حرب ترامب ـ ماسك على جنوب أفريقيا: نظريات المؤامرة البيضاء والانتقام لإسرائيل

11 فبراير 2025
دونالد ترامب وإيلون ماسك في تكساس، 19 نوفمبر 2024 (براندون بيل/Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تشهد العلاقات بين الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا توتراً متزايداً بسبب مواقف جنوب أفريقيا السياسية، مثل دعمها للقضية الفلسطينية وتعزيز علاقاتها مع إيران، وانضمامها لتحالف "بريكس"، مما يثير قلق واشنطن.
- أصدرت إدارة ترامب أمراً بوقف المساعدات المالية لجنوب أفريقيا بسبب مصادرة الأراضي الزراعية للأقليات العرقية ورفع دعوى ضد إسرائيل، مما يعكس التوترات المتزايدة بين البلدين.
- يواجه قانون مصادرة الأراضي في جنوب أفريقيا انتقادات حادة، حيث يهدف لمعالجة التفاوت الاقتصادي والعرقي، لكنه يثير مخاوف من مصادرة الأراضي دون تعويض، مما يعقد المشهد السياسي والاقتصادي.

بين الضغوط التي تغذيها نظريات المؤامرة لتيار "المتفوقين البيض"، والأهداف السياسية ذات الأبعاد الاستراتيجية، تشتد الحملة التي أطلقتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على دولة جنوب أفريقيا مع بداية ولايته الثانية، التي كانت وصلت علاقتها مع الولايات المتحدة، في عهد سلف ترامب جو بايدن، إلى مستوى من التوتر اللافت، إثر الدعوى التي رفعتها بريتوريا أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، في محاولة لوقف جرائم الاحتلال في غزة.

وخلف الكواليس، تقف أسباب كثيرة وراء الالتباس الواضح في العلاقة بين الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا، وهو التباس يعود إلى حقبة الفصل العنصري وما بعدها. فبينما تبدي واشنطن وسياسيوها في العلن "إعجابهم" بالمثال الجنوب أفريقي في "التحرّر" من أحد أسوأ أنظمة الفصل العنصري في التاريخ الحديث، فإن النضال الجنوب أفريقي بقي شوكة في حلق الأميركيين، إذ غالباً ما يجرى التذكير به لدى فضح كيلهم الدائم بمكيالهم حين يكون الأمر متعلقاً بشعار الحرية والعدالة والمساواة، لا سيما إذا ما مسّ إسرائيل.

المثالان الفاقعان، جنوب أفريقيا وفلسطين، اللذان يختصران رحلتي تحرّر لم تتخلص في إحداهما، الثانية، من قبضة جلّادها بعد، يجعلان واشنطن ذات حساسية فاقعة حين يتعلق الأمر بالدفء الذي تبديه بريتوريا حيال القضية الفلسطينية. إلا أن ذلك لا يختصر حجم المشكلة، إذ منذ سنوات عدة، يتصاعد التذمر في واشنطن من سلوك جنوب أفريقيا، التي لم تعد من وجهة نظر أميركية تمت بصلة إلى معسكر "عدم الانحياز". فمع محاولة تحالف "بريكس"، الذي يضم روسيا والصين والبرازيل وجنوب أفريقيا والهند، التوسع وخلق عملته الخاصة، وتثبيت دعائم عالم متعدد الأقطاب، تقف أيضاً العلاقة بين جنوب أفريقيا وإيران، وتعزيز العلاقات الثنائية الخاصة مع بكين.

عدّد دونالد ترامب أسباب معاقبة جنوب أفريقيا، ومنها "قانون مصادرة الأراضي" ودعوى الإبادة ضد إسرائيل وتعزيز العلاقات مع إيران

كلّ ذلك تنظر إليه واشنطن بوجوم، حيث يدرس الكونغرس منذ ما قبل وصول ترامب إلى السلطة مراجعة العلاقات مع بريتوريا، أحد أهم الشركاء التجاريين للولايات المتحدة في أفريقيا. في هذا التصعيد، الذي يتداخل فيه البعد الأفريقي – الأفريقاني، ورواسب الماضي الاستعماري ونظام الفصل، يملك كلا الطرفين أوراق قوة وضعف، في وقت قد يكون الضغط الذي تتعرض له جنوب أفريقيا شديداً، هذه المرة، من قبل إدارة ترامب، لما تحمله من تشدد في "العقاب"، علماً أن ذلك قد يرتد على المدى الطويل على واشنطن التي تسحب أدواتها الناعمة من أفريقيا، تباعاً، كأوراق ضغط، ما قد يكون مفيداً للصين.

أمر تنفيذي وقطع مساعدات

ومنذ بداية شهر فبراير/شباط الحالي