استمع إلى الملخص
- المرجة وسوق الحميدية يمثلان قلب دمشق النابض، حيث يحتفظان بطابعهما الشعبي والتجاري، مع آمال التجار في استعادة السوق لمكانته كمحطة تسوق رئيسية.
- الجامع الأموي وأحياء دمشق القديمة مثل القصاع وباب توما تعكس رموز الصمود والتاريخ، وتحتفظ بذاكرة المكان وتاريخها الغني رغم التحديات.
دمشق مغرية للمشّاء، مدينة ذات ثراء عُمراني وتنوّع ثقافي يبهجان العين، وينعشان الذاكرة والخيال. هنا لا تتعب العين من الفُرجة، ولا تمل من النزهة والسفر بين الحاضر والماضي. يزداد منسوب إغراء التجوّل لدى من عرفها، ولم يرجع إليها منذ زمن بعيد، ولا يزال مسكونا ببعض تفاصيلها. يسير من دون دليل، أو هدف محدد، يقوده الحنين إلى أماكن لم يكن يظنّ أنه سيرجع، ذات يوم، إلى تفقّد أحوالها وتحوّلاتها، وما خلّفه الاستبداد من آثار على البشر والحجر.
صار في وسع من يمارس متعة المشي أن يسير على قدميه في دمشق بحرّية من دون أن يغير الرصيف بين دقيقة وأخرى، أو يضطرّ إلى العودة أدراجه بسبب الحواجز الأمنية التي كانت تكتفي، في أبسط الأحوال، بطلب الأوراق الرسمية. وقد يتعرّض العابر إلى التعنيف والاعتقال لأنه ارتكب خطأ الدخول إلى منطقة أمنية محظورة، قد تكون مركزاً أمنياً أو عسكرياً أو سكن أحد الضباط الكبار.
الأرصفة التي هي ملك المارّة لم تعد لهم... كانت في زمن النظام البائد محجوزة من رجال الأمن، واليوم تتشاركها السيارات وماسحو الأحذية، والبسطات الخاصة بتصريف العُملة. ويبدو أن الجهات التي تمارس هذا النشاط على هامش الاقتصاد قد وظفت لهذا الغرض عشرات الشبان التركمان، ونثرتهم في وسط دمشق.
يتذكّر سكّان دمشق في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي أطوار تحوّل المدينة إلى دوائر أمنية، وثكنات عسكرية، داخلها مزروع بفروع الأمن التي تجاوزت في عددها 13 جهازاً، ومحيطها مطوّقٌ بمعسكرات سرايا الدفاع، وسرايا الصراع. الأولى يقودها رفعت الأسد والثانية أحد أقاربه. وباتت بعض أحيائها مربّعات أمنية معزولة كليا، أو محرّمة على المشاة، مثل المالكي القريب من القصر الجمهوري القديم.
يبدو القصاع منهكاً، ليس كبقية الأحياء التي سكنها مسؤولو العهد البائد، نال عقوبة كونه أحد وجوه المدينة التي تعكس طراز مرحلة
لم يكن من الممكن الاقتراب من وزارة الداخلية ومبنى الأركان وآمرية الطيران، أو حتى النظر في اتجاه فرع أمني، ولفظ اسم الرئيس في الشارع. كانت أرصفة دمشق وحدائقها ومقاهيها تشبه تلك التي في المدن الأخرى في العالم، لكنها تغيّرت تدريجيا بعد عام 1970، ودخل البعد الأمني في التفاصيل، تم نصب حواجز حديدية وإسمنتية على الأرصفة تمنع الانتقال من رصيفٍ إلى آخر، وبات في كل مقهى ومطعم ووسيلة نقل وإدارة، بما في ذلك المرافق الجامعية، عناصر أمن يتجسّسون على الناس، يتنصّتون على المحادثات، ويراقبون الحركة، ويعاملون السكان بفظاظة وقسوة.
يجد من يسير في شوارع دمشق اليوم أن حواجز العهد البائد الحديدية والإسمنتية ما زالت موجودة، لكنها فقدت وظيفتها، وصار المرور أمام مبنى وزارات الرعب أمراً عادياً. صحيحٌ أن هناك حراسات في الشوارع أمام بعض المباني الرسمية، لكنها لا تتدخّل في حركة المارّة، التي خف توتّرها، واختفت من الوجوه ملامح الخوف، وبات في وسع من أراد أن يلتقط الصور أن يفعل هذا من دون أي مانع من الحرس، الذين يمكن أن يصوّروا العابر، إذا رغب بصورة تذكارية، أمام أحد المباني التي أخافت السوريين قرابة نصف قرن، ودخلت في تفاصيل يوميّاتهم، وتحوّلت إلى كوابيس بالنسبة لبعضهم.
