رحيل سيد أحمد غزالي... 3 عقود في قلب المراحل القلقة بالجزائر
استمع إلى الملخص
- التحديات في التسعينيات: تولى رئاسة الحكومة خلال اضطرابات سياسية بعد انتفاضة 1988، وحاول التفاوض مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ، لكنه استقال في 1992 بعد اغتيال الرئيس بوضياف.
- محاولات العودة: سعى للعودة عبر الترشح للرئاسة وتأسيس حزب، لكنه واجه صعوبات سياسية ولم ينجح في تغيير صورته كأحد وجوه أزمة التسعينيات.
لم يكن المسار السياسي لرئيس الحكومة الجزائرية سيد أحمد غزالي، الذي توفي الثلاثاء في المستشفى العسكري بالعاصمة الجزائرية عن عمر ناهز 88 عاماً، مستقراً على حال، إذ كانت كل المراحل التي شهدها في مسيرته حتى وفاته متوترة على صعيد سياسي أو اقتصادي، وكان الرجل خلال ثلاثة عقود من العمل في المؤسسات والسياسات الاقتصادية في قلب مرحلة حساسة من التاريخ السياسي والاقتصادي للجزائر، دون أن ينجح في أن يكون رجلاً محورياً في أي من هذه المراحل، كما لم تسعفه الأوضاع في لعب دور أكبر.
ارتبط غزالي لدى عامة الجزائريين بصورة سياسي يرتدي "فراشة" عنق بدلاً من ربطة العنق الاعتيادية، وحين سُئل عن ذلك قال إن "الفراشة عملية أكثر ولا تعيقه عند الصلاة. يتحدر غزالي من منطقة معسكر، مدينة الأمير عبد القادر الجزائري، ويقول في مقدمة كتابه "كلمات الأمل": "وُلدت في مدينة تيغنيف في منطقة معسكر، وأجدادي من الوالدة يتحدرون من هذه المنطقة، وهم أحفاد الأمير عبد القادر الجزائري. أما أجدادي للوالد فهم من ندرومة، على الحدود الغربية للجزائر، وهي مدينة عبد المؤمن بن علي، مؤسس الدولة الموحدية، الذي حكم منها المغرب العربي الكبير".
تخرج غزالي مهندساً من مدرسة الهندسة في باريس، والتحق مباشرة بعد الاستقلال بالعمل في وزارة الاقتصاد والأشغال العمومية والطاقة، قبل أن يلعب دوراً بارزاً في تأسيس شركة سوناطراك، عملاق المحروقات في الجزائر، وكان ثاني مدير عام للشركة، ولفترة طويلة امتدت 13 عاماً، بين 1966 إلى 1979، وساهم في تحقيق وإنجاز المشاريع الكبرى في مجال المحروقات، كمركبات تكرير النفط والتنقيب في الصحراء وتكوين كوادر الشركة، وكان أبرز إنجاز في خضمها تأميم المحروقات واستعادة ثروات البلاد من الهيمنة الفرنسية في فبراير/شباط 1971، وخاصة أن البلاد كانت فتية بعد بضع سنوات من الاستقلال، وكانت تفتقد إلى العدد الكافي من الكوادر والمهندسين في هذا المجال.
بعد هذا المسار الاقتصادي المشرف ولعبه دوراً تاريخياً في التأسيس لصناعة المحروقات في الجزائر، يبدأ غزالي مساراً سياسياً متقلباً، ويُعين وزيراً للطاقة، وبين عامي 1984 وحتى عام 1988 كان غزالي يشغل منصب سفير للجزائر لدى بلجيكا وهولندا، وممثلاً للجزائر لدى الاتحاد الأوروبي، ومباشرة بعد انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1988 التي أطاحت نظام الحزب الواحد ودخول البلاد عهد التعددية السياسية، عين غزالي وزيراً للمالية، وفي العام التالي، في سبتمبر/أيلول 1989، عين وزيراً للخارجية، حيث كانت السلطة السياسية ترى أن شبكة العلاقات التي توفرت لغزالي في فترة عمله في بروكسل قد تساعده على توفير دعم ومساعدة اقتصادية ومالية للجزائر، التي كانت تعاني من أزمة خانقة.
بعد أحداث يونيو/حزيران 1991، والمواجهات الدامية بين الجيش والأمن ومناضلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ (حُلت في مارس/ آذار 1992)، نتيجة للإضراب السياسي والعصيان المدني الذي أعلنته الجبهة في 25 مايو/ أيار 1992، استقال رئيس الحكومة مولود حمروش، وصعد سيد أحمد غزالي إلى رئاسة الحكومة في الخامس من يونيو/ حزيران 1991، في فترة كانت بالغة الصعوبة، إذ تسلم الحكومة في مناخ من التوتر والاضطراب السياسي، حيث كانت السلطات قد بدأت في تنفيذ حالة الحصار لمدة أربعة أشهر بهدف استتباب الأمن.
في 17 يونيو من العام نفسه شكل غزالي أول حكومة له، لكنه كان قد نجح قبل ذلك بأيام بالاجتماع مع قياديي جبهة الإنقاذ عباسي مدني وعلي بلحاج، وأقنعهما بوقف الإضراب السياسي، لكن غزالي والسلطة واجها أزمة ما يعرف "بالبلديات الإسلامية"، حيث أصرت جبهة الإنقاذ على تعليق لافتة "بلدية إسلامية"، على مقار البلديات التي كانت قد فازت بها في انتخابات سبتمبر/أيلول 1990.
