دمشق بعد 45 عاماً 4-5: الحرية من دون أجهزة مخابرات

05 مارس 2025   |  آخر تحديث: 08:15 (توقيت القدس)
سوريون في باب سريجة، 25 فبراير 2025 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- بعد سقوط النظام في دمشق، اختفت المظاهر العسكرية والشرطية، مما أتاح للمدينة التسيير الذاتي رغم الفوضى المرورية. الحواجز بقيت لكن بدون عناصر الأمن، مما أضفى شعورًا بالارتياح بين السكان.

- مع غياب الأمن، بدأ الناس في دمشق يتحدثون بحرية أكبر، مستعيدين أصواتهم. التغيير أتاح التعبير عن الآراء دون خوف، لكن المجتمع لا يزال يتعلم التكيف مع الحرية الجديدة ويتطلب تشكيل أحزاب وصحافة مستقلة.

- تواجه الإدارة الجديدة تحديات كبيرة في الإعلام والثقافة، مع اعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي. هناك جهود دولية مطلوبة لمعالجة قضايا المعتقلين، مع التركيز على إعادة بناء مؤسسات الدولة وتحقيق العدالة.

دمشق خالية من العسكر والشرطة. وعلى عكس ما جرت عليه الأحوال في العهود الماضية، لا يعثُر المتجوّل في شوارعها على مظاهر عسكرية، حتى النوادي الخاصة بالجيش مغلقة ومُقفرة. وقد كانت، في السابق، تكتظّ بأصحاب النجوم التي تلمع على الأكتاف، وكانت الأوسمة تزيّن الصدور والمسدّسات تتدلّى على الخصور. لا أحد من هؤلاء في المدينة، كلهم تبخّروا ليلة سقوط النظام، بعدما دمّروا البلد، ونهبوه، ولم يتركوا خلفهم سوى الفقر وأجزاء من البلد محتلة. 

لا أحد في دمشق يتأسّف على حكام الأمس القريب، أو يذكُرهم بكلمة خيرٍ واحدة، حتى العناصر من ذوي الرتب الدنيا، الذين كانوا يعملون عيوناً وآذاناً للنظام، وجدوا فرصة كي يتحرّروا من عبء المهام التي كانت ملقاة على عاتقهم، وهم يحسّون بانكسار، نتيجة نظرة المجتمع السلبية لهم. 

تبدو المدينة كأنها تعيش حالة تسيير ذاتي على مستوى غياب أجهزة الشرطة، التي بدأت تعود تدريجيا، ويظهر أثر غيابها على مستوى السير العشوائي الخانق، بسبب كثرة السيارات، وتوفّر الوقود، ونزول أسعاره. ويقول كثيرون من المارّة إن المدينة لا تتحمّل هذا القدر من السيارات، وتدريجيا يصبح التنقّل فيها صعباً، نظراً إلى عدم وجود طرقات كافية وحديثة. 

الحواجز التي كانت تقطع أوصال المدينة باقية، لكن من دون عناصر المخابرات والأمن والفرقة الرابعة، الذين كانوا يرابطون عليها طيلة الوقت. وقد ترك اختفاء هؤلاء حالة من الارتياح العام، وعادت الحركة طبيعية في الشوارع بعدما زال الخوف. 

هناك عدّة ظواهر يمكن رصدها في الشارع. الأولى أن الجميع يتكلم بلا رقابة، لكن الكلام يبدو أن تلعثماً يعتريه، لأن المجتمع السوري الجديد لا يزال يحبو

 

وبدورهم، عناصر الأمن الذين يرتدون أزياء مدنية، اختفوا كليا، ولكثرة التجاوزات بات الناس يعرفونهم. كتّاب التقارير الذين كانوا يتجسّسون على الناس في المقاهي والمحلات العامة لا أثر لهم، ويحدثنا صحافيون في مقهى الروضة عن الماضي المرعب، بلا خوف أو تلفت أو حساب لوجود مندوبين دائمين للأمن، كانوا يداومون في المقهى من أجل تسجيل أسماء الحضور كل يوم، ونقل تفاصيل حياة المقهى. 

سقط الخوف مع التماثيل التي كانت منتشرة في الساحات، تعبيراً عن خرافة "الأسد للأبد". صار الناس يتكلمون بصوت عال، كأنهم استردوا ألسنتهم، التي صادرها القمع أو حرمها النطق طيلة عدة عقود. حيثما ذهب المتجول في دمشق، يجد من يذم العهد البائد. لكل أسبابه. ولا يقتصر الأمر على الذين فقدوا بعض أفراد من عائلاتهم، أو تعرّضوا للتمييز، وفقدوا أعمالهم أو مصادر دخلهم وبيوتهم. 

