دفعٌ جديد لتأطير صلاحيات الحرب بين الكونغرس والرئيس

دفعٌ جديد لتأطير صلاحيات الحرب بين الكونغرس والرئيس

14 مارس 2021
يتعلق الحراك بتفويضين سمحا بحربي أفغانستان والعراق (نورالله شيرزاده/فرانس برس)
+ الخط -

لطالما شكّل استخدام الولايات المتحدة للقوة العسكرية مساحة واسعة للجدل، في الداخل الأميركي وخارجه، منذ عقود طويلة. فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبروز هذه الدولة كقوة عظمى، واحتكارها لصفة الشرطي العالمي، بالتوازي مع احتكار قيادة الرأسمالية العالمية، في مواجهة لاعبين دوليين ومنافسين للنظام العالمي التي أرسته القواعد الأميركية، انخرطت الولايات المتحدة في عمليات عسكرية في الخارج، منفردة أو ضمن "تحالف" دولي، غالباً ما وضعته هي في سياق دفاعي أو لحماية مصالحها أو ضمن تبريرات شتى، تقود في الغالب، وفق أعدائها، إلى تكريس هيمنتها، وقادتها إلى الدخول في حروبها الطويلة التي لا تنتهي.

ومنذ حرب فيتنام، مروراً بحربي أفغانستان والعراق، وصولاً إلى الانخراطات الكثيرة لأميركا في الخارج، ومنها دورها في حرب اليمن، والتي تحول جزء كبير منها إلى محاربة "تنظيمات" و"جماعات" و"أفراد" تحت شعار مكافحة الإرهاب، لم يتمكن الرأي العام الأميركي من ممارسة الضغط الكافي أو التأثير في قرار الحرب خارج الأراضي الأميركية. وحصل ذلك، على الرغم مما شهدته حرب فيتنام من حراك داخلي أميركي لإنهائها، وعلى الرغم من التأثيرات الموضعية لتوجهات الرأي العام الأميركي، على غرار اتخاذ قرارات للسلطة مع كل رئيس لـ"تخفيض" أو "إعادة" عدد من الجنود الموجودين في ساحات المعارك، مثل أفغانستان أو العراق أو سورية، أو في أفريقيا.

دور الكونغرس الأميركي في إعلان الحروب، ظلّ لعقود، موجوداً فقط "على الورق"

وفي موازاة ذلك، يدور صراع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في واشنطن، ليس جديداً، حول الجهة المخولة احتكار إعلان وشنّ الحروب. فعلى الرغم من وضوح النصوص الدستورية، إلا أن ما تلاها جعل المسألة ضبابية، وغالباً ما تميل إلى كفّة الرئيس الأميركي، القائد الأعلى للقوات المسلحة. ويمكن القول إن الكونغرس الأميركي "تقاعد" منذ وقت طويل عن تأدية مهامه، في تأطير ومراقبة النشاط العسكري للولايات المتحدة في الخارج. وإذا كان الرئيس الأميركي بإمكانه التعويل على نصوص و"تصاريح" ومسالك شتى لاحتكار إصدار القرارات بتنفيذ أعمال عسكرية على شكل ضربات جوية أو عمليات اغتيال أو تدخلات عسكرية في الخارج، فإن الحراك الجديد الذي برز أخيراً في الكونغرس للحدّ من ذلك قد لا يجدي نفعاً، حتى مع مباركة الرئيس جو بايدن، سوى أنه يجعل الجدل حول الموضوع عالياً.

وبعدما منح الضوء الأخضر لتنفيذ ضربة جوية في شرقي سورية، في 25 فبراير/ شباط الماضي، ضد مواقع لمليشيات تدعمها إيران في هذه المنطقة، وهو ما أثار اعتراضات داخل الكونغرس، أبدى الرئيس الأميركي جو بايدن ترحيبه بالجهود التشريعية، لإلغاء أو تعديل "تصاريح" لاستخدام القوة العسكرية، أو ما يعرف بـ"أي يو أم أف"، التي تحكم الحرب على الإرهاب. علماً أن بايدن لم يسع إلى الحصول على موافقة الكونغرس حول الضربة السورية، لكنه أيضاً لم يذكر أياً من هذه التصاريح العديدة، كتبرير للضربة. وهو أمر مماثل فعله الرئيس السابق دونالد ترامب، حين منح الضوء الأخضر لاغتيال قائد "فيلق القدس" الإيراني قاسم سليماني، وهو ما حصل فعلاً من خلال ضربة جوية نفذت قرب مطار بغداد الدولي، بداية العام الماضي، وكان من الممكن أن تؤدي إلى تصعيد عسكري واسع النطاق في منطقة الشرق الأوسط. وفي مايو/ أيار 2020، استخدم ترامب حق الفيتو الرئاسي، لإحباط قرار في مجلس الشيوخ، يجبره على طلب التفويض من الكونغرس قبل الشروع في أي عملية عسكرية ضد إيران، ولم يتمكن "الشيوخ" من جمع أغلبية الثلثين اللازمة، لإسقاط الفيتو الرئاسي.

