استمع إلى الملخص
- يثير موضوع خلافة الدالاي لاما جدلاً كبيراً بين الصين والتيبت، حيث تصر بكين على اختيار الخليفة وفقاً للقانون الصيني، بينما يؤكد الدالاي لاما أن مؤسسته في المنفى بالهند هي المسؤولة عن ذلك.
- رغم محاولات بكين للسيطرة على التيبت، يظل الدالاي لاما رمزاً للمقاومة السلمية، ويخشى التيبتيون من تعيين الصين لخليفة له لتعزيز سيطرتها.
شهد صباح السادس من يوليو/تموز 1935 ولادة الطفل تينزن غياتسو، لأبوين مزارعين في قرية صغيرة تقع شمال شرقي التيبت. وبعد عامين من ولادته أعلن مبشرون تيبتيون آنذاك أنه التجسد الجديد للدالاي لاما الثالث عشر، ثوبتين غياتسو، الذي توفي في عام 1933. بعد ولادته بسنتين، أي في عام 1937 تم اختيار تينزن غياتسو الدالاي لاما الحالي، في فترة كانت مليئة بالحروب والاضطرابات داخل الصين. وفي عام 1939، وتحديداً في عامه الرابع، أُخذ الطفل الصغير في موكب شعبي وديني من قريته إلى مدينة لاسا، عاصمة التيبت، بعدما نصب زعيماً روحياً ليكبر الطفل لاحقاً ويبدأ ممارسة مهامه الإدارية والسياسية في سن الشباب، وحيث بدأت تتداخل في حياته الأدوار الدينية والسياسية، والعلاقة مع الصين التي لا تخلو من خلافات طيلة العقود الماضية.
وفقاً للمعتقدات البوذية التيبتية، عندما يموت بوذا حيّ كالدالاي لاما، سيتقمّص روح طفل صغير، ويجب العثور عليه من خلال سلسلة من عمليات البحث والطقوس. تقليدياً، كان اختيار الطفل يتم على يد رهبان تيبتيين مرموقين. في القرن الثامن عشر، خلال عهد أسرة تشينغ (1644-1911)، حاول الإمبراطور تشيان لونغ استخدام مراسم تُعرف باسم "الجرة الذهبية" على غرار اليانصيب. وقد أعاد الحزب الشيوعي إحياء هذه المناسبة وأدرجها في اللوائح الرسمية في عام 2007، إلى جانب بند يحظر صراحة تدخل الأفراد والأحزاب الأجنبية. وكانت هناك مخاوف منذ فترة طويلة من أن يؤدي تناسخ الدالاي لاما إلى اضطرابات اجتماعية في المناطق التيبتية في الصين.
جدل حول تسمية خليفة الدالاي لاما الحالي
وبرز خلال الأيام الماضية جدل حول تسمية خليفة للدالاي لاما الحالي الذي يبلغ اليوم 90 عاماً، لا سيما أن إقليم التيبت الواقع جنوب غرب الصين ويتمتع بحكم ذاتي، تعده بكين مقاطعة صينية منذ 1965، بعد أن اجتاحته قواتها عام 1950. وتقول بكين إن لها الحق في الموافقة على خليفة الدالاي لاما باعتباره إرثاً من العصور الإمبراطورية، بينما أعلن الدالاي لاما أنه سيتم اختيار خليفته بعد وفاته من قبل المؤسسة التي يقودها في منفاه بالهند، والتي يوجد فيها حوالي 8.4 ملايين بوذي.
