استمع إلى الملخص
- تولت هيئة تحرير الشام السلطة، لكن لم تُتخذ خطوات جادة لبناء دولة جديدة، وسط انتقادات للتحضيرات المرتبكة لمؤتمر الحوار الوطني وأداء الحكومة المؤقتة.
- يواجه السوريون تحديات اقتصادية كبيرة، مثل انقطاع الكهرباء وتدهور الخدمات، مما يجعلهم يتأرجحون بين التفاؤل بمستقبل أفضل والواقع الصعب.
من أولى الأولويات أن تنحل أم المعارك اليومية... انقطاعات الكهرباء
فائض من الفرح ثم قليل من التفاؤل
المسافة هائلة بين أجواء "سورية الحرّة" وأجواء "سورية الأسد"
ليس مقهى الروضة في الإطلالة الثانية على حاله كالأولى
لم يفعل قائد طائرة الخطوط القطرية التي حلّقت بنا من الدوحة إلى دمشق، غداة انتهاء الشهر الثاني على سقوط نظام بشّار الأسد، ما فاجأنا به زميلُه قائد الطائرة القطرية، التي طارت بنا، عشيّة انتهاء الشهر الأول على الحدث المدوّي، في المسار نفسه، لمّا أخبرنا بأننا عبرْنا "أجواء سورية الحرّة". قد يبدو الأمر بالغ العادية، فلم يكن الطيّار الثاني مضطرّاً ليُلزم نفسه بهذا، سيما وأن تلك الرحلة كانت الأولى، بعد انقطاع 13 عاماً، وبعد طول استبدادٍ وعسفٍ وحربٍ في سورية. ولكن في الوسع أن يُقرأ هذا الأمر النافل على محمل آخر. لمّا سمعنا ما "فاجأنا" به الطيار الأول، علا الهتافُ والتصفيق، بيننا نحن الرّكاب، وغالبيّتنا سوريون، كثيرون منهم قادمون من دولٍ عربيةٍ وأوروبية، انتظروا أول طائرة من أي بلدٍ تأخُذُهم إلى الشام. وانتشى ركّابٌ كثيرون بهذا المسمّى "سورية الحرّة"، فطلبوا من المضيفين والمضيفات أن يُبلغوا قائد الطائرة بأن يعيد "مفاجأته" هذه، ليمكنهم تسجيلَها في هواتفهم، فاستجاب الرجل، فسمعنا، ثانيةً، أننا عبرْنا "أجواء سورية الحرّة". لم يحدُث شيءٌ من هذا في الرحلة التالية، بعد شهر وثلاثة أيام بالضبط، فقد بدا، على ما دلّت مشاهداتٌ في دمشق في غضونها، أن "عُرساً" انتهى، وليس من السويّ أن يبقى الناس في أعراس، فمشاغل الحياة تفرض عليهم أن يكترثوا بشؤونهم، وأنْ يتمنّوا لأنفسهم أن تبقى حياتُهم كلها أعراساً.
كانت تلك اللحظات بين السماء والأرض أولى موجات الفرح العظيم الذي لقيتُه في الإطلالة الأولى على دمشق "الحرّة"، ليس فقط في كل السوريين والفلسطينيين السوريين الذين التقيتُ بهم في ستة أيام هناك، بل في كل من صادفتْهم عيناي في جولاتٍ في أحياء "الشام" (وهذه تسمية دمشق الذائعة). الفرح بخلاصٍ من اختناقٍ ثقيل كان الناس فيه هنا، كانت سورية محتلّة به، فالذي حدَث فجر الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024 أن سورية تحرّرت. لا مبالغة في القول إنها حقّقت استقلالاً ثالثاً، بعد استقلاليْها، في 1920 العام الذي أعلن فيه المؤتمر السوري العام سورية دولةً مستقلة، وبويع فيصل بن الحسين ملكاً عليها، وفي 1946 مع جلاء قوات الاحتلال الفرنسي عنها.
