استمع إلى الملخص
- تستغل هذه الدول الظروف السياسية الفرنسية المتوترة وتستفيد من دخول قوى جديدة مثل الصين وروسيا وتركيا، التي تقدم مقاربات مختلفة للتعاون السياسي والاقتصادي والعسكري.
- رغم الفرص المتاحة، تظل هناك مخاطر استبدال هيمنة بهيمنة أخرى، مما قد يعيد إنتاج أشكال جديدة من الاستغلال ويضيع فرص الإصلاح والتنمية.
قبل أيام أعلنت السنغال وتشاد إخراج القوات الفرنسية من أراضيهما ومنع أي وجود أو قواعد عسكرية للمستعمر السابق فيها. والقرار نفسه كانت قد اتخذته قبل ذلك دول في الساحل وغرب أفريقيا، مالي والنيجر وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى، وهي قرارات أملتها عودة النزعة القومية وصعود نخب سياسية وعسكرية أكثر انحيازاً إلى الخيارات الوطنية، بغض النظر عن طريقة الصعود، عبر انتخابات أو انقلاب عسكري.
بالتأكيد، فإن أي قرار من هذا النوع هو محل ترحاب شعبي وسياسي، يقطع مع صورة كولونيالية مقيتة ظلت تنتقص من السيادة الوطنية، وينهي وجوداً أجنبياً ظل جزءاً من تدخلات في القرار الوطني ومؤثر بقدر ما في الخيارات السياسية والاقتصادية المحلية لهذه الدول وتسييرها بما يصب كثيره في صالح ومصالح فرنسا والدول الاستعمارية. ومن الواضح أن هذا المد القومي الأفريقي يستغل ظروفاً قلقة في السياسات الفرنسية وهشاشة متراكمة في مؤسسة الحكم في فرنسا، والتي تخلفت كثيراً عن استشراف تحولات عميقة للسياسة في القارة الأفريقية، خصوصاً مع دخول قوى أخرى إلى المنطقة.
طرحت هذه القوى الجديدة، الصين وروسيا وتركيا، مقاربات مختلفة في التعامل مع هذه الدول، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو العسكري، وهي مقاربات ربما منحت للنخب الجديدة في دول الساحل وأفريقيا تصورات ممكنة لتحقيق تقدم على صعيد التنمية والخدمات والبناء الذاتي لأركان الدولة وتجاوز مشكلات الأمن والاستقرار. غير أن هذه الدول الأجنبية بحد ذاتها ليست "جمعيات خيرية"، بمعنى أن لها مصالحها الاستراتيجية التي تعمل عليها، ولذلك لن يكون ما تقدمه على أي صعيد كان بدون مقابل من المصالح.
إذا كان الأمر يتعلق بمستوى من المصالح المتبادلة والمتوازنة، فليس هناك عائق لإقامة تعاون استراتيجي وحيوي يخدم مصالح شعوب دول الساحل والقارة ويضعها على سكة الخلاص من مشكلات بدائية تعاني منها منذ عقود. لكن المحاذير الأساسية في هذه الخريطة المتحولة والفواعل المحلية والقوى الأجنبية تتعلق بوجود مخاطر استبدال هيمنة بهيمنة ومتدخل بمتدخل آخر، بغض النظر عن خلفيات التاريخ الكولونيالي الذي يظهر دائماً في صورة العلاقة بين باريس حصراً ودول أفريقيا، وبالتالي يعيد إنتاج أشكال مختلفة من الهيمنة والاستغلال ليس إلا، ويضيع على الشعوب فرصاً أخرى للإصلاح، خصوصاً مع تأثير ظروف التغيرات المناخية المرعبة من حيث نتائجها الاقتصادية على الحركة الديمغرافية.
من المهم التأكيد على فكرة أساسية نتيجة تقييم مرحلة عقود ما بعد الاستعمار المباشر. يتحمل الاستعمار، ولا شك، المسؤولية عن الأوضاع المضطربة التي عاشتها وتعيشها دول الساحل وأفريقيا، فقد استمر رغم خروجه الصوري من دول القارة في نهب ثرواتها، عبر طرق وأدوات مختلفة وإبقاء من يمثله على صعيد مسالك الحكم وإدارة الشأن العام في أفريقيا، وبإيجاد أنظمة كان يحسن التحكم في تركيبها وتفكيكها. لكن الاستعمار لا يتحمل وحده كل المسؤولية، فالنخب السياسية والعسكرية الحاكمة في دول الساحل وأفريقيا، بما فيها دول شمال أفريقيا، تتحمل نصيباً مهماً من المسؤولية عن خيارات خاطئة وتصورات متهالكة لمسألة الدولة والاستفراد بالحكم، لذلك كان الاستعمار يخرج من الباب ويعود من النافذة دائماً.