وأكد الدالاي لاما، يوم الأربعاء الماضي، أن المؤسسة البوذية القائمة منذ 600 عام ستستمر بعد وفاته، مضيفاً أنه تلقى مناشدات على مدى السنوات الـ14 الأخيرة من تيبتيين في المنفى وبوذيين من أنحاء منطقة الهملايا ومنغوليا وأجزاء من روسيا والصين تطالب "باستمرار مؤسسة الدالاي لاما". وفي رسالة تلاها خلال خلوة دينية في مدينة درمشالا، شمالي الهند حيث مقر المؤسسة الدينية، قال الزعيم البوذي، إن هذه المؤسسة ستكون الجهة الوحيدة المسؤولة عن "إعادة تجسده"، إي الاستنساخ الـ15. وأوضح: "أؤكد هنا أن مؤسسة جادين فودرانج لديها السلطة الوحيدة للاعتراف بالتناسخ المستقبلي؛ ولا يملك أي شخص آخر مثل هذه السلطة للتدخل في هذه المسألة". عكست رسالته، قبل أيام من عيد ميلاده الـ90، تصريحه في عام 2011 بأن التشاور مع الزعماء البوذيين هو ما يحدد هوية الدالاي لاما المقبل.
ياو بين: ما يهم بكين هو أن يتعاون الدالاي المقبل مع الحزب الحاكم
وسريعاً رفضت بكين خطة خلافته مؤكدة أن الخليفة سيتم اختياره وفقاً للتقاليد والقانون الصيني. وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، ماو نينغ، في مؤتمر صحافي الأربعاء الماضي، إن "تناسخ الدالاي لاما والبانشن لاما (وهو بمثابة معلم وثاني أهم شخصية تيبتية بعد الدالاي لاما) وغيرهما من الشخصيات البوذية العظيمة يجب أن يتبع مبادئ الاعتراف المحلي، وموافقة الحكومة المركزية، بما يتماشى مع التقاليد والقوانين الدينية". كما اعتبرت الجمعية البوذية الصينية، في بيان الخميس الماضي، رسالة الدالاي لاما الـ14، "انتهاكاً للتعاليم البوذية"، مضيفة أنه "منذ عهد الدالاي لاما الخامس (لوزانغ غياتسو 1617 -1682) جرى منح لقب الدالاي لاما لجميع من خلفوه من قبل الحكومة المركزية، وهي المصدر الذي تُستمد منه هذه المكانة الدينية.
وتعد الصين موضوع التيبت شأناً داخلياً. وذكرت وزارة الخارجية الصينية، في الرابع من يوليو الحالي، أن الصين تأمل في أن تتوقف الهند عن استخدام قضايا التيبت للتدخل في شؤونها الداخلية. جاء ذلك بعدما صرّح كيرين ريجيجو، وزير الشؤون البرلمانية والأقليات الهندي، الخميس الماضي، قبل زيارة مقر الدالاي لاما في دارامشالا، أنه "لا يحق لأحد التدخل أو تحديد من سيكون خليفة قداسة الدالاي لاما. فقط هو أو مؤسسته لديه سلطة اتخاذ هذا القرار". وأملت الخارجية الصينية في بيان، أن "يكون الجانب الهندي على علم تام بالقضايا المتعلقة بالتيبت"، مشددة على أن "ما يسمى بحكومة التيبت في المنفى هي مجموعة سياسية انفصالية تختلق الأكاذيب".
حكم الدالاي لاما للتيبت
وحكم الدالاي لاما الحالي التيبت لفترة وجيزة عندما كان شاباً وحاول لفترة من الوقت العمل مع بكين. ولكن في 1950، بعد عام من انتصار الشيوعيين في الحرب الأهلية التي أدت إلى تأسيس جمهورية الصين الشعبية، سيطر الجيش الصيني على التيبت. وفي العام التالي، وقّعت بكين اتفاقيةً من 17 بنداً مع النخب السياسية المحلية، وعدت فيها بمنح المنطقة استقلالها الذاتي، والالتزام بالحفاظ على نظامها السياسي وممارساتها الثقافية. كما وافقت على إبقاء الدالاي لاما قائداً للتيبت، ودمج جيشه في الجيش الصيني.