عدد ملحوظ من الذين عاشوا في كنف النظام، واستفادوا منه، ركب موجة النقد، وتقمّص بعضهم دور الضحية، وبعض آخر صار في طليعة ناقديه. ونتيجة مبالغة شخصيات كانت تعدّ من بطانة نظام الأسديْن، تم وصف هؤلاء بـ"المكوعين"، كونهم غيّروا مواقفهم من مديح الأسد ونظامه إلى هجائه، أو تصوير أنفسهم مخدوعين خضعوا للتضليل. وبرز في هذا فنانون وصحافيون معروفون كانوا من مروّجي النظام السابق ومدافعين عن جرائمه، ومنهم من كانوا في طليعة المدعوين للحوار الوطني، وهو ما أثار ردات فعلية سلبية من زملاء لهم، تأذّوا من صلاتهم مع نظام الأسد. 

 نظام علّم الناس التلوّن وتغيير المواقف بسهولة. هكذا يقول لسان حال بعض من سجنهم النظام السابق، وعذّبهم، ومنعهم من العمل بحرية وكرامة. وهم لا ينظرون إلى هذه الفئة إلا بازدراء، ويطالبون بعدم التغاضي عن أفعالها ومواقفها التي ألحقت الضرر بالناس، وزيّنت صورة النظام ودافعت عن جرائمه الكبيرة وسجونه المنتشرة في كل مكان، واستخدامه الأسلحة الكيميائية ضد أطفال الغوطة عام 2013. وثمّة من يدعو إلى التمييز بين الذين أيّدوا النظام بدافع الخوف ومن حملوا لواءه، وقاتلوا بسلاحه، وآذوا الآخرين، وهذه الشريحة واسعة، وهي تتوزّع على المجالات كافة، تجدها في التجارة، التعليم، الإعلام، والثقافة والفن. 

همّ كبير يجلس على صدر كل سوري، يتمثل في ملف المعتقلين والمغيّبين قسريّاً والسجون والمقابر الجماعية. يقول كل من قابلتهم في دمشق إن جرائم العهد البائد أفسدت الفرح بسقوط النظام. وترابط في ساحة المرجة مجموعات من الأهالي تبحث عن أي معلومة تخصّ ذويهم المفقودين، الذين جرى اعتقالهم بعد عام 2011، لا أحد يبحث عن المعتقلين في الفترات التي سبقت ذلك، كما لا يأتي أحدٌ على سجن تدمر الرهيب الذي دمّره تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في عام 2015. يتركّز كل البحث على سجن صيدنايا، وتلك التابعة للفروع الأمنية، وخاصة للقوى الجوية وفرع فلسطين، التي ذاع عنها أن الداخل إليها مفقود. 

إسقاط تمثال حافظ الأسد بجامعة دمشق. 10 ديسمبر 2024 (علي حاج سليمان/ Getty)
إسقاط تمثال حافظ الأسد بجامعة دمشق،10 ديسمبر 2024(علي حاج سليمان/Getty)

يتجاوز هذا الملف طاقة المنظّمات الإنسانية، ولا يبدو أن سورية قادرة وحدها على أن تعالجه، إنه يحتاج أنماطاً مختلفة من الخبرات المتخصّصة في التعامل مع حالات شبيهة في بلدان أخرى، وقد تبيّن أن الأرقام التي في حوزة هيئات حقوق الإنسان غير نهائية بخصوص أعداد المغيّبين قسرياً منذ عام 2011، وتحتاج المسألة إلى جهد دولي كبير، يذهب في عدّة اتجاهات، تبدأ في تحديد العدد الكبير من المقابر الجماعية، واستخراج الجثث وتصنيفها وتحديد هويات الأشخاص، والعمل على مساندة ذويهم نفسياً، ومن ثم إحالة كل هذه القضايا إلى العدالة. وهناك جهد تقوم به منظّمة الدفاع المدني السوري، ولكنها لا تستطيع النهوض بهذه المهمّة وحدها، وهذا ما أعلنه رئيسها رائد الصالح. 