ما قبل الحوار الوطني
لم تمض هيئة تحرير الشام التي انعقدت لها السلطة في البلاد، في الشهر الأول من "نشاطاتها"، إلى أي خطواتٍ في بناء أنوية بناء دولة الاستقلال الثالث، المستجدّ، فلا إعلان دستورياً سمعه السوريون، ولا قرارات عليا بشأن مؤسّسات حكمٍ انتقاليٍّ أو مؤقّت قد اتُّخذت، باستثناء تشكيل حكومةٍ مؤقتةٍ، غالبية أعضائها من جهاز الحكومة التي أدارت محافظة إدلب في شمال غربي سورية، وتشكّلت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017. وقد أتيح لكاتب هذه الكلمات، مع جمعٍ من الزملاء، الالتقاء برئيس الحكومة في دمشق محمد البشير، وبدا لنا، وهو على تهذيبٍ عالٍ، أنه يتّصف بالبساطة. لم يُتح لنا سؤالُه عن "أجواء" التهيئة لمؤتمر الحوار الوطني الذي ظلّت تتوالى أخبارٌ وتقديراتٌ بشأنه بأنّ عملاً جارياً من أجل انعقاده. ولم يُسعفنا وزير الإعلام محمد العمر، في لقائنا، نحن أربعة زملاء، معه، بتفصيلٍ سوى أن هذا العمل جارٍ أيضاً. وتبدّى لنا، جمهرة الإعلاميين الذين ازدحم بهم فندق الشيراتون، في دردشات تسقّط الأخبار بيننا، أن ارتباكاً ظاهراً في تهيئة الظروف وإنضاج ترتيبات عقد المؤتمر العتيد، والذي لم تتّضح، في حينه، صلاحياتُه ومعالم تشكيلة أعضائه.
لا تحتاج إلى بصيرة خاصة لتلحظ في السوريين في دمشق أنهم تحرّروا من قوة احتلال في ذلك الفجر الذي فرّ فيه بشار الأسد
على غير هذا الأمر، أُعلن، في غضون الزيارة التالية، عن أسماء أعضاء اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني، بينهم سيّدتان، بل وأُتيح لنا، نحن زملاء ثلاثة، أن نلحظ مؤتمراً صحافياً لهم في الطابق الأرضي في مبنى وزارة الإعلام، في أثناء دخولنا إليها، لجلسةٍ أخرى مع الوزير نفسه، أخبرنا فيها بأن حكومة جديدة في البلاد ستُعلن في الأسبوع الأول من مارس/ آذار الجاري، وأنه قد لا يكون من وزرائها. وأبدى "نزوعاً" رقابياً، عارضاً، عندما جاء حديثٌ، عابرٌ، عن معرضٍ مصغّر للكتاب يجري الترتيب له في دمشق. وتالياً، انعقد مؤتمر الحوار الوطني، وصدر عنه بيانٌ ختاميٌّ في 18 نقطة، استحسنها السوريون، وإن قوبلت ببعض انتقادات، غير أن الكيفيّات التي انتظم فيها، والتعجّل فيه، وتوجيه الدعوات إليه بكثيرٍ من التسرّع، جعلته موضع تجاذبٍ وخلافٍ واختلاف.