وفي 16 يناير/كانون الثاني 1992، شارك سيد أحمد غزالي في استقبال القيادي البارز في ثورة الجزائر محمد بوضياف لدى عودته من منفاه في المغرب إلى الجزائر، لترؤس المجلس الأعلى للدولة، بعد وقف المسار الانتخابي في 12 يناير/ كانون الثاني 1992. بعد ستة أشهر يغتال بوضياف في عنابة، شرقي الجزائر، على يد عضو في فريق الحرس الرئاسي، وضمن حزمة من التخمينات في خلفيات الاغتيال، تتردد بعض التعليقات التي تخبر بأن غزالي كان يفترض أن يكون إلى جانب الرئيس بوضياف في تلك الزيارة، لكنه لم يسافر إلى عنابة لسبب ما، لينفي غزالي لاحقا أن يكون عدم مرافقته للرئيس سببه وجود معلومات تحذيرية من حدث صعب يدبر للرئيس، لكنه أقر في برنامج تلفزيوني بأن "هناك غموضا يلف قضية اغتيال بوضياف".
سيد أحمد غزالي... الاغتيال والاستقالة
في الثامن من يوليو/تموز 1992 يستقيل غزالي من رئاسة الحكومة، "لدواعي احترام النفس والمسؤولية"، ولأنه "لا يستطيع أن يبقى على رأس حكومة يقتل في ظلها الرئيس"، وفق قوله، وعلى الرغم من أن رئاسة سيد أحمد غزالي للحكومة لم تدم سوى وقت قصير بحدود عام وشهر واحد بين يونيو 1991 ويوليو 1992، فإن قطاعاً واسعاً من المجتمع السياسي في الجزائر، وبخاصة من الإسلاميين، ينظرون إلى غزالي باعتباره وجهاً من وجوه الأزمة الأمنية أو على الأقل مشاركا في تدبير التوجه الذي سارت إليه البلاد بقرار وقف المسار الانتخابي من قبل الجيش بعد سيطرة الإسلاميين (الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلة) على الانتخابات النيابية.
حاول غزالي لعب دور سياسي يضمن له البقاء في الساحة السياسية، وترشح في استحقاقين رئاسيين على التوالي لمنافسة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، لكنه لم ينجح مطلقا في اجتياز امتحان جمع التوقيعات من الناخبين، وهذا يفسر الصعوبة التي كان يجدها الرجل في الخروج من دائرة وضعته فيها الأحداث، بكونه وجها من وجوه أزمة التسعينيات، ومثل هذه الأوضاع يكون من الصعب على أي شخصية سياسية تغيير هذه الصورة والخروج من هذا المربع.
بعد عام 2010، حاول غزالي العودة إلى المشهد السياسي عبر واجهة حزبية، حيث أسس حزب الحركة الديمقراطية، لكن الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة رفض اعتماد حزبه، بسبب تبني غزالي مواقف مناوئة لبوتفليقة، وحديثه عن الفساد والسياسات الخاطئة، ما أدى إلى انفراط عقد هذا الحزب الفتي. وفي فترة الحراك الشعبي في فبراير/ شباط 2019، شارك غزالي في اجتماعات قوى التغيير التي كانت تضم أقطاب ورموز المعارضة السياسية، وقال غزالي حينها إن "المعارضة تبذل جهدها لأجل إقناع السلطة بضرورات الإجماع الوطني لكن هذه الأخيرة لا ترى في المعارضة شريكاً في العملية السياسية"، لكن وخلال أحد هذه الاجتماعات واجه غزالي رفضاً حاداً من قبل الناشط السياسي البارز كريم طابو، الذي أحتج على حضور غزالي اجتماعات قوى المعارضة، ووصفه بأنه "أحد الوجوه التي صنعت أزمة التسعينيات" ورفض إكمال الاجتماع.
أميركا والعلاقة مع "خلق"
ارتبط غزالي في فترة سياسية بعلاقات جيدة مع الأميركيين منذ عمله في قطاع الطاقة والمحروقات، وفي إبريل/نيسان 2014، وفي ظرف صحي خاص بالنسبة للرئيس السابق بوتفليقة زار وزير الخارجية الأميركي جون كيري الجزائر، وأصر على لقاء غزالي خارج البرنامج الرسمي للزيارة، على الرغم من أن غزالي كان في موقف معارض للرئيس بوتفليقة ولمحيطه، كما ارتبط غزالي بشكل لافت مع حركة خلق المعارضة للنظام الإيراني، وكان حريصاً على حضور أنشطة هذه الحركة، كما كان رئيس لجنة التضامن العربي الإسلامي مع المقاومة الإيرانية، ورئيس اللجنة العربية الإسلامية للدفاع عن سكان أشرف.
وفي عام 2010 شارك غزالي في حملة دولية واسعة تهدف إلى دفع إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما الى حذف حركة مجاهدي خلق من لائحة الإرهاب، وكانت له مواقف حادة تجاه طهران ونظام الملالي في إيران. في كثير من الندوات الصحافية واللقاءات السياسية كان يتحدث عما يصفه "دعم إيران للجماعات الإرهابية في الجزائر"، ويعتقد أن قرار الجزائر قطع العلاقات مع إيران في منتصف التسعينيات كان بسبب ذلك.
مثل كثير من المسؤولين الجزائريين، رحل غزالي دون أن يترك كتابات كثيرة ومذكرات يسرد فيها شهادته حول مراحل ومحطات مهمة عاشها مسؤولاً في الدولة ومؤسساتها، ويكشف حقائق عن فترات سياسية عصيبة، كبدايات الأزمة السياسية والأمنية في التسعينيات وكواليس الاجتماعات التي سبقت توقيف المسار الانتخابي، وتلك خسارة للتاريخ والأجيال الجزائرية.