عام 1954، توجه غياتسو إلى بكين للقاء الزعيم الصيني آنذاك ماو تسي تونغ، والتباحث معه حول مستقبل التيبتيين، كما حضر الدورة الأولى للمجلس الوطني لنواب الشعب، وهو أعلى هيئة تشريعية في الصين، وانتُخب نائباً لرئيس اللجنة الدائمة للمجلس. ولكن بعد خمس سنوات، انهارت العلاقات بين الطرفين، وسرعان ما تراجعت الصين عن الاتفاقية آنفة الذكر، ما دفع التيبتيين إلى المقاومة. وفي شهر مارس/ آذار عام 1959 شهدت شوارع التيبت تظاهرة كبيرة من الأهالي مطالبة بإنهاء ما وصفوه بالاحتلال الصيني لبلادهم.
مع السيطرة الكاملة لبكين على النظام السياسي والممارسات الدينية في التيبت، ذهب الدالاي لاما إلى المنفى في الهند مع آلاف آخرين، وهناك أعلن عن تشكيل حكومة تيبتية، لكنها لم تحظ باعتراف دولي. وفي منتصف ستينيات القرن الماضي، منحت بكين إقليم التيبت حكماً ذاتياً جزئياً، ولكن بعد عام واحد، انقلبت الأوضاع في الإقليم رأساً على عقب إثر اندلاع الثورة الثقافية في الصين، التي أدّت إلى تدمير معابد التيبتيين وإتلاف تراثهم الثقافي والديني. ولكن بعد رحيل الزعيم الصيني ماو تسي تونغ عام 1976، أبدت بكين استعدادها لعودة الدالاي لاما، شرط عدم إسناد أي مسؤوليات له وأن تكون بكين محل إقامته، وليس لاسا، لكنه رفض العرض الصيني.
جيانغ قوه: علاقات بكين قد تتوتر مع الهند وواشنطن اللتين تدعمان الدالاي لاما
عام 1987 قدّم الدالاي لاما عرضاً يهدف إلى جعل التيبت منطقة سلام مثل الفاتيكان، تُحترم فيها حقوق الإنسان الأساسية والحريات العامة. ولاقت الخطة قبولاً في الغرب، لكن بكين رفضتها بشدة. بعد عام واحد، أطلق الدالاي لاما مبادرة لحل الصراع بين الصين والتيبت عُرفت بـ"الطريق الوسط"، وتقضي بتخلي سكّان التيبت عن مطالبهم بالاستقلال، في مقابل حكم ذاتي واسع في الإقليم، وهو الأمر الذي رفضته بكين. ومنذ ذلك الحين، تشهد المنطقة نزاعات وتوترات مستمرة، وتحذر الصين من النزعة الانفصالية في الإقليم، بينما تتهمها منظمات حقوقية بممارسة الاضطهاد الديني بحق نحو سبعة ملايين نسمة، عدد سكان التيبت.
ويقول الدالاي لاما إنه لا يسعى إلى الاستقلال السياسي للتيبت، لكنه لم يعترف بمطالبة بكين التاريخية بالسيادة على الإقليم. عام 2011، تنحى الدالاي لاما عن منصبه رئيساً لإدارة التيبت في المنفى، لكنه احتفظ بدوره الديني بصفته زعيماً روحياً للتيبتيين. ومن المقرر أن يحتفل الراهب البوذي الحائز على جائزة نوبل للسلام، بعيد ميلاده الـ90 اليوم الأحد، وسط حشود ضخمة في شمال الهند، وهي قاعدته منذ مغادرته التيبت هربا من القوات الصينية في عام 1959. وفي حين تدينه الصين وتصفه بالمتمرد والانفصالي، يصف الدالاي لاما المعترف به دولياً نفسه بأنه "راهب بوذي بسيط". ويخشى العديد من التيبتيين المنفيين أن تعيّن الصين خليفة له لتعزيز سيطرتها على التيبت.