ومن الممكن القول باختصار إن دور الكونغرس الأميركي في إعلان الحروب ظلّ لعقود موجوداً فقط "على الورق". ويعود ذلك أيضاً بشكل أساسي إلى التناقض في الدستور الأميركي في هذا الشأن. وهنا، يجدر التوضيح أن هذا الدستور يوزع سلطة الحرب بين السلطتين التنفيذية والتشريعية: فالفصل الثامن من المادة الأولى يمنح الكونغرس سلطة إعلان الحرب وجمع وتمويل القوات المسلحة، فيما الفصل الثاني من المادة الثانية يمنح الرئيس صفة القائد الأعلى للبلاد، وهو ما لجأ إليه بايدن لتنفيذ ضربة البوكمال، شرقي سورية، في فبراير/ شباط الماضي.

دستورياً، يعني الفصل الثاني من المادة الثانية أن للرئيس السلطة في صدّ أي هجمات مفاجئة على الولايات المتحدة وقواتها المسلحة، فيما إعلان الحرب يبقى في يد الكونغرس. ولعقود، وفي كل المناسبات تقريباً التي أرسلت فيها الولايات المتحدة قواتها إلى ساحات معارك، بما فيها في أفغانستان والعراق، دار خلاف بين البيت الأبيض والكونغرس حول ذلك. لكن بالعودة إلى التاريخ الأميركي، فقد ظلّت سلطة الرئيس في هذا الإطار مهيمنة، حتى خلال الحرب الأهلية الأميركية، ومحاربة الكونفدرالية. ومنذ أكثر من 75 عاماً، ومنذ أن أعلن الكونغرس الحرب ضد اليابان، ما جعل الولايات المتحدة تدخل الحرب العالمية الثانية، فإن المسار الدستوري الأصلي لم يتبع. ولم تعلن الولايات المتحدة رسمياً الحرب على أي عدو خارجي منذ تلك الحرب، وتحديداً منذ 4 يونيو/ حزيران 1942، حين أعلنت الحرب ضد "دول المحور"، هنغاريا ورومانيا وبلغاريا. وجاء ذلك، على الرغم من أن الرؤساء الأميركيين، الذين تعاقبوا على السلطة منذ ذلك الحين، ومن موقع سلطتهم كقادة للقوات المسلحة، قد أطلعوا الكونغرس مرّات عديدة على قرارهم باستخدام القوة العسكرية، وفي بعض الأحيان، سعوا إلى الحصول على موافقة الكونغرس، إلا أن ذلك لم يمنح السلطة التشريعية فرصة مراقبة تلك الحروب، لا سيما التي طال أمدها، وتأطيرها، أو تحديدها في مدة زمنية. كما نأت المحاكم الفيدرالية بنفسها عن الدخول في هذه الجلبة، ما متّن سلطات الرئيس في المسألة. وزاد "قانون سلطات الحرب" الذي مرّره الكونغرس عام 1973 في هذا الإبهام، وفي منح الرئيس "شيكاً على بياض" لإطلاق الحرب لمدة زمنية محددة، ومجالاً للكونغرس للتغاضي عن المراقبة، حتى إلى ما أبعد من ذلك.

موقف بايدن المرحب بالحراك التشريعي لا يعني أن "تصاريح" جديدة لاستخدام القوة قد تبصر النور قريباً

وفي هذا الإطار، يسعى الحراك الجديد الذي يأخذ زخماً في الكونغرس إلى إعادة تأطير، أو البحث في تعديل، "تصريحين" محددين، يتعلقان خصوصاً بحربي جورج بوش الابن اللتين أطلقهما ضد أفغانستان والعراق، وهما الحربان اللتان سمحتا بشكل واسع بأن تكون يد الولايات المتحدة حرّة عسكرية للتغلغل في أكثر من مكان حول العالم، لا سيما مع تشعب مفهوم الإرهاب، الذي تخطى تنظيم "القاعدة" خلال السنوات الماضية. وإثر الضربة الأميركية الأولى في عهد بايدن على سورية، تقدم السيناتوران، الديمقراطي تيم كاين والجمهوري تود يونغ، بمشروع قرار لإلغاء تصريحي استخدام القوة، لعامي 1991 و2001، ضد العراق.

