واجه نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي موقفاً حرجاً، أول من أمس الأحد، عندما باغتته التظاهرات الشعبية من قلب المناطق الريفية، تحديداً من قرى مركز أطفيح بمحافظة الجيزة، إلى جانب بعض المناطق الريفية بأسيوط والبحيرة وأحياء حضرية في القاهرة والإسكندرية. وأدى ذلك إلى تعكير صفو المشهد الأمني، الذي كان النظام يرجو أن يخرج مستتباً، في نهاية يوم إحياء الذكرى الأولى لأكبر تظاهرات ضد حكم السيسي في 20 سبتمبر/ أيلول 2019. وعلى الرغم من التراجع البادي في درجة اتساع رقعة التظاهرات الليلية قياساً بالعام الماضي، إلا أن الاحتجاجات الشعبية ازدحمت بالمؤشرات الخطيرة التي تؤكد عدم استقرار نظام السيسي واستمرار معاناته لفرض الشرعية واكتساب الشعبية، لا سيما مع تعدد مساحات الخصومة التي خلقها النظام مع المواطنين. فبعدما كانت خصومته في السنوات الثلاث الأولى بعد انقلاب يوليو/ تموز 2013 مقتصرة على التيار الإسلامي والمجموعات السياسية المتمسكة بمبادئ ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، زادت تدريجياً لتشمل الأحزاب القومية والناصرية وجميع قوى اليسار والأوساط الحقوقية.
انتفاضة المناطق الريفية ضد السيسي أقوى مما كانت أيام مبارك
وتزامن ذلك مع أحداث التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير والبطش المتصاعد بالمعارضين. ثم دخلت الخصومة مع الشعب مراحل جديدة ومتقدمة، خصوصاً مع زيادة الأعباء الاقتصادية على كاهل المواطنين، والقرارات المتتالية حول زيادة أسعار رسوم المرافق والخدمات واحتكار الجيش لسوق التشغيل في العديد من المجالات. وفي العام الحالي، أصدرت الدولة قرارات وقف البناء، وما رافقها من تعطيل أعمال قطاعات عريضة من المواطنين، ثم الإصرار على تحصيل مبالغ التصالح في مخالفات البناء من المناطق الحضرية والريفية بأثر رجعي وبصورة تعسفية بهدف زيادة مداخيل الدولة. وجاءت أحداث الأحد لتؤكد الخطورة التي يواجهها نظام السيسي، ومن مناطق تستبعد التقارير الأمنية والمخابراتية أن تشهد أي توتر شعبي. ففي العام الماضي كانت التظاهرات متمركزة بشكل كبير في المناطق الحضرية، لا سيما في وسط العاصمة والإسكندرية والسويس والمحلة ودمياط ومدن الصعيد الكبرى، أي المناطق التي اعتادت الأجهزة خروج المواطنين فيها في أي حراك شعبي. لذلك كان التركيز الاستباقي للأجهزة الأمنية منصباً هذه المرة، ومنذ أسبوع تقريباً قبل يوم الأحد، على تقييد حركة المواطنين وتخويفهم في تلك المناطق، وتعمدت بث رسائل الإرهاب المعتادة، المستمرة حتى اليوم، بتوقيف الشباب العشريني والثلاثيني في محطات القطارات ومترو الأنفاق، ومداخل ومخارج المدن، في المواصلات العامة وتفتيش المارة في الميادين الكبرى.
كما اتخذت الأجهزة الأمنية تدابير لوضع المواطنين تحت قهر نفسي، كتصوير البطاقات الشخصية وفحص الهويات وتفتيش أجهزة المحمول والكمبيوتر. وعلى النقيض من هذه الاستعدادات، تعرّضت وزارة الداخلية لصفعة مبكرة من قرية الكداية بمركز أطفيح، التي لم تكن توجد فيها مع بداية الأحداث إلا سيارة دورية واحدة تقف باستمرار على مدخل القرية. وهي قرية خالية تقريباً من قيادات التيار الإسلامي السياسي، شأنها شأن معظم قرى المركز، بل تنتمي العائلات الكبرى فيها إلى التحالف التقليدي بين رأس المال والملكية في المناطق الريفية وبين الأجهزة الأمنية. كما كان من سكانها مرشحون بارزون للحزب الوطني المنحل الحاكم في عهد الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك، وما زال فيها آخرون مقربون من الأجهزة القائمة على إدارة حزب "مستقبل وطن" صاحب الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ.
