روسيا بعد اتفاق كاراباخ: إنقاذ باشينيان واستعادة دورها في القوقاز

روسيا بعد اتفاق كاراباخ: إنقاذ باشينيان واستعادة دورها في القوقاز

23 نوفمبر 2020
يعاني باشينيان من ضغط شعبي هائل يهدّد بإطاحة حكومته (Getty)
+ الخط -

توظف روسيا إمكاناتها العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية من أجل منع انهيار اتفاق وقف إطلاق النار بين أرمينيا وأذربيجان في إقليم ناغورنو كاراباخ، الموقّع في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي برعايتها، والمضيّ في تنفيذ بنوده. وغداة تحذير ثانٍ أطلقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من آثار كارثية على الأوضاع في جنوب القوقاز في حال عدم الالتزام بالاتفاق، توجه وفد روسي كبير ضم وزيري الدفاع سيرغي شويغو والخارجية سيرغي لافروف ونائبين لرئيس الحكومة ووزيري الصحة والطوارئ، إضافة إلى مسؤولين عن كبريات الشركات والهيئات الحكومية، إلى يريفان وباكو. وعلى خلفية تحذير موسكو من أن أطرافاً خارجية تعمل على تعطيل تنفيذ الاتفاق، وتأجيج الغضب العارم في أرمينيا على رئيس الوزراء نيكول باشينيان بعد الخسارة في الإقليم، سعى الوفد الروسي إلى دعم حكومة الأخير من الانهيار.

لم يتمكن الكرملين من وقف الحرب في التوقيت الذي يناسبه
 

وفي أولى محطاته في يريفان، دعا لافروف إلى التمسك بتنفيد اتفاق وقف إطلاق النار الموقّع بين أرمينيا وأذربيجان برعاية الرئيس فلاديمير بوتين، وأوضح أن "الجانبين الروسي والأرميني شدّدا بالإجماع على أن محاولات التشكيك في هذا البيان، سواء أكان ذلك داخل البلاد أو خارجها غير مقبولة". وفي محاولة لإعادة تسويق الاتفاق على أنه كان ضرورياً ومهماً، وضمان التزام أرمينيا به، نقل لافروف لباشينيان والرئيس أرمين سركيسيان تشديد بلاده على أن الاتفاق "ساهم في حل المشاكل بالغة الخطورة وإنقاذ الأرواح". وأغلق المسؤول الروسي الباب أمام أي محاولة لتغيير بنود البيان الثلاثي، بإشارته إلى أن قادة أرمينيا أقروا بأن "البيان المشترك (اتفاق وقف إطلاق النار) يعتبر طريقاً لا بديل له لتسوية الوضع الذي كان قبل بضعة أسابيع صعباً للغاية". من جهته، كشف شويغو في لقاء مع باشينيان أن الوفد الروسي حمل معه "خطة كبيرة ويعتزم تنفيذها". أما باشينيان فأعرب عن أمله في "تعزيز التعاون مع موسكو ليس في المجال الأمني فحسب، بل في مجال التعاون العسكري التقني أيضاً".

مهمة الوفد الروسي في يريفان تزامنت مع تجدد زخم التظاهرات المطالبة باستقالة باشينيان لتحميله المسؤولية عن الهزيمة في ناغورنو كاراباخ. وقال المسؤول السابق في الإقليم، روبين ملكونيان، في ساحة الاحتجاجات وسط يريفان، إن رئيس الوزراء مسؤول عن "أزمة كرامة في مجتمعنا، وأزمة اجتماعية وأخلاقية واقتصادية"، مضيفاً: "فقط بعد مغادرة باشينيان، يمكننا استعادة كرامتنا والوقوف على أقدامنا".

وعلى عكس المهمة الصعبة في يريفان، استقبلت باكو الوفد الروسي بارتياح واضح بعد تمكنها من استعادة معظم أراضيها المحتلة نتيجة الحرب (1988 ـ 1994)، وفرض سيطرتها على نحو ثلث أراضي الإقليم، وقدرتها أخيراً على فتح الطرق إلى إقليم ناخيتشفان المحاط بالأراضي الأرمينية والمحاذي لتركيا بشريط حدودي صغير بنحو 8 كيلومترات. ورحّب الرئيس الأذري إلهام علييف بنشر قوات حفظ سلام روسية على حدود إقليم ناغورنو كاراباخ، ومحيط ممر لاشين وناخيتشفان، وشدّد على أن هذه القوات تعد عامل استقرار مهماً.