لم تستقبل نخبٌ سوريةٌ ناشطة ومثقفة بكثيرٍ من الرضا أسماء أعضاء اللجنة التحضرية، وإنْ أبدى بعضهم رأياً يذهب إلى الخروج من هذا التفصيل إلى انتظار ما ستؤدّيه اللجنة، وما ستعكف عليه نقاشات المشاركين في المؤتمر، بعد التعرّف إلى كيفيات اختيار هؤلاء، واستكشاف مدى تمثيليّتهم. ومع عدم استحسانه تشكيلة اللجنة، أبدى صديقٌ سوري، وهو ناشط من داريا، رافق عملية ردع العدوان منذ انطلاقتها في إدلب وصولاً إلى فرار الأسد من دمشق، إيجابيةً بشأنها باتجاه انتظار أدائها، بدلاً من الاستغراق في عدم إعجابنا بفلانٍ أو فلانة، على ما حدّث صاحبَ هذه الكلمات في فندق الشيراتون الذي قلّ كثيراً فيه ازدحام الإعلاميين القادمين من الخارج في "الإطلالة" الثانية عمّا كان عليه في الأولى، ما قد يُستشعَر منه شاهداً على أن "العرس السوري" كأنه انتهى. وتالياً، في واحدةٍ من اللقاءات، الثلاثين كما قالوا، والتي عقدتها اللجنة التحضيرية، في المحافظات السورية وعدّة مدن، سمع أعضاء اللجنة من الصديق نفسه ما يراها من انتظاراتٍ يتطلّع إليها السوريون من هذا الجمع الوطني.
البهجة بانتهاء دولة البوليس
المسافة هائلة، وليس في المقدور قياسُها، بين أجواء "سورية الحرّة" وأجواء "سورية الأسد"، والكلام الكثير عن مؤتمر الحوار الوطني وعن المؤتمر الوطني الذي يلحّ عليه مثقّفون سوريون، وهم يأتون على وجوب تسطير عقد اجتماعيٍّ وسياسيٍّ جديد ينعطف إليه السوريون، سمعت منه مقداراً كبيراً في الإطلالتين في دمشق، في محاورات مع أصدقاء وصديقات هناك، غير أن الذي اتضح، بيسر، أن "الهوى" السياسي، بمسبقاته وخلفيّاته، يؤثّر على الأحكام والمواقف ووجهات النظر، فأصحاب الميل الإسلامي قد يتزيّدون في "مباركة" كل خطوات الإدارة الجديدة، فيما أصحاب النزوع اليساري، ومعهم ذوو الجنوح الليبرالي، لا يُخفون تحفّظاتهم على كثيرٍ من أداء السلطة القائمة، بل ومعارضتهم لها. ومع التحرّر العام من الخوف، والابتهاج بالتخلّص من نظام آل الأسد، ليس عسيراً على زائر دمشق في إطلالتيْن عليها بينهما أن يلحظ سرعة مغادرة السوريين الإقامة في مفاضلةٍ بين ما كانوا عليه وما صاروا فيه، على صعيد حرية الكلام والتعبير، وليس على صعد أخرى، تتعلق بالحال المعيشي، وتوفّر الخدمات. وقد أوْجز لي سائق تاكسي أجرة، وكنتُ مع صديقيْن، القصة كلها، لمّا "تمازحتُ" معه، ورحتُ أستفزّه بحديث "دفاعي"، ببعض الطرافة، عن بشّار الأسد، عندما قال إن أوضاعه ما زالت "زفت"، لكن نفسيّته تحسّنت. وأغدق على الأسد شتائم غزيرة.