نزلتُ نحو المرجة، وتقصّدتُ أن أتجه صوب الساحة التي تقع حسب المصطلح الدمشقي خارج السوق، والتي بقيت على الدوام نقطة اللقاء بين الجديد والقديم، وقد أخذت هذا الطابع منذ أواخر العهد العثماني، في أيام السلطان عبد الحميد، الذي أدخل إلى دمشق الطابع الأوروبي في البناء. وجعل منها مقرّ دار الحكومة والبلدية، حيث مبنى محطة الترامواي، والتلغراف والثكنة الحميدية. وهنا عرفت دمشق أول ظهور لدور السينما والمسارح في ثلاثينيات القرن الماضي، والمقاهي الشعبية التي استمرّت، مثل "الكمال".
ورغم مرور الزمن لم تتخلّ المرجة عن طابعها الشعبي، أو تنزع عنها شخصيّتها القديمة، حتى الفنادق التي نشأت فيها في ثمانينيات القرن الماضي بقيت وفية للتاريخ، بعمارتها، فاتحة صدرها للوافدين إلى العاصمة، من خلال فنادقها الشعبية، ومطاعمها، ومقاهيها، ومركزها في وسط المدينة، لكنها تحوّلت بعد سقوط النظام إلى مركزٍ مكتظٍّ جدا، يلتقي فيه أبناء المحافظات الشرقية، الرقّة، دير الزور، والحسكة. وهناك من يقول إن آلاف الفتيان والرجال والنساء حضروا إلى دمشق بعد سقوط النظام، يبحثون عن أقارب في السجون. وكان أغلب هؤلاء لا يستطيعون زيارة دمشق خوفاً من سوقهم إلى الخدمة في الجيش.
ليس بعيداً عن المرجة يقع سوق الحميدية، الذي يعود تاريخ بنائه إلى الفترة ذاتها، وأخذ اسمه حين تشييده من اسم السلطان عبد الحميد الأول، بطول حوالي ثلاثة كيلومترات، وهو مدينة تجارية صناعية في قلب دمشق، تضم عدّة أسواق في سوق واحد، وقد نافس أسواق الشرق الأوسط قاطبة، بما في ذلك بازارات إسطنبول، وهو اليوم يضجّ بالحركة، وعلى من أراد زياراته أن يتسلح بالصبر، لأنه لن يتمكّن من السير بسهولة بسبب الاكتظاظ الشديد، كما لو أن دمشق بأكملها جاءت تتسوّق. ويأمل التجار الكبار بأن يعود السوق إلى الزمن الذي كان فيه محطّة أساسية لتسوق أهل بلاد الشام من لبنان وفلسطين والأردن، ولكن المسألة معلقة بتوجّهات الإدارة الجديدة، ونظرتها إلى الاقتصاد، وموقع دمشق التجاري من المنطقة والعالم. وفي الأحوال كافة، يحتاج الأمر إلى جهد جبّار لإعادة سوق الحميدية إلى ما كان عليه ذات يوم.
تقود نهاية سوق الحميدية إلى معبد جوبيتر، ومنه إلى المسجد الأموي، وحارات دمشق العتيقة. وهنا تبدأ رمزية أخرى للمدينة، إذ لطالما بادر كل الذين حكموا سورية إلى زيارة هذا الصرح، الذي يحمل اسم بني أميّة، بناة الدولة الإسلامية الأولى على أسس حديثة. اختاروا دمشق عاصمة لها، وفي عام 706 ميلادية قرّر الخليفة الأموي السادس الوليد بن عبد الملك بن مروان بناء المسجد وسط دمشق. ووثّق المؤرّخ ابن عساكر في كتابه "تاريخ دمشق" أن قبر معاوية موجود بالقرب من جدار الجامع الأموي، في المكان الذي كان يجتمع فيه قرّاء القرآن السبعة، شرقي مقصورة الصحابة، في حين تنفي رواياتٌ أخرى ذلك، وتحدّد أماكن أخرى، لكن مكان الضريح المتفق عليه هو في مقبرة الباب الصغير بدمشق، والذي وثقت تسجيلات كثيرة مصوّرة لزوار شيعة من العراق وإيران عند أسواره، وهم يوجّهون له الشتائم ويضربونه بأحذيتهم.
