دمشق بعد 45 عاماً (2/5): أول خطوة لاستعادة المواطنة

03 مارس 2025
سوريون يتجمعون للاحتفال بسقوط نظام الأسد في ساحة الأمويين في دمشق (عامر السيد)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- قبل السفر إلى دمشق، شعرت بالقلق والحماس لزيارة بلدي بعد 45 عامًا، مع خوف من انكسار الصور التي عشت عليها. عند وصولي، لاحظت الزحام الكبير من السوريين العائدين وحماسهم للعودة رغم الخوف من الغربة.

- دمشق بدت منهكة ومتعبة مع إهمال في البنية التحتية، مما جعلني أشعر بأنها عادت نصف قرن إلى الوراء. رغم ذلك، لم تفقد المدينة قلبها وأحشاءها الداخلية.

- خلال تجولي، استعدت ذكريات الماضي ولاحظت التغيرات الكبيرة في الأحياء. رغم الإهمال، شعرت بالحنين والانتماء بفضل لطف الناس وترحيبهم.

عشتُ، قبيل السفر إلى دمشق، حالة من التهيّب في الذهاب نحو اللحظة. فرحٌ لأني سأتمكّن من زيارة بلدي بعد 45 عاماً، وخائفٌ من انكسار الصور الكثيرة التي عشت عليها طوال هذا الوقت، وتغذّت منها مشاعري وأوهامي عن الوطن والمنفى. وبين هذين الهاجسين تأرجح تفكيري كثيراً، وتبدلت مشاعري، مرة يرتفع معدل "الأدرينالين"، وأخرى يرجع إلى الصفر. وكلما تأخر وقت الزيارة فترت همّة السفر، وتراجعت حماسة الأيام الأولى. 

أنزل في مطار دمشق، فأجد الناس ينتظرون ذويهم. مضى على بدء عودة السوريين شهران وأسبوع، ولم تتراجع أعداد المسافرين والمستقبلين. لا أمكنة شاغرة على الطائرات من الدوحة وإسطنبول إلى دمشق. وكي يجد المسافر مقعداً بسعر معقول عليه أن ينتظر أكثر من شهر. زحمة كبيرة، كل سوري لم يزر سورية منذ عام 2011 وقبله يخطط لذلك. والسؤال الأول الذي يسأله السوري للسوري في الخارج، هل زرت البلد بعد سقوط النظام؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، يحسُد الآخر صاحبه على تحقيق هذا الحلم، ويستفيض معه بالأسئلة. وأنا أستمع للحوارات باهتمام وفضول، يلحّ عليّ هاجس قوي، يجب أن أذهب إلى دمشق، قبل أن يستولي عليّ إحساس بأني تغرّبت من جديد، وأخذت تراودني مشاعر رفض فكرة الغربة مرّتين. 

أتوجه لصعود الطائرة من الدوحة باتجاه دمشق، يأخُذني الفضول لقراءة ملامح المنتظرين في الصالة، لا يبدو أن أحداً من المسافرين انتظر مثلي كل هذا الوقت كي يرجع. حين سمع مني أحدُهم رقم 45 عاماً صفن قليلا، ثم بادرني بالقول: أنت، إذن، من شباب جماعة الإخوان المسلمين الذي فرّوا من سورية عام 1980. ... ولم ينتظر مني أن أشرح له أن القمع لم يُجبر الإسلاميين وحدهم على مغادرة البلد. 

بعض المسافرين على الرحلة ذاتها أعرفهم، سالم المسلط، الرئيس السابق لائتلاف قوى المعارضة والثورة السورية، وابن مدينتي الحسكة. ورغم روابط كثيرة مشتركة بين أهلنا، فهذه هي المرّة الأولى التي ألتقيه بها، ونتبادل الحديث، ونأتي على الوضع الصعب في منطقة الجزيرة التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ونتفق على أن أبناء هذه المنطقة من العرب مقصّرون تجاهها، وساهم غيابهم عنها في أن تملأ الفراغ أطرافٌ أخرى، بعضها قادم من وراء الحدود. 

أمشي في الشام بلا خريطة طريق. أحاول أن أوقظ الذاكرة البعيدة. لا أريد أن أقارن بين اليوم والأمس البعيد

 

أدخل دمشق مسكوناً بمشاعر خاصة، مصدرها بُعدي الطويل عن البلد. لم يسبق لي أن نزلت في هذا المطار، سافرتُ منه مرّة واحدة عام 1978 باتجاه مطار القامشلي. كان بدائياً حينذاك، ثم تطور، ولكن ليس إلى حدّ أنه يليق بعاصمة دولة مثل سورية، ولا بالقياس إلى المطارات التي في دول الجوار. المدرّجات والطرقات الداخلية عامرة بالحفر، ولم تتم صيانتها منذ زمن طويل. على الفور، تذكّرت مطار عدن (في جنوب اليمن)، في زمن الاشتراكية، كل ما تراه العين يحيل إلى القطاع العام، الذي ينخرُه الفساد والكسل. 

طائرة تابعة للخطوط السورية في دمشق قبيل الإقلاع 18 ديسمبر 2024 (Getty)
طائرة تابعة للخطوط السورية في دمشق قبيل الإقلاع (18/12/2024 Getty)

ظلّت مسألة إهمال المطار تثير استغرابي، حتى بدأتُ أتقدّم نحو المدينة على الطريق العام، فبدأت تطالعني تفاصيلُ ذاتُ وقعٍ قاس. لا أتذكّر شيئاً من التفاصيل بين المطار والمدينة. ولكن لا علامات توحي بأن هذا الطريق يقود المسافر إلى قلب دمشق. يشير لي شقيقي سعيد على اليسار، "هناك الست زينب". كانت المنطقة عسكريةً ولم تعد، وصار بإمكان الناظر أن يلاحظ بساتين الغوطة، وبعض شجيرات اللوز المزهرة. 

أول ما تقع عليه العين داخل المطار وخارجه أن هذه البلاد منهكة جدّاً. هناك متغيّراتٌ كثيرة في دمشق. كنتُ مدركاً أني لن أجد المدينة كما تركتُها، فالزمن سيفعل فعله. وخشيتُ في أوقاتٍ كثيرة أن أعود ولا أتعرّف إليها. ولحسن الحظ، ليس في وسع أحدٍ أن ينتزع من المدينة قلبها، وأحشاءها الداخلية. كل ما يمكن أن يفعله أن يوسّع مداها، ويضيف إليها لمسة خاصة حسب الإمكانات ومقتضيات التوسّع العمراني. لكن ما حصل هنا العكس، كأن من حكموها كل هذا الوقت لم يفكّروا بتطويرها، وأهملوا مرافقها خلال العقد الأخير على نحو فاضح. ويقول الخبير الاقتصادي مدير مركز حرمون للدراسات المعاصرة سمير سعيفان إن دمشق عادت نصف قرن في ظل حكم آل الأسد. وهذا تقدير تكتشفه العين حين تتفحّص بعض الأبنية والشوارع التي عبث بها الزمن ولم تتدخّل جهة من أجل حمايتها. 

أدخل دمشق مسكوناً بمشاعر خاصة، مصدرها بُعدي الطويل عن البلد. لم يسبق لي أن نزلت في هذا المطار

 

يتساءل القادم عن سبب إهمال النظام وحلفائه الإيرانيين مطار دمشق، الذي استخدموه من أجل وصولهم إلى البحر الأبيض المتوسط. لا إجابة، ويبقى الإحساس الذي لا يقبل الشك أنهم كانوا يحسبون وجودهم أصبح نهائياً، وكلما تراجع حال دمشق، وتآكل عمقها المديني، صارت السيطرة عليها وتكييفها أسهل. 

سرعان ما تتبدّد الصدمة على شباك ختم جوازات السفر، ترحيب واهتمام من الفريق المشرف على الأمن. مجموعة من الموظفين لا توحي مظاهرهم بأنهم شرطة حدود، بل أفراد عائلة حضروا لاستقبال العائد. ويكاد لطف هؤلاء الموظفين يُنسي الزائر أن أهلاً جاؤوا لاستقباله، وينتظرونه في الخارج، بعدما قطعوا مسافات طويلة من الحسكة إلى دمشق. الترتيبات العفوية وغياب الفظاظة تجعلان العائد يحسّ بأنه يدخل إلى بلده متمتّعا بحقّ الاحترام كمواطن. هنا تبدأ أول خطوة في استعادة المواطنة التي سلبنا إياها حكم عائلة الأسد. 

أسلّم للشرطي جواز سفري الفرنسي، ويتلو عليّ تفاصيل هويّتي من جهاز الكومبيوتر، اسم الأب والأم. ويضع الختم على الجواز، ويعيده لي وهو يبتسم. هذا كل شيء؟ نعم، أهلا وسهلا والحمد لله على السلامة مرّة ثانية، مرّة لأنك رجعت، وأخرى لأنك نجوْت. أنت مطلوبٌ لأربعة فروع أمنية. 

وصلت إلى وسط المدينة. ومن هناك قرّرت أن أبدأ تلمّس دربي تدريجياً. وبعدما وضعت أغراضي في الفندق (في حي الصالحية)، اعتذرت من الأهل بعد نهاية مراسم الاستقبال العائلية، وخرجتُ إلى الشارع لأمشي في شوارع المدينة وحيداً. عاد بي الوقت حوالي نصف قرن إلى الوراء، حين وصلت إلى دمشق فجراً للمرّة الأولى قادماً من حلب، وانتظرت حوالي ساعتين كي ينبلج النور لأقصد منزل الشاعر بندر عبد الحميد. 

كنتُ في ذلك الوقت أتعرّف إلى المدينة التي لم تكن لدي فكرة مسبقة عنها سوى ما كان يرويه عنها القادمون من زوراها من الأهل والأقارب، الذين كانوا يقصدونها لمراجعاتٍ على أعلى المستويات، أو العساكر الذين كانوا يقضون الخدمة الإجبارية على الجبهة، ويمضون الإجازات في دمشق يتجولون في شوارعها، يقصدون الحمامات الشعبية، ويتفرّجون على واجهات محلات الألبسة والأحذية والزبائن في هذا الحي الذي يتمتّع بسحر خاص، تجتمع فيه كثير من مزايا جاذبية دمشق، ذات الصفات التي تفتن الحواس. 

أمشي في الشام بلا خريطة طريق. أحاول أن أوقظ الذاكرة البعيدة. لا أريد أن أقارن بين اليوم والأمس البعيد، ولا أبحث عن الفروقات، بل ملاحظة التحوّل الذي أصاب المدينة التي تعرّضت لهزّات سياسية كبرى طوال العقود التي غبت فيها عنها. تركت لقدميّ أن تقوداني من أول الصالحية إلى آخرها، من عند ساحة عرنوس وحتى ساحة المرجة. استسلمتُ للعبة إعادة تركيب المشهد من جديد، في البحث عما مكث، وما استجدّ. أتأمّل ملامح الناس، المحلّات، فجأة أتوقف. تأتيني ذكرى من الماضي البعيد تعيدني إلى الوراء، هنا كانت مكتبة ميسلون التي تحوّلت إلى محل لبيع الألبسة، هناك صالة مسرح الحمرا باقية في مكانها، ولكنها تبدو مهملة أو أن المسرح بات ترفا في بلد كاد أن يصل إلى حافّة المجاعة. وغير بعيدٍ صالة سينما الكندي، تبدو كأنها مغلقة، هي التي شكلت الوعي السينمائي لأجيال، ابتداء من سبعينيات القرن الماضي، حيث كانت مواكبة للنتاج السينمائي العالمي. وعلى بعد مائة متر، مطعم القنديل الذي تملكه عائلة المحامي الشهير نجاة قصاب حسن، كان يعجّ بالمثقفين الذين غادروا مقهى النجمة عام 1978 بعدما تحوّل إلى مطعم. ويبدو الفارق كبيراً بين الأمس واليوم. ساحة مقهى القنديل واسعة نظيفة، لكنها اليوم شبه مكبّ نفايات، والمحل مغلقٌ بسبب خلاف بين الورثة. مقهى الروضة صامد واتّسع فضاؤه، ولكنه بات أشبه بمدخنة، وبات العنوان الرئيسي في المدينة لكل قادم من الخارج، يقابله على الطرف الآخر من شارع الصالحية مبنى البرلمان، عيادة طبيب كنت أزور جاره مكتب محاماة ابن مدينتي مروان صبّاغ، أول من حدّثني عن ياسين الحافظ، وحزب العمّال، وحين خرجت من مكتبه ذات يوم استوقفني رجل أمن وسألني عن سبب الزيارة، فاخترعت له قضية قانونية. 

مبنى البرلمان في مكانه. حاولتُ الدخول، لم يوافق الحارس، طلب موافقة رسمية. ... سكنتُ بجواره، غير بعيدٍ في شارع تحتلّه محلات صاغة الذهب، في الطابق الأرضي تشاركنا عدة غرف منفصلة، تتوسّطها حديقة ذات نافورة، نتزوّد منها بالماء البارد صيفاً. ومن بين الشركاء الصديق والزميل في كلية الزراعة الشاعر المثنى الشيخ عطية. وكلما مررتُ قرب البرلمان، رأيت أعضاءه يتبخترون في الحي. وصادفت عدّة مرّات بعض الذين يمثلون مدينتنا البعيدة الغنية، التي ترفد الدولة بالنفط والقمح والقطن، ولكنها منسيّة. لم يفعل أولئك الموظفون شيئاً، كانوا ينتظرون الحصول على سيارات مجانية ورواتب باهظة ومكاتب من أجل عقد الصفقات. 

لم يكن أحد يتجوّل في حي أبو رمانة بحرّية، فقد كان مزروعاً برجال الأمن

 

ساحة المرجة في مكانها، لم يطرأ عليها تبدّل كبير سوى الاكتظاظ، وعدم النظافة، في الطريق أمر أمام مقهى هافانا، لا أكاد أصدّق. لم أكن أتخيّل اللحظة. سألت قبل ثلاثة أعوام القاص زكريا تامر في إحدى زياراتي له في أكسفورد إن كان يعتقد أننا سنلتقي في مقهى هافانا، الذي قابلته فيه عام 1978. أجاب: لا أظنّ، سنموت جميعا في الخارج، ولن نبلغ هذا الحلم. ... من هنا أوجّه إليك تحية، وأقول لك إن دمشق بانتظارك، أنت ابن المدينة العريقة وأحد حاملي ذاكرتها، لقد قرّرت نيابة عنك أن أزور كل الأماكن التي حدّثتني عنها، طفولتك، شبابك، مقاهيك، وطرق مشاويرك اليومية، أنت ومحمد الماغوط، في حواري دمشق العتيقة داخل السور. 

تعبتُ في نهاية اليوم الأول، ولم أبتعد عن هذا الحي الذي يقع في قلب دمشق. أردت أن أتناول العشاء في المنطقة، لكن شقيقي سعيد أصرّ أن نقصد منزله في حي المزّة. أسماء كثيرة تغيّرت، لكن الأمكنة لا تزال تحتفظ ببعض ملامحها القديمة. أخذنا النقاش إلى شؤون عائلية قاده سعيد الذي يصغرني، الباقي الوحيد من أشقائي على قيد الحياة، الأكبران توفيا، فرحان بسبب عدم وجود تنفس اصطناعي في المشفى، وموسى نتيجة تشخيصٍ خاطئ، والأصغر محمّد قتلته مليشيات الدفاع التابعة للنظام في الحسكة بطلقة في رأسه عام 2013. 

جيل جديد من الشباب، من أولاد أشقائي وشقيقاتي، والهاتف لا يهدأ من الحسكة وخارج سورية. ترحيبٌ وتحياتٌ وتمنياتٌ بالسلامة، كأني عائد من الحج أو خارج من السجن. سائق التاكسي حين علم أني أمضيت 45 عاما في الخارج، قال لي "لك في ذمّة هذا البلد الكثير"، قلت له إن العكس صحيح، ولدي رغبة بأن لا أشغله عن شقّ طريقٍ بصعوبة وسط سيول من السيارات. ولذا فضلت النزول من التاكسي والمشي على الأقدام وسط شوارع كانت تعجّ بالإنارة والجمال، لكنها معتمة بسبب عدم توفر الكهرباء. 

قرّرت في اليوم الثاني أن أترك البرلمان خلفي وأتّجه إلى ساحة النجمة، قبل أن أنتقل إلى حيي ابو رمانة والمالكي، في الطريق إلى فندق الميريديان وقصر الضيافة القديم ومنازل سكن حكّام البلد في السابق، من ضباط ووزراء ومدراء عامين وإعلاميين ومثقفين من بطانة النظام. أقف على الناصية، أمام مقهى النجمة سابقاً، على اليسار حي الشعلان الذي أخذ اسمه في مطلع عشرينيات القرن الماضي من كنية شيخ "الرولة" نوري الشعلان، أحد أفخاذ قبيلة عنزة، التي استقرّ قسم منها في سورية. 

آثار صدمات العقد الماضي واضحة على حي الشعلان، الذي كان قد عرف ازدهاراً في مرحلة نمو دمشق العمراني والثقافي في ستينيات القرن الماضي. لحق قدرٌ من التعب بالبنية التحتية، وهذا ملحوظ في الطرقات والأرصفة وواجهة البيوت والمقاهي والمطاعم، التي باتت، بسبب انهيار القدرة الشرائية، تشبه تلك التي في الأحياء الشعبية. جاءني، وأنا أتجوّل هنا، انطباع بأن بعض أحياء المدينة انتقلت إلى حال ريفي، لأنها لم تخضع لأي صيانة، ولم تصمُد منها سوى الأبنية التي تعود إلى العهدين العثماني والفرنسي، وقد زاد من قتامة الصورة غياب عمّال النظافة عن بعض الشوارع. 

سورية، دمشق في 17 ديسمبر 2024 (فرانس برس)
شارع في دمشق (17/12/2024 فرانس برس)

لم يكن أحد يتجوّل في حي أبو رمانة بحرّية، فقد كان مزروعاً برجال الأمن، بعضهم بلباس مدني، وآخرون بألبسة مرقّطة ينتمون إلى قوات سرايا الدفاع التابعة لرفعت الأسد، شقيق الرئيس الأسبق حافظ الأسد، الذي كان اسمُه وحده يبعث على الخوف. وكان المرء كلما صعد أكثر في هذا الحي يزداد قلقه وترتفع درجة ضغطه وارتباكه من العيون الأمنية المسلطة عليه، لأنه يقترب من القصر الجمهوري القديم، الذي لم يكن أحد يجرُؤ على ذلك، فالمنطقة التي يقع فيها تعد المربع الأمني الأكثر حراسة في سورية، ومن حوله تدور روايات الخوف. وقد عاش أهالي الأحياء التي تعد سكن الطبقات ما فوق الوسطى، ومقرّات السفارات، حالة من التوتّر الدائم، بسبب وجود هؤلاء الحكّام المزعجين والشرسين، وتنفسّوا الصعداء عندما انتقل الأسد الأب إلى القصر الجمهوري الجديد المعروف بقصر الشعب، على طرف جبل قاسيون، والذي بنته شركة أوجيه المملوكة من رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، وقدّمه هدية للأسد عند اكتمال بنائه عام 1988.

آثار صدمات العقد الماضي واضحة على حي الشعلان، الذي كان قد عرف ازدهاراً في مرحلة نمو دمشق العمراني والثقافي في ستينيات القرن الماضي

 

سيراً على الأقدام من هناك نحو جامعة دمشق، مروراً بنهر بردى الذي "يجري ويصفّق" رغم أن مجراه المائي تراجع كثيراً، بسبب الجفاف وسياسات الاستنزاف العشوائي للمياه خلال العهد الماضي، لكنه بات أنظف بفضل حملة الدفاع المدني، بعد أن كان قد تحوّل مكبّاً للنفايات. وفي الطريق، يطالعنا المتحف الحربي، وفي جواره المتحف الوطني، الذي افتتح أبوابَه بعد وقتٍ قصيرٍ من تحرير دمشق من نظام الأسد، وتديره سيدة متخصّصة، ريما خوام، وهو يشهد إقبالاً من زوار سوريين يبدو على بعضهم أنهم يكتشفون هذا الوجه الغائب من سورية. وثمّة ارتياح لأن هذه الثروة لم تتعرّض لمصير نظيرتها في العراق بعد سقوط بغداد عام 2003، رغم أن قسماً كبيراً منها تعرّض للنهب من لصوص الآثار في النظام السابق. 

غير بعيدة عنه جامعة دمشق العريقة، التي صار الدخول إليها من بوابة أمنية في عهد آل الأسد، بعد أن كانت مشرعة الأبواب، رغم الانتشار الأمني الكثيف، بدءاً من مقصف الآزروني على المدخل من اليمين، الذي كان مجاوراً لمقر اتحاد الطلبة، الذي تحول في تلك الأيام نقطة أمنية سرّية، وما زلت أتذكّر أن زملاء جرى اعتقالهم من المقصف تحت تهديد السلاح، واحتجازهم في مقر الاتحاد، بانتظار سيارة أمن لنقلّهم إلى الفرع. 

تبدو الجامعة كأنها انتقلت من زمن إلى آخر، وهي التي كانت أحد معاقل الحراك الديمقراطي، وشكّلت كلية الحقوق بؤرة للنضالات، منذ الاستقلال عن فرنسا. باتت اليوم مفتوحة الأبواب، لا مخابرات ورجال أمن يروّعون الطلبة والكادر التعليمي والزوار. هناك حالة تفاعل طلابية عالية مع العهد الجديد، روح جديدة تسري في أرجاء الجامعة، نقاشات بأصوات عالية، من أجل إصلاح وضع التعليم الذي تدهور بشكل كبير وتنظيف الجسم التدريسي من المُخبرين الذين كانوا يسلمون الطلبة المعارضين لأجهزة الأمن، ومن الفاسدين الذين كانوا يتاجرون بالأسئلة ويتلقّون الرشاوى لترفيع الطلبة الفاشلين.