قال سائق سيارة الأجرة إن أوضاعه ما زالت "زفت"، لكن نفسيّته تحسّنت. وأغدق على الأسد شتائم غزيرة
وأنتَ لا تحتاج إلى بصيرة خاصة لتلحظ في السوريين، عندما تكون بينهم في دمشق، أنهم تحرّروا من قوة احتلالٍ، في ذلك الفجر الذي فرّ فيه بشار الأسد إلى "جهةٍ غير معلومة"، قبل أن يتبيّن عصراً أنه في موسكو، قوة سيطرة ونهب واستبداد مريع، واجهت انتفاضة العام 2011 بأقصى ما لديْها من نيران، وبتوحشٍ وشهوةٍ في الفتك والتدمير، لا مدعاة هنا للإتيان على أعداد الضحايا والمشرّدين والنازحين والمفقودين، فالأعداد ميسورة ومنشورة، ولا مدعاة أيضاً للتذكير بأن لجوء نظام الأسد إلى غاز السارين والبراميل المتفجّرة والصواريخ على البشر والحجر في أريافٍ ومدنٍ ونواح بلا عدد في شرق البلاد وغربها، في شمالها وجنوبها، موصولٌ بأرشيفٍ مثقلٍ بعذاباتٍ باهظةٍ أتعبت السوريين منذ اختار حافظ الأسد البوليسيّة والعنف والترهيب والتخويف والقسوة أدواتٍ في تعظيم سلطته الغليظة، وهو الذي استقبل السوريون انقلابَه، وكان وزيراً للدفاع، على رفاقه في 1970، بشيءٍ من الارتياح، سيّما وأنه افتتح حكمه بانفتاحٍ نسبي، واستعادت سورية معه حضورها القوي في الإقليم، وعلاقاتها الحسنة مع دول الخليج، وأخذَت الدولة في مطالع عهده بخياراتٍ في الاقتصاد والتسيير والتنمية، يسّرت للفئات المتوسّطة والفقيرة حظوظاً متقدّمةً في التعليم العالي وفي التوظيف في الدولة وفرصاً إنتاجية وصناعية للقطاع الخاص.
ولكن دولة الخوف الأسدية التي منعت السوريين من مزاولة السياسة، وأخذتهم إلى حكم شموليٍّ لا يرى في غير القوة المحضة وسيلةً لإخضاع المجتمع لإرادة الرئيس، لا تتيح للناظر في خيارات حافظ الأسد في إدارة الدولة، في صعد الاقتصاد والتنمية والصناعة، أن يُسجّل ما قد يُسجّل لهذا الرجل، سيّما ما كانت عليه إدارته للدولة في طوْرٍ قصيرٍ من السبعينيات، قبل أن تشتدّ المعارضة المسلحة، الإخوانية وغيرها، ضدّه، ومع تعاظم نفوذ سورية وجيشها في الجوار اللبناني، عسكرياً وأمنياً ومخابراتياً، ومع تظهيرٍ صار أشدّ وضوحاً لسمتٍ طائفيّ في ترسيم أجهزة النظام ومراكز التحكّم في الدولة والمجتمع. وبذلك، ولغير سببٍ وسبب، يصحّ كل قول إن العسف الذي مضى فيه عهد بشّار الأسد، أزيد من عقدين، موصولٌ تماماً بإرث الأسد الأب، على صعيد الاحتكام للعنف وحدَه، سيّما وقد تمكّنت ذئاب الفساد والنهب، من أسرة الأسد الحاكمة، والمرتبطين بمصالح مع زوجته، ومن غيرهما، في عضونهما من التهام الدولة على حساب الجيش وقدراته وتأمين جنوده وعساكرِه بحدودٍ معيشيةٍ مُرضية، مع عظيم المزايا ومساحات استغلال السلطة لدى كبار الضباط.
في مقهى الروضة
أزال السوريون كل مظاهر تدلّ على أي حضور للأسدين، الأب والابن، من صور وشعارات وتماثيل (لم تكن هناك تماثيل لبشار في ظنّي). وتلحظ أنت الزائر أن جهداً كبيراً أنفقوه في "تنظيف" دمشق (ومؤكّد في عموم المحافظات) من هذا كله، وهو كثير جداً. كما التغيير الذي سورع إليه في مُسمّيات مرافق عامّة وميادين وجسورٍ قُرنت بالأسد، فمكتبة الأسد الوطنية صارت المكتبة الوطنية، وجسر الرئيس (حافظ الأسد) صار جسر الحرية (أو الساروت بتسمية شعبية). غير أنه قويّ الدلالة ما وقعت عليه عيناي على مبنى معهد الأمراض الجلدية والزهرية التابع لكلية الطب في جامعة دمشق "حافظ الأسد... قائدُنا إلى الأبد"، ومرفقة بنحت صغير لحافظ الأسد. المبنى عتيق، وفي علوّه كانت هذه العبارة ليست بخطّ يد، وإنما ناتئة من الحائط، بارزة، كما النحت (المُتقن بعض الشيء). لقد بدا أن تكسيراً بأدوات حديدية (إزميل أو ما شابه) يلزم لإزالة هذا الأبد. وبدا أن هذا يحتاج وقتاً أو ربما قراراً ما. والقناعة التي يخلُص إليها زائر متأمّل، متمهّل، يزور "الشام" أول مرّة (وثانيها) بعد آخر زيارة قبل 29 عاماً، أن القرار اتخذه السوريون، وحسموه، الخلاص التام والمطلق من كل إرث الاستبداد الذي صنعه حافظ الأسد وابنه، غير أن الوقت طويل أمامهم لصناعة مستقبلٍ ينهض فيه بلدهم ويتعافى.
