تصاعدت الأزمة السياسية الخانقة التي تعيشها تونس خلال الأسابيع الأخيرة، ووصلت إلى درجة خطيرة للغاية بسبب رفض الرئيس قيس سعيّد استقبال بعض الوزراء لأداء اليمين الدستورية بذريعة وجود تضارب مصالح وشبهات فساد، وإصرار رئيس الحكومة هشام المشيشي والتحالف البرلماني على التشكيل الذي منحه البرلمان ثقته.
ما فعله سعيّد، أستاذ القانون المتمرس العارف بالدستور، هو أنه ضرب النظام السياسي التونسي في القلب، عندما ألقى بتصويت البرلمان في سلة المهملات. وطالما أنه لن يسمح بأداء اليمين لوزير بمجرد شبهة فساد، فإنه أيضاً سيرفض ختم أي قانون يصدر عن البرلمان تحت أي ذريعة أخرى، ما يعني أنه في نهاية الأمر يُسقط فاعلية النظام البرلماني، ويصبح هو المحدد لما يتم تمريره وما يتم رفضه. وهو يفعل ذلك بالتأكيد عن دراية وقصد، مستغلاً ثغرات تسبّبت فيها الأحزاب التي تكتوي بنارها اليوم، وعلى رأسها حركة "النهضة"، التي كانت جزءاً من تعطيل انتخاب بقية الأعضاء الثلاثة في المحكمة الدستورية، لأسباب وجيهة وأخرى غير وجيهة، عندما كان ذلك متاحاً زمن التوافق مع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي. فالحركة تشبثت بحسابات بسيطة وخلافات ثانوية حول شخصيات مرشحة، وتناست أن مهام المحكمة الدستورية بحسب الدستور هي "مراقبة دستورية تعديل الدستور، مراقبة دستورية المعاهدات، مراقبة دستورية مشاريع القوانين، مراقبة دستورية القوانين، مراقبة دستورية النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب، البت في النزاعات المتعلقة باختصاص كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، البت في استمرار الحالة الاستثنائية، إعفاء رئيس الجمهورية، إقرار الشغور النهائي لمنصب رئيس الجمهورية، تلقي يمين القائم بمهام رئيس الجمهورية حالة الشغور النهائي وفي حالة حل المجلس".
نسيت "النهضة" وغيرها أهمية هذه المحكمة، وتسبّب الجميع في أزمات متلاحقة كبّلت البلاد وعطّلت مصالح الناس، واليوم تدعو "النهضة" إلى الشارع أو تهدد بالنزول إليه، وكذلك الحزب "الدستوري الحر" ومن قبلهما أحزاب يسارية، بينما تجد سعيّد تارة في الشارع وتارة أخرى في المساجد. الكل يهدد الكل بالشارع، بينما تخفّى الجميع منذ مدة عندما انتفض هذا الشارع في وجه الجميع. يلعبون بالنار ويصرون على العناد على حافة الهوة، غير منتبهين إلى أن الجميع سيخسر، ويكفي التأمل في أرقام استطلاعات الرأي التي تُظهر أن 89,8 في المائة من التونسيين يرون أن تونس تسير في الطريق الخطأ. فماذا يريدون؟