسية وعودة الأموال السورية، وتسعى للحصول على تعويضات عن الدمار، بينما تعرض روسيا مساعدات إنسانية.
- التوازن الجيوسياسي يشهد تحولات معقدة، حيث تسعى إسرائيل للحفاظ على النفوذ الروسي لمواجهة تركيا، وتحاول الولايات المتحدة تحسين علاقاتها مع موسكو، بينما تسعى دمشق لموازنة الضغوط الغربية بالحضور الروسي.
لسنوات كان جنود من قاعدة حميميم الجوية الروسية في سورية يتجولون بحرية في المدن الساحلية، وكانت المقاتلات تنطلق منها لقصف المعارضة السورية المناهضة لبشار الأسد ونظامه القمعي. لكن الوضع لم يعد على تلك الحال بعد سقوط الأسد، إذ تحرس مجموعات صغيرة من هيئة تحرير الشام وجماعات معارضة مسلحة أخرى، باتت الآن تسيطر على البلاد، مداخل حميميم وقاعدة طرطوس البحرية، على بعد نحو 60 كيلومتراً إلى الجنوب.
وقال أفراد الحراسة لمراسلين من وكالة رويترز زاروا المنطقة الأسبوع الماضي إنهم يرافقون أي قوافل روسية تغامر بالخروج. وأضاف أحدهم بعد أن طلب عدم ذكر اسمه: "يجب عليهم إخطارنا قبل المغادرة".
بذلك بات مصير القاعدتين، وهما عنصر رئيسي في نفوذ روسيا العسكري في الشرق الأوسط وأفريقيا، في يد رئيس سورية في المرحلة الانتقالية أحمد الشرع الذي يريد إعادة التفاوض على تأجير قاعدة طرطوس لمدة 49 عاماً الذي حصل في عهد النظام البائد، وعقد إيجار غير محدد المدة لقاعدة حميميم من أجل التوصل إلى اتفاق أفضل، لكنه لا يريد إقصاء موسكو كلياً في ما يبدو.
وبدلاً من ذلك، قد تبقى القاعدتان مقابل دعم دبلوماسي وتعويض مالي من روسيا، التي لعبت دوراً كبيراً في قطاعي الاقتصاد والدفاع في سورية على مدى سبعة عقود قبل أن تتدخل في الحرب في 2015 لصالح الأسد، وتشارك في الدمار الذي ساعد على إبقاء الأسد في السلطة لسنوات، عبر قصف المدن التي كانت تسيطر عليها المعارضة.
في ديسمبر/ كانون الأول سقط الأسد وفرّ إلى روسيا من قاعدة حميميم. أما القيادة السورية الجديدة، التي كانت يوماً هدفاً لضربات جوية روسية مكثفة، فتتفاوض الآن مع موسكو.
وتحدثت "رويترز" من أجل هذه القصة إلى ثمانية مصادر سورية وروسية ودبلوماسية أبلغوها بتفاصيل لم تنشر من قبل عن أول اجتماع رفيع المستوى بين الشرع ومبعوث للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بما في ذلك مطالبات تتعلق بديون تصل قيمتها إلى مليارات الدولارات ومستقبل الأسد وإعادة أموال سورية يقال إنها في روسيا. وطلبت المصادر عدم ذكر أسمائها ليتسنى لها التحدث عن مسائل حساسة.
تحدثت "رويترز" من أجل هذه القصة إلى ثمانية مصادر سورية وروسية ودبلوماسية أبلغوها بتفاصيل لم تنشر من قبل
ومن شأن وضع العداوة جانباً أن يفيد الطرفين. فعلى الرغم من تخفيف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لبعض العقوبات المفروضة على سورية، تصعّب القيود المتبقية القيام بأعمال تجارية مع البلد، الذي مزقته وأفقرته الحرب، وعدد سكانه نحو 23 مليون نسمة.
وقد تكون استعادة الإمدادات الروسية التقليدية من الأسلحة والوقود والقمح بمثابة شريان حياة للبلاد. وقال دبلوماسي مقيم في دمشق لـ"رويترز" إن ذلك يجعل قادة البلاد على استعداد "لمد أيديهم بالسلام حتى لأعدائهم السابقين".