هناك من يكتفي بالتظاهر من أجل قضايا تخصّ المعتقلين. يبدو أن هؤلاء لا يريدون أن ينخرطوا أكثر من ذلك في هذه المرحلة. رحّبوا بالتغيير لكنهم يراقبون الخطوات اللاحقة. بعض هؤلاء كتّاب وصحافيون وفنانون، رجال أعمال، كبار في السن وشباب، نساء ورجال. إنهم ينظرون إلى ظاهرة "التكويع" جزءاً من التحوّل الجديد، الذي لا يزال يتبلور يوماً بعد آخر، ويتعاملون معها من منظور أن المشهد متحرّك، ويحتاج إلى جهد كبير كي يستقرّ، وهذا يتطلّب مشاركة الجميع وعدم الاكتفاء بالفرجة، وتوجيه الانتقادات من وراء زجاج المقهى. 

هناك عدّة ظواهر يمكن رصدها في الشارع. الأولى أن الجميع يتكلم بلا رقابة، لكن الكلام يبدو أن تلعثماً يعتريه، لأن المجتمع السوري الجديد لا يزال يحبو، وهو يتدرّب على صوغ جمل مفيدة. ولا يعدّ غياب المخابرات من سورية أمراً عادياً، فالناس التي عاشت أكثر من نصف قرن ممنوعة من التعبير عن آرائها، وتزن الكلمة قبل أن تنطقها، تتكلم اليوم من دون أن تتلفت إلى اليمين والشمال والوراء. لم يعد للحذر مكان، بعدما اختفت آذان النظام وعيونه. هناك حالة من التعويض، يجب أن تجد الطرق المناسبة، من خلال تشكيل أحزاب سياسية، وإصدار صحافة مستقلة. ومن هنا يمكن تفسير حالة الاستعجال التي تتلخّص في الإلحاح على تحقيق كل الطلبات خلال 24 ساعة، الحرية، الكهرباء، الغاز، خفض الأسعار، رفع الرواتب، محاسبة المُجرمين، ومواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على الأراضي السورية. 

تتمثل الظاهرة الثانية في أن عدد طالبي المناصب كبير، والمعسكرين في دمشق بانتظار تولي وظائف عليا في ازدياد باستمرار، وتجلى ذلك في مؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد يومي 24 و25 الشهر الماضي (فبراير/ شباط). العيون منصبّة على قطاعات الإعلام، وأكثر من يتدافعون بالمناكب هم الصحافيون، كثر من بينهم يتنافسون على وظيفة الناطق الرسمي، وحين اختفى من الواجهة من كان يتولّى هذه المهمة، عبيدة الأرناؤوط، زادت الطلبات، وارتفعت بورصة المتطوّعين ومرشّحي أنفسهم. 

التنافس على أشدّه بين الصحافيين الذين يحسبون أنفسهم على الثورة وأولئك الذين كانوا يعملون في المؤسّسات الحكومية، وبعضهم من فلول النظام. وصار عددٌ من صحافيي الفئة الأولى يقدّم إفادات مجّانية عن صحافيي الفئة الثانية، الذين لا يزال بعضهم يحتل موقعه، وأخذوا ينشرون غسيلهم الوسخ، يريدون طردهم واحتلال مناصبهم. هناك من يطمح لأن يتسلّم التلفزيون، وآخرون الإذاعة ومؤسسة السينما والصحف الرسمية. وعلى العموم، ليست هناك رؤية إعلامية واضحة للدولة الجديدة، وهناك مقرّبون منها يجزمون بإلغاء وزارة الإعلام في الحكومة المقبلة المرتقب إعلانها في غضون منتصف مارس/ آذار الجاري، وتشكيل مجلس أعلى للإعلام. 

هناك مؤشّرات على تشكّل جوقة من المادحين للسلطات الجديدة، من إعلاميين وفنانين ورجال أعمال، باتوا معسكرين في محطات التلفزيون، ومقهى الروضة، لا عمل لهم سوى التبرير، وقمع الرأي المخالف. 

الظاهرة الثالثة، أن حديث الأقليات لا يحظى بتجاوب كبير داخل أغلبية أوساط ناشطي هذه المكوّنات. ويبدو المصطلح مذموماً، وغير مستحبٍّ من معارضين سبق أن تعرّضوا للسجن، والاعتقال، والنفي، وإسقاط حقهم في جواز السفر، أو مغادرة البلد. لسان حال هؤلاء يطالب بدولة مدنية لكل السوريين، لا تمييز فيها لا سلبي ولا إيجابي. وثمّة آراء دارجة على وسائل التواصل وفي جلسات السياسيين والمثقفين، ترى أن طرح الفكرة جاء من الخارج، ولم يسبق للسوريين أن رأوا فيها ما يناسب الحالة السورية، وهناك ما يشبه الإجماع على أن إثارتها من أطراف خارجية يخفي أهدافا سياسية من أجل التدخّل في الشأن الداخلي السوري، ويطمح هؤلاء لإضعاف سورية من خلال تقسيمها إلى طوائف وإثنيات ذات مرجعيات خارجية، ولكن رفض مبدأ المحاصصة الطائفية أو العرقية يجب أن يقابله رفض المحاصصة السياسية، من الأطراف العسكرية التي أسقطت النظام، وتجاوز الشعار الدارج في بعض الأوساط "من يحرّر يقرّر". 