صار في وسع من يمارس متعة المشي أن يسير على قدميه في دمشق بحرّية من دون أن يغير الرصيف بين دقيقة وأخرى
الجامع الأموي صرح ديني يتجاوز الشعائر، يزوره المسلمون وغير المسلمين. يستقبل عادة المصلّين الذين يأتون من الجوار. وبعد سقوط النظام، لعبت الرمزية دورا مهمّا، خاصة لقادمين من أماكن مختلفة، يريدون الصلاة في المسجد ردّ فعلٍ على ممارسات النظام الطائفية، وإباحة إهانة رمزية أهل المكان والبلد. وهنا يمكن ملاحظة مسألة مهمّة، أن النظام السابق لم يتشدّد حيال بناء المساجد وارتيادها، لكنه لم يترك للناس سوى المظاهر الدينية، ووجّه العبادات وفق منظور المشايخ الذين أيدوا حكمه، وسكتوا عن الاستبداد، وهؤلاء منقطعو الصلة بإسلام الشارع ذي الطابع الشعبي المديني، الذي ظلّ غير راضٍ عن الرقابة على الشعائر والمعتقدات وممارسة التمييز الطائفي، وهو يجد في العهد الجديد متنفّساً. وهناك حالة من الترقّب، وانتظار أن تتّضح توجّهات الإدارة على هذا الصعيد، ولا سيما أنها منعت تعاطي الكحول في الفنادق المملوكة للدولة، وأوقفت عمل معملي الكحول في السويداء وحمص، ووجّهت المطاعم والمقاهي من أجل الإغلاق في نهارات رمضان.
زرتُ الجامع الأموي يوم الجمعة، في 21 من الشهر، قبل صلاة الظهر. سلكتُ طريق سوق الحميدية، فوجدتُ كل المحلات مغلقة، واكتظاظاً لفئات عمرية مختلفة، أغلبها من الشباب، متجهة إلى الصلاة في الجامع، واللافت عدد الأجانب من آسيا الوسطى. ولكن حركة المصلين ليست بزخم الأيام الأولى بعد سقوط النظام.
من هناك إلى حارات دمشق القديمة في الطريق إلى الجانب الآخر من المدينة، حيث ملعب العبّاسيين أحد العلامات البارزة، ومن ثم أحياء القصاع والتجارة وشارع بغداد، التي تحتاج جولة خاصة، فهنا أحد مراكز ثقل دمشق المدنية، الذي تأسّس في بدايات القرن الماضي، وأخذ ينمو في الستينيات على يد الطبقة الوسطى ذات الغالبية المسيحية. أحياء قريبة من وسط المدينة، وعلى اتصالٍ بأطرافها، كما لو أنها اختارت أن تكون الجسر بين قلب دمشق القديمة في أحياء الميدان وجوبر، والأخرى الحديثة كالمزّة الواقع في الطرف الغربي، والذي دخلت عليه لمسة عسكرية، بسبب مطار المزّة العسكري الذي بنته سلطات الانتداب الفرنسي، وفي السبعينيات من القرن الماضي تهافت ضبّاط العهد الأسدي ورجال أعماله على السكن فيه.
يبدو القصاع منهكاً، ليس كبقية الأحياء التي سكنها مسؤولو العهد البائد، نال عقوبة كونه أحد وجوه المدينة التي تعكس طراز مرحلة، كانت فيها سورية تتجه إلى الحداثة في التفكير والعمران والنواحي الاجتماعية. وثمّة ملاحظة مهمّة أن الفجور في نمط البناء السلطوي لم يتمكّن من التغطية على جمال مرحلة الستينيات صاحبة الروح الحية، التي بدأ يتجلّى فيها إبداع الشخصية السورية، قبل أن يسيطر الوجه العابس المرعب، الذي جاءت به الأسدية التي تكره المدينة والمدنية، وتعمل على كسر كل ما يشدّ النسيج الاجتماعي، ويهدم صورة دمشق في عين أهلها، والذين ينظرون إليها من الخارج، والدليل أن نظام الأب والأبن لم يكن هاجسه بناء مرافق حيوية تخدم المدينة وتوفّر الراحة لسكّانها وزوّارها، فمطار دمشق الدولي لا يليق بعاصمة بأهمية دمشق.
تشكّل أحياء التجارة، القصاع، باب توما، عمق دمشق المديني الذي لم ينجح في تهميشه هجوم العسكرتاريا
يكتشف من يسير في هذا الجزء من المدينة أن هذه الأحياء تختزن ذاكرة المكان بقوة، وعرفت نهوضاً وتطوّراً في زمن ليس بعيداً، فهي مبنية وفق هندسة مدنية حديثة التخطيط على صعيد الطرقات والحدائق، ومن يتمعّن في الوضع الذي آلت إليه هذه المنطقة يكتشف، ببساطة، أنها متروكة ومهملة، بسبب تراجع الاقتصاد، ولكن هناك ما يشبه عملية الانقطاع القسري غير المدروس والمتدرّج في الفضاء الحضري، بسبب انتشار نمطٍ هجينٍ من البناء، يتنكّر لشخصية المدينة.
تشكّل أحياء التجارة، القصاع، باب توما، عمق دمشق المديني الذي لم ينجح في تهميشه هجوم العسكرتاريا المتخلفة التي حكمت سورية، ولم تترك خلفها سوى القبح والمقابر الجماعية. ويعبّر هذا عن قوة المجتمع في دمشق، وقدرته على الدفاع عن شخصيته، وصعوبة أن يُخضِعه حاكم مهما بلغ من الاستبداد.