استدعى الإتيانَ هنا على نتفٍ من أرشيف حافظ الأسد الذيوعُ المهول في المقاهي والمطاعم، وفي الساحات أحياناً، في دمشق، في غضون الإطلالة الأولى، لأغنيةٍ يتنغّم فيها ترداد "يلعن روحك يا حافظ"، والتي ينتشي سامعوها بتطريبٍ فيها يُتقنه مغنّوها، وهي التي لا أدري كاتبَها ولا ملحنها، وإن قرأتُ إنها ربما لإبراهيم القاشوش. ولا أظنّ هنا أن شعباً بلغ فيه الغضب من حاكم مبغوضٍ خلعه، أو سقط وانزاح بكيفيّةٍ أو أخرى، وتوفّاه الله، أن يلعن روحَه. وكأن القسوة في الأغنية هذه (يُزاد فيها لعن روح أنيسة، زوجة حافظ الأسد)، معطوفة على إقدام مسلحين سوريين على إحراق ضريح حافظ الأسد في القرداحة (محافظة اللاذقية) بعد يومين من انهيار النظام وفرار بشّار الأسد إلى موسكو. تسمَع هذه الأغنية، وكذا "ارفع راسك فوق... إنت سوري حرّ"، و"بِندوسهم بِندوسهم ... آل الأسد بِندوسهم"، في مقهى الروضة (في شارع العابد)، بصوت عالٍ يضج في المقهى الفسيح (750 متراً مربعاً)، مع تفاعلٍ كبير من الروّاد الذين يتقاطرون بأعدادٍ كبيرة، وقد صار هذا المقهى العريق (يعود إلى العام 1938)، ملتقى لا بد منه للوافدين من "سوريي الخارج"، ومنهم معارضون لنظام الأسد.
ويحدّثك أصدقاءُ بصحبتك أو تلتقيهم فيه عن عسس أجهزة نظام الأسد الذين كانوا يتوزّعون في "الروضة"، فيما مثقّفون وسياسيون لا يكترثون بهم، ويخوضون في نقاشاتهم ودردشاتهم في شؤون البلد. وزياراتٌ ثلاث إلى المقهى، في الإطلالة الأولى، شاهدتُ فيها "العرس السوري" مُبهجاً، سيّما مع "عراضات" شامية (زفات أعراسٍ يؤدّيها جمع من الشبان بأردية تقليدية مع أغانٍ من الفلكلور المحلي) تستقبل شخصياتٍ وطنيةً وثقافيةً وفكريةً وعسكريةً قادمةً من الخارج إلى بلدها. وصودف أنني، في الزيارة الثالثة، عشيّة عودتي إلى الدوحة، ابتهجتُ مع عموم روّاد المقهى بعراضةٍ استقبَلت مؤسّس الجيش السوري الحر، العقيد رياض الأسعد، الذي كان من أوائل الضبّاط الذين انشقّوا عن الجيش السوري في العام 2011، واستهدفه تفجير عبوة ناسفة أدى إلى بتْر إحدى ساقيه.