وأكد البيت الأبيض، في بداية مارس/ آذار الحالي، على لسان المتحدثة باسمه، جين ساكي، أن بايدن "يرغب بالعمل مع كاين حول المسألة". وأضافت ساكي أن الرئيس "يريد مناقشة إطار ضيّق ومحدد للتقدم بناء عليه"، مضيفة حول التصريحين أنه "يبدو جليّاً أنهما فقدا صلاحيتهما". وأخيراً، نقلت وكالة "رويترز" عن مشرعين أميركيين من الحزب الديمقراطي، يوم الجمعة الماضي، أنهم سيبدأون العمل خلال أسابيع على تشريع لتعديل تفويض استخدام القوة العسكرية الذي استخدمه رؤساء من الحزبين على مدار عقود لتبرير هجمات أميركية على أهداف خارج البلاد. ونقلت الوكالة، عن النائب غريغوري ميكس، تأكيده أن لجنة الشؤون الخارجية التي يرأسها في مجلس النواب ستبدأ في مناقشة إلغاء "تفويض استخدام القوة العسكرية" الذي سمح بالحرب في العراق في عام 2002. وأضاف ميكس: "أنوي تجهيز تشريع في لجنة الشؤون الخارجية في الأسابيع المقبلة لإلغائه التفويض"، وهو ما يتناغم مع الحراك في السابق في "الشيوخ" لكاين ويونغ.

وكان مجلس النواب الأميركي قد وافق العام الماضي على إلغاء تفويض استخدام القوة العسكرية 2002، لكن الإجراء لم يحظ بموافقة "الشيوخ". وكانت هذه "التصاريح" قد سمحت بتخطي صلاحية الكونغرس في إعلان الحرب وفق الدستور، كما أنها لا تنقضي بموعد محدد، علماً أن بوش الابن قد طلب موافقة الكونغرس على حروبه. وقالت النائبة باربرا لي أيضاً إن "تفويض استخدام القوة العسكرية" استخدم أكثر من 40 مرة، لتبرير هجمات في 19 بلداً، معتبرة أنه "حان الوقت لكي ننهي هذه الحروب التي لا تنتهي". وشدّد رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب، آدم شيف، على أنه "ينبغي لأي تفويض جديد أن يحمل موعداً محدداً، وأن ينطبق على دول محددة، وينبغي التشاور بشأنه مع الكونغرس". ويذكر أن بايدن كان قد صوّت لصالح "تصريح" 2002 حين كان سيناتوراً، والذي سمح بغزو العراق.

لكن موقف بايدن المرحّب بالحراك التشريعي الجديد لا يعني أبداً، بحسب متابعين، أن "تصاريح" جديدة لاستخدام القوة قد تبصر النور قريباً، أو حتى مع ذلك، قد تدخل حيّز التنفيذ، أو تنهي حروب أميركا الطويلة. وكان خبراء في موقع "جاست سيكوريتي" قد نشروا دراسة في يناير/ كانون الثاني الماضي حددوا فيها معايير دقيقة، لتعديل أو صياغة تصاريح جديدة، ومنها تحديد أي تصريح بثلاث سنوات فقط، وتحديد المنظمة أو الطرف الذي ينبغي ضربه، وتعهد الولايات المتحدة بعدم ضرب أي طرف آخر. لكن بحسب الكثير من الخبراء، لا سيما التقدميين منهم، فإن ذلك لن ينهي الحروب الطويلة للولايات المتحدة في الخارج، بل سيجعلها أكثر رسمية وتشريعاً، كما أنه سيجعل لهذا البلد اليد الطولى عسكرياً، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط. ويأتي ذلك فضلاً عن أن أي رئيس، وليس فقط بايدن، سيظلّ مستغلاً صلاحيته كقائد أعلى في البلاد، لتبرير احتكاره الواسع لقرار الحرب. لكن الخبر الجيد الوحيد يبقى أن الجدل حول المسألة، بالنسبة للكثير من المتابعين، يأخذ منحى أكثر جدية.

المساهمون