وتكشف جولة الوفد الحكومي الروسي عن جملة أولويات روسية جديدة في جنوب القوقاز، أهمها إنقاذ حكومة باشينيان، وإقناع أذربيجان بأهمية تخفيف انفتاحها الكبير على تركيا والتأكيد أن روسيا هي الضامن الأهم في منظومة أمن القوقاز، والمهتمة بمستقبل شعوب المنطقة من الأرمن والأذريين على حد سواء عبر فتح بوابات التعاون الاقتصادي والإنساني لمعالجة آثار الحرب. وتعمل روسيا على إغلاق الباب أمام محاولات إعادة التفاوض على الاتفاق الثلاثي لوقف النار من قبل "مجموعة مينسك" المكلفة بحلّ الصراع منذ 1994 من دون نتائج ملموسة، وتلمس إمكانية إيجاد تسوية نهائية على المدى الأبعد عبر استطلاع آراء الطرفين. وجاءت الجولة عقب اضطرار بوتين للدفاع عن الاتفاق الثلاثي مرتين في الأسبوع الماضي، فيوم الثلاثاء الماضي أكد الرئيس الروسي أن الاتفاق يسمح بإرساء أسس "تطبيع دائم" في ناغورنو كاراباخ حتى ولو لم تتم تسوية "مشكلة" وضعه. ورأى أن مصير الإقليم "سيتقرر مستقبلاً أو من قبل القادة الجدد الذين سيشاركون في هذه العملية"، لافتاً إلى أن التراجع عن الاتفاق يعد "انتحاراً". وشدّد على أنه لا أساس للاتهامات الموجهة لباشينيان بالخيانة.

كشف شويغو في لقاء مع باشينيان أن الوفد الروسي حمل معه "خطة كبيرة ويعتزم تنفيذها"

ومن الواضح أن تصريحات بوتين تصب في الدفاع عن باشينيان، وبقائه في الحكم، ولكنها في المقابل تنبع من الدفاع عن إخفاق موسكو في إدارة الملف من عدة جوانب، أولها عدم قدرتها على توقع إطلاق أذربيجان الجولة الأخيرة من الحرب في 27 سبتمبر/ أيلول الماضي. كما تكشف تصريحاته أنه كثف اتصالاته مع الجانبين لتوقيع اتفاق 9 نوفمبر منذ 19 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ما يعني أن الكرملين لم يستطع وقف الحرب في التوقيت الذي يريده، وواضح أن أذربيجان واصلت تقدمها لتحقيق مكاسب تمكّنها من فرض شروطها. ثم باتت جاهزة لتلبية نداء الكرملين بعد السيطرة على مدينة شوشة الاستراتيجية، في مقابل اضطرار حليف الكرملين الأرميني للتوقيع على الاتفاق بعد انهيار قواته بالكامل وبات أقرب إلى "الاستسلام".

ويبدو أن موسكو بدلت مواقفها من باشينيان بالكامل بعد توقعات بأن تؤدي التظاهرات إلى إزاحته، هو الذي صعد إلى الحكم بثورة مخملية ربيع عام 2018. وعلى الرغم من أن سيناريو إطاحة باشينيان يرضي موسكو غير المتحمسة للثورات الملونة أساساً، والمتحفظة على تقاربه مع الغرب، إلا أن بوتين هبّ في تصريحاته الصحافية في 17 نوفمبر للدفاع عنه، لخشية موسكو من تصاعد الخطاب المعادي لها في يريفان بعد هدوء العاصفة الحالية بدعم من الجاليات الأرمينية في الغرب. ومن الواضح أن النقمة الشعبية "العاطفية" على باشينيان يمكن أن تتحول لاحقاً على روسيا التي لم تلتزم باتفاقاتها الدفاعية مع يريفان بحسب كثير من الأرمن. وفي حال تشكل تيارات سياسية جديدة في أرمينيا يمكن أن تقود حراك الشارع، فإن أي انتخابات مستقبلية قد تفرز قيادات أكثر عداء لروسيا، وتحملها مسؤولية ما حصل من "هزيمة قومية ثقيلة". وهو ما يبرر إطراء بوتين لباشينيان "الصادق" أمام شعبه، وإشارته إلى أن التغيير سيكون "انتحاراً".