الظاهرة الرابعة أن عدد المتفرّجين كبير، وينتظرون جلاء الصورة أكثر كي ينخرطوا، في الوقت الذي يتزايد فيه عدد الداعين إلى دعم المرحلة الجديدة بلا شروط كبيرة، وجلهم لا يريدون مناصب أو مكافآت أو تعويضاً عما لحق بهم، يتّسم خطابهم بالحرص على مصلحة البلد، وتحصين التجربة، ومنح الإدارة السياسية فرصةً حتى تمكن محاسبتها، ويروْن أن التصعيد ضدّها في هذه المرحلة يعرقل عملها في مواجهة الأولويات الداخلية الكثيرة. لكن الانتظار لن يطول، وسوف تشكل التعيينات المقبلة في الحكومة والمجلس التشريعي والمناصب العليا نقطة فصل. وفي حال لم يتحقق الحد الأدنى من الطموحات والآمال، فسوف تقف قطاعات عدّة في صف المعارضة، وتسحب تأييدها الإدارة الجديدة، وهناك من بين المنتظرين من بدأ الاستعداد للعب هذا الدور، وهو يردّد أنه مؤيد ونقدي في الوقت ذاته. 

لا أحد في دمشق يتأسّف على حكام الأمس القريب، أو يذكُرهم بكلمة خيرٍ واحدة، حتى العناصر من ذوي الرتب الدنيا، الذين كانوا يعملون عيوناً وآذاناً للنظام

 

الظاهرة الخامسة أن الإدارة الجديدة على خبرة متواضعة في بعض المجالات، وخاصة الإعلام، ولا تولي اهتماماً كبيراً بالصحافة، وتعتمد على وسائل التواصل في توجيه الرأي العام. كما أنها غير مهتمّة بالمجال الثقافي، وقد مضى أكثر من شهرين على وجودها، وعيّنت وزراء جدداً لكل الوزارات، باستثناء وزارة الثقافة ذات الدور المهم، فهي ليست دار نشر للكتب، بل تشمل المسارح والسينما والموسيقى والمتحف ودور النشر ومعارض الكتب ...إلخ، وهناك جيش من صانعي المشهد، الذي وظفه عهد الأب والابن لتصدير صورة زاهية نحو الداخل والخارج. 

الظاهرة الأبرز من بين كل الظواهر، وهي كثيرة، الدور الكبير الذي تلعبه وسائل التواصل والمؤثرون في توجيه الرأي العام. ويبدو أن أعوام الغربة أكسبت السوريين خبرات واسعة في هذا الميدان، حيث لم يكن أمامهم سوى هذه الفضاءات الافتراضية للتلاقي والحوار ومتابعة الأخبار. ولا يحتاج المرء أن يتابع صفحات بعض المؤثرين حتى يعرف ماذا يحدُث في البلد، فالأخبار المنقولة عن هذا العالم في كل مكان وعلى كل لسان، وكل من يخبرك نبأ لا يقول إنه استقاه من صحيفة أو قناة تلفزية، بل من "فيسبوك" الذي يعد الأكثر رواجاً. واللافت هنا نقاش الأخبار بالتفاصيل من أقصى سورية إلى العاصمة، وهذا أمر لا بد أنه يحتاج انتباهاً شديداً. 

لكل المحبطين والمتفائلين والمتحمسين، والذين يقفون على مسافة منهم، القلقين والخائفين، وما بينهم، يصدُق قول المثقف مأمون غنامة، "نحن اليوم في حالة العراء الوطني والسياسي والتاريخي. المهم أنه أصبحت لدينا أرض نقف عليها". هذه نقطة البداية لكل من يهمّه أن ينهض البلد، وتبدأ عملية إعادة إعمار مؤسسات الدولة التي هدمها حكم عائلة الأسد، الذي حول سورية إلى مزرعة. 

هلّ رمضان الكريم، رائحة الكعك تفوح من بيوت دمشق، التي تقترب من الربيع. جالسة كالدهر على سفن جبل قاسيون، يعبرها التاريخ، وهي ثابتة في مكانها، كـ"التفاح بين شجر الوعر" (نشيد الأنشاد).