وترى آنا بورشفسكايا من معهد واشنطن أن "موسكو لا يزال لديها ما تقدمه لسورية"، وهي قوية ومتجذرة بصورة لا يمكن تجاهلها. وقالت: "روسيا تحتاج ببساطة إلى حكومة في دمشق تضمن مصالحها، وستكون مستعدة لعقد اتفاق مع تلك الحكومة". وقال مصدر في وكالة إغاثة تابعة للأمم المتحدة إن روسيا لم تصدر أي حبوب إلى سورية في عهد الإدارة الجديدة.
ولم يقل الرئيس الأميركي دونالد ترامب الكثير عن سورية منذ أن تولى منصبه، لكنه يسعى لإصلاح العلاقات مع موسكو. وقال متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية إنه مع رحيل الأسد هناك فرصة سانحة أمام سورية "كي لا تخضع بعد الآن لهيمنة إيرانية أو روسية تزعزع استقرارها".
لكن إسرائيل حليفة الولايات المتحدة تريد من روسيا البقاء حائطَ صد للنفوذ التركي، وفقاً لما أوردته "رويترز" يوم الجمعة. وقال التقرير إن إسرائيل تضغط على الولايات المتحدة لإبقاء سورية ضعيفة وبلا قوة مركزية من خلال السماح لروسيا بالاحتفاظ بقاعدتيها العسكريتين هناك لمواجهة النفوذ التركي المتزايد في البلاد. كما كشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية اليوم الأحد أن نتنياهو أوفد سكرتيره العسكري رومان غوفمان، إلى موسكو في الأيام الأخيرة لعقد اجتماعات أمنية ودبلوماسية تركزت على تعزيز التعاون الأمني مع روسيا وضمان حماية المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة.
وأوضحت الصحيفة أن غوفمان الذي يعد مقرباً جداً من نتنياهو، عاد من موسكو يوم الجمعة بعد مباحثات تناولت التطورات في سورية، والتي اعتبرت إسرائيل أنها تحمل تهديدات لها، خاصة للنفوذ التركي الكبير على الحكومة في دمشق، ما يجعل إسرائيل تفضل الدور الروسي في سورية على النفوذ التركي، وفق الصحيفة.
وقال اثنان من المصادر لـ"رويترز"، إن الشرع سعى في الاجتماع الذي عقد في 29 يناير في دمشق لإسقاط ديون روسية من عهد الأسد.
وقال محمد أبازيد وزير المالية السوري الشهر الماضي إن سورية، التي لم تكن مثقلة بأي ديون أجنبية تقريباً قبل الحرب، مدينة حالياً بما بين 20 و23 مليار دولار من الديون الخارجية دون أن يحدد كم منها مستحق لروسيا.
وذكر أحد المصادر أن مسؤولين سوريين أثاروا خلال الاجتماع الذي استمر ثلاث ساعات مع ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، مسألة أخرى مهمة، وهي عودة الأسد إلى سورية، لكن الحديث في الأمر كان فقط بصورة عامة، ما يشير إلى أنها لن تمثل عقبة رئيسية في طريق إعادة بناء العلاقات.
وقال مصدر روسي كبير إن بلاده لن توافق على تسليم الأسد، ولم يطلب منها ذلك. وذكر دبلوماسي مقيم في سورية مطلع على المحادثات في سورية أن الشرع حث أيضاً بوغدانوف على إعادة أموال سورية تعتقد حكومته أن الأسد أودعها في موسكو، لكن الوفد الروسي نفى وجود مثل تلك الأموال.
ولم يرد مكتب الشرع ولا مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض على طلبات من "رويترز" للحصول على تعليق.
وفي بيان صدر بعد الاجتماع، قالت الحكومة السورية إن الشرع شدد على أن العلاقات الجديدة تتطلب معالجة الأخطاء السابقة وطالب بتعويضات عن التدمير الذي تسببت فيه روسيا. وقالت كل المصادر إن الاجتماع سار بشكل سلس نسبياً. ووصف الكرملين مكالمة هاتفية جرت بين الشرع وبوتين قبل أسبوعين بأنها بناءة.