معايير بكين
ويقول أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جنوب الصين، ياو بين، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن تناسخ الدالاي لاما وغيره من (زعماء) البوذيين، كان يتطلب تاريخياً موافقة السلطات المركزية في بكين، باعتبار أن التيبت جزء لا يتجزأ من الصين منذ العصور القديمة". وتفضل بكين، وفق ياو بين، بانشين لاما (جيدون تشويكي نيما)، ثاني أعلى شخصية دينية في التيبت والذي يترأس أعلى هيئة استشارية سياسية في الصين، لخلافة الدالاي لاما، وهو يتمتع بعلاقة جديدة مع القادة الصينيين. ولفت إلى أن "ما يهم بكين هو أن يتعاون الدالاي المقبل مع الحزب (الحاكم) وقادة البلاد للحفاظ على الوحدة الوطنية والتضامن العرقي، مع التركيز على تنمية الشعور القوي بالهوية بين جميع المجموعات العرقية في ما يتعلق بالوطن الأم والثقافة الصينية والحزب الشيوعي والاشتراكية ذات الخصائص الصينية". وكان بانشين لاما، قد التقى الرئيس الصيني شي جين بينغ، في بكين في يونيو/حزيران الماضي، ودعا حينه إلى "صيننة الدين"، حسبما ذكرت وسائل إعلام صينية رسمية. كما أعرب شي في اللقاء عن أمله في أن يعمل بانشين بجد ليصبح بوذا حياً تيبتياً يتمتع بمعرفة عميقة بالبوذية، ويحظى بحب الرهبان والأتباع العلمانيين، وأن يتولى زمام المبادرة في طاعة القانون والالتزام بالتعاليم.
من جهته، يقول الباحث في العلاقات الدولية في مركز النجمة الحمراء في بكين، جيانغ قوه، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "مع اقتراب عيد ميلاد الدالاي لاما الـ90 في السادس من يوليو، من المتوقع أن يشتعل الجدل مجدداً حول خليفته"، إلى جانب "ما قد يترتب على ذلك من عواقب محتملة على الاستقرار الاجتماعي وعلاقات الصين مع الولايات المتحدة والهند اللتين تدعمان الدالاي لاما في الخارج". ومع ذلك، فإن بكين، وفق جيانغ قوه، "ستتعامل مع التناسخ وفقاً للقانون الصيني، لأنه إذا تم الإعلان عن أن الدالاي لاما التالي قد تجسد في الخارج، فأعتقد أن هذا غير قانوني". وأوضح أن "مفهوم الخليفة الأجنبي (يختار في الخارج) للزعيم الروحي التيبتي، لا يتوافق مع الطقوس الدينية أو العادات التاريخية في التيبت، وكذلك لا يتفق أيضاً مع أساليب الإدارة الصينية لتناسخ بوذا الحي". يشار إلى أن واشنطن كانت معادية بشدة لسيطرة الشيوعيين على التيبت، وساعدت الدالاي لاما على الفرار آنذاك. وقد التقى العديد من الرؤساء الأميركيين بالدالاي لاما، وكان آخرهم الرئيس باراك أوباما عام 2016، كما زار مسؤولون أميركيون أيضاً التيبت بانتظام. وتعارض بكين أي اتصال من هذا القبيل من جانب حكومة أي دولة، باعتباره تدخلاً في الشؤون الداخلية للصين.
بدورها، وفرت الهند ملاذاً آمناً للمنفيين التيبتيين، وكان الدالاي لاما يقيم في مدينة دارامسالا الجبلية منذ عقود. ومع ذلك، فإن موقف نيودلهي تغير على مر السنين. وفي عام 2003، اعترفت نيودلهي بمنطقة التيبت ذاتية الحكم جزءاً من الصين، ووعدت بعدم السماح للتيبتيين في الهند بالانخراط في أنشطة تهدف إلى تقسيم الصين. في المقابل، اعترفت بكين بحكم نيودلهي على سيكيم، التي ضمتها عام 1975. ولكن في أعقاب الاشتباك الحدودي المسلح بين الجانبين في عام 2020، كثفت الهند اتصالاتها مع الدالاي لاما، بما في ذلك محادثة هاتفية مع رئيس الوزراء ناريندرا مودي في عام 2021.