أزال السوريون كل مظاهر تدل على أي حضور للأسدين من صور وشعارات وتماثيل
لم يكن مقهى الروضة في زيارة في الإطلالة الثانية على تلك الحال في الزيارات الثلاث، لا عراضات ولا أهازيج ولا أغنياتٍ تضجّ في المكان، تلعن روح حافظ الأسد وتجهر بدوْس آل الأسد وتعلن السوريّ مرفوع الرأس حرّاً. الروّاد في مقاعدهم المصنوعة غالبيّتها من الخيزران يتحادّثون في ما يتحادّثون فيه، والزحمة في المقهى أقلّ. ويمكن، هنا، من غير احتراس، أن يفترض واحدُنا أن "أجواء" مقهى الروضة بين إطلالتيْن تدلّ على أن العرس السوري كأنه انتهى. العرس الذي كان واحداً من مشاهده ذلك الحفل الكبير، مع اكتمال الشهر الأول على زوال نظام الأسد، ونظّمه في صالة الفيحاء "فريق ملهم التطوعي"، وأحياه الفنان وصفي المعصراني، وكنت واحداً من حضوره من بين خمسة آلاف احتشدت بهم الصالة التي كان نابهاً قوله عنها، مدير تلفزيون سوريا، الصديق حمزة المصطفى، أمام الحشد، إنها، حتى أسابيع خلت، كانت تحتشد بمهرجانات الولاء والتعظيم لبشار الأسد ووالده، وقد حرّرها السوريون، وها هي الآن تضج بلعن آل الأسد. وصحّ هذا تماماً، مع سماع المحتشدين، مع المعصراني أو وحدهم، يردّدون أناشيد عبد الباسط الساروت وأغنية النصر "دقّوا طبول الفرح/ وزيدوا الزغاريد...". وتقرأ في يافطاتٍ موزّعة ومرفوعة ومثبتة في الصالة "إنها سوريا العظيمة وليست سوريا الأسد".
احتجاجات وشرطة مرور غائبة
أغادر دمشق في مختتم الإطلالة الثانية في نهار نظّم فيه ناشطون أمام اتحاد نقابات العمّال في ساحة يوسف العظمة اعتصاماً لدعم العمّال المسرّحين والمفصولين تعسفياً في عموم البلاد، و"رفض تعدّي الحكومة المؤقتة على حقوقهم في العمل"، على ما قال بعض الداعين إلى الاعتصام الذي جاء محدوداً، غير أنه يشابه اعتصامات مماثلة انتظمت في الأيام التالية، وقبلها، في اللاذقية والسويداء وحلب ودرعا، سيما وأن الأخبار ظلّت تتوالى عن قرارات تسريح موظفّين وعمّال في قطاعاتٍ متعدّدة (تَصادف أن نشر في أثناء الإطلالة الأولى أن 700 عامل في قطاع الصحّة، وبينهم سائقون، في درعا جرى فصلهم). وقال صديقٌ ناشطٌ في هذا الخصوص لي إن سلطة الأسد المخلوعة لم تكن تجرُؤ على اتّخاذ قراراتٍ كهذه. وكان وزير المالية محمد أبا زيد قد صرّح عن فصل 300 ألف موظف، هم من المعيّنين عن طريق حزب البعث، وبعضهم مضى على تعيينه أكثر من 15 سنة. كما أن عديداً من الموظفين أعطوا إجازات إجبارية بلا رواتب، ومنهم أكثر من ألف في وزارة النفط والثروة المعدنية، ومثلهم في وزارة الاتصالات. والرأي عند ناشطة سورية تحدّثت لي أن قرار الإجازة الإجبارية مخالف للقانون أصلاً. ومع أنه صحيحٌ تماماً أن هناك تضخّماً إدارياً كبيراً في كادر الدولة، إلا أن أغلب الموظفين فقراء، فضلاً عن أن عجلة الاقتصاد متوقّفة، ولا فرص عمل متوفرة للحصول على أي دخول. وذلك مع ترجيح قول الوزير إن عدد موظفي الدولة قرابة مليون و300 ألف، وإن نحو 400 ألف منهم يجب فصلهم "لأنهم أشباح"، بتعبيره.
ولئن يبقى قرار حلّ الأجهزة الأمنية إشكالياً في عمومِه، إلا أن حلّ شرطة المرور مثيرٌ بطبيعته. وكم كان بالغ الغرابة لي أن أرى فتيةً سوريين، بالكاد في الإعدادية أو الثانوية، يقومون بتمرير السيارات وإيقافها في شوارع عريضةٍ في دمشق. يرتدي قليلون منهم سُتراً صفراء. وعندما أسألُ السائق الذي يأخُذنا من المطار إلى "الشيراتون"، في أول مشاهدات إطلالتي الأولى، عمّن يكونوا هؤلاء، يخبرني بأنهم "متطوّعون" لأداء هذه المهمة. ألحظ في دوّارٍ أمام مستشفى المجتهد، في يوم تالٍ، عسكري مرور بلباسٍ عسكري (وإنْ في هيئةٍ غير أنيقة)، سأعرف من محدّثي أن عدداً قليلاً من أفراد شرطة المرور جرت الاستعانة بهم. وفي الإطلالة الثانية ألحظ أعداد هؤلاء قد زاد قليلاً.
جبال من مشكلات
الحال في دمشق أن عُرساً بديعاً كأنه انتهى، وأن أولوية السوريين هنا أن تتحسّن ظروف عيشهم، وأن تتوفّر لهم فرصُ العمل والوظائف، وأن تنتعش، بعض الشيء، دواليب الاقتصاد. وأن ترى آلاف "بسطاتٍ" في الطرق والأرصفة، وبمحاذاة مؤسّساتٍ ودوائر رسمية، وفي مداخل سوق الحميدية ومنتهاه، بل وفي السوق نفسه، لمختلف البضائع (والليرة السورية أيضاً لمن أراد شراءَها بالدولار!)، فهذا من شواهد تعاظُم ما يمكن أن أسمّيه هنا الاقتصاد اليومي الضعيف والبالغ الهشاشة (والركاكة إذا صحّت المفردة). واحدةٌ من أولى أولويات السوريين في دمشق أن تنحلّ أم المشكلات والمعارك اليومية في حياتهم، انقطاعات الكهرباء، والتي يحاول السوريون التغلّب عليها بألواح الطاقة الشمسية التي تحتلّ أسطح المباني والعمارات بشكلٍ فادح، وكذلك بالمازوت الذي تلوّث رائحته هواء المدينة. ثم تتوالى كل القضايا، توفير الخدمات المناسبة، وتحسين مركبات النقل العام (هذه قضيةٌ كبرى بالمناسبة)، وتأمين متطلبات عيشٍ كريم، في بلد أنهكته مافيات النهب والاستغلال وسرقة الموارد، والتي تعاظمت شبكاتها وخرائطها في دولة الأسد الابن بشكل مهول.
ينصرف السوريون، في دمشق، إلى شؤون عيشِهم الشديدة الإلحاح والضاغطة، ويتابعون نقاشات نُخبهم واجتهاداتها بشأن شكل الدولة ونظام الحكم فيها، والطريق إلى بناء مؤسّسات السلطة والقانون. وذلك فيما لا تُخطئ العيون أنهم تخفّفوا من الاستغراق في عرسٍ كان منتظراً منذ أزيد من خمسة عقود، وقد زاولوا فائضاً من الفرح بالخلاص من آل الأسد، ثم وجدوا أنفسهم يتفاءلون بمستقبلٍ أفضل لا شك، ولكن تفاؤلهم يتباين، يقلّ وينخفض أمام حدّة الواقع الاقتصادي والمعيشي الصعب، وأمام جبالٍ من المشكلات أمامهم، لا تكفي إطلالتان على دمشق لاستكشافها جميعها.