ولدى سؤاله من رويترز يوم الثلاثاء عما إذا كانت المحادثات بين موسكو ودمشق عن مصير القاعدتين العسكريتين تحرز تقدماً، قال دميتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين: "مستمرون في تواصلنا مع السلطات السورية... لذلك دعونا نقول إن العملية جارية". ولم ترد وزارة الخارجية الروسية على طلب للحصول على تعقيب.
وقال سيرغي ماركوف، وهو مستشار سابق للكرملين، هذا الشهر، إن الأمور تبدو جيدة بالنسبة إلى موسكو. وكتب على تليغرام أنّ "السلطات السورية الجديدة لا ترى روسيا دولة معادية. لكن على روسيا أن تفعل شيئاً للحكومة السورية مقابل القاعدتين".
معضلة سورية
في مقابلة مع قناة العربية في أواخر ديسمبر/ كانون الأول، أقر الشرع بأن "هناك مصالح استراتيجية عميقة" بين سورية وروسيا، التي زودت على مدى عقود الجيش السوري السابق، بالأسلحة ووفرت التمويل لمحطات طاقة وسدود وبنية تحتية رئيسية أخرى.
ومن جانبها، فإن موسكو عازمة على الحفاظ على قاعدتها البحرية الوحيدة في البحر المتوسط في ظل وجود قوات أميركية في شمال شرق سورية وقوات تركية في الشمال. ومن شأن ذلك مساعدة موسكو على الاحتفاظ بتأثير سياسي وسط صراع دبلوماسي يهدف إلى كسب نفوذ في دمشق بعد سقوط الأسد.
والتقى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره التركي في أنقرة يوم الاثنين. وقال مصدر تركي إن محادثاتهما شملت سورية. ولم ترد وزارة الخارجية التركية على طلب للتعليق.
وتريد دمشق تعويضات عن الدمار الذي خلفته الحرب. ووفقاً للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)، من المتوقع أن تبلغ تكاليف إعادة الإعمار 400 مليار دولار. وقال مصدر مطلع على وجهة نظر روسيا في هذا الشأن إن من غير المرجح أن تقبل موسكو المسؤولية، ولكنها قد تقدم بدلاً من ذلك مساعدات إنسانية.
وفي ديسمبر/ كانون الأول، عرض بوتين استخدام القاعدتين مركزين لتوصيل المساعدات الإنسانية إلى الشعب السوري، وقال سفير موسكو لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا إن تحالف روسيا مع سورية "ليس مرتبطاً بأي نظام". وقال المصدر من وكالة الإغاثة التابعة للأمم المتحدة إنه لا علم لهم بأي مساعدات نُقلَت من خلال القاعدتين.
ومصير الأسد وشركائه الذين فروا إلى موسكو مسألة حساسة. وقالت المصادر الروسية والدبلوماسية إن روسيا لا تزال تمانع في تسليم الأسد، وتصر في الوقت نفسه على الاستمرار في تحالفاتها. وقال المصدر الروسي الكبير: "لا تتخلى روسيا عن الناس ببساطة، لأن الرياح تغير اتجاهها".
ويرى الباحث السياسي محمد الإبراهيم في حديث مع "العربي الجديد" أن الإدارة الجديدة في دمشق "تسعى أيضاً لتجاوز الماضي مع روسيا، في ضوء الضغوط والمساومات التي تواجهها حكومته من جانب الحكومات الغربية". وأوضح الإبراهيم، أن دمشق "ربما تسعى إلى موازنة الدور الغربي بالحضور الروسي".
وحول التوافق بين روسيا وسورية وإسرائيل على إبقاء القواعد الروسية في سورية، قال الإبراهيم إن "لكل طرف اعتباراته الخاصة، وهو توافق مرحلي قد تتغير معطياته في المرحلة المقبلة وفقاً لمصالح كل طرف".