وهنا تبرز دلالة عجز الأجهزة عن توقع الضربة الشعبية المقبلة في ظل تعدد الخصومات التي خلقها نظام السيسي على مدى سبع سنوات، وبدرجة لم يعد ممكناً تجاوزها من خلال خطاباته المتراوحة بين الاستعطاف والتودد والصرامة والتهديد. كما أن الخطاب الإعلامي المحلي، القائم على خداع المواطنين بقلب الحقائق وإخفاء الرأي الآخر وتضخيم المشروعات التي لا تعود على الجماهير بالنفع والتخويف من المستقبل والمعارضة والمؤامرات الخارجية المزعومة، أصبح ضعيفاً. وتظهر دلالة أخرى، تتمثل في عدم قدرة الأجهزة الأمنية على مجابهة الغضب الشعبي في المناطق الريفية تحديداً، فأياً كانت قدرة الشرطة، وحتى الجيش الذي هدد السيسي أخيراً بإرساله إلى القرى، إلا أن لا إمكانية للتصدي لتظاهرات شعبية. ومع مقارنة الوضع الحالي بوضع الاحتجاجات الشعبية في آخر سنوات عهد مبارك، يُلاحظ أن الاضطرابات كانت محدودة للغاية إن لم تكن معدومة في المناطق الريفية، وكانت مقتصرة على بعض المدن ذات الطابع الحضري والعمالي، كالقاهرة والمحلة والسويس والإسكندرية.
كما أن ثورة يناير ذاتها اتسمت بحراك مركزي على مستوى كل محافظة. أما الآن، وبسبب سياسات الإفقار التي يتبعها النظام والتي بلغت ذروتها بتفجير ملف مخالفات البناء هذا العام، أصبحت كل قرية قائمة على فوهة بركان، وكل نجع يشكل تهديداً لاستقرار النظام. وهو ما نبهت إليه التقارير الأمنية والحكومية التي طرحت على مجلس الوزراء هذا الشهر، التي تحدثت عن استحالة إمكانية التصدي لاضطرابات عدة في مناطق مختلفة في وقت واحد.
الجيش غير قادر على مواجهة سكان الأرياف رغم التهديد
وحمل الحراك الشعبي الأخير دلالة ثالثة، انطلاقاً من ظاهرة تعدد خصومات النظام أيضاً، تتمثل في استحالة السيطرة على مثل تلك الاحتجاجات لغياب الاعتبارات السياسية عنها بشكل عام، وارتباطها باعتبارات اقتصادية حياتية معيشية. ويهدد ذلك بتحول تلك الاضطرابات إلى فوضى عارمة. ويعتبر هذا المؤشر نتيجة طبيعية لمسيرة السيسي الممتدة لتجريف المشهد السياسي والقضاء على الأحزاب والجماعات والمنظمات والمجتمع الأهلي ككل، معبّراً عن رؤيته الشخصية لذاته "أنا مش بتاع سياسة"، ما أفرغ المجتمع المصري من النخب التي تستطيع قيادة الجماهير، وتلعب في الوقت ذاته دوراً في التواصل مع السلطات. وثمة دلالة رابعة للحراك تكشف فشلاً جديداً للنظام في إدارة المشهد السياسي، إذ لم تستطع الأجهزة، من مخابرات عامة وأمن وطني ورقابة إدارية، خلق وسائل للتحكم في المناطق الريفية وإدارتها والتواصل مع المواطنين أو للسيطرة على الجماهير فيها، مع العلم أنها نجحت في أوقات الاضطراب باختيار أعضاء مجلسي النواب والشيوخ الجدد وجمع الأموال من المرشحين المحتملين على سبيل التبرع وتمويل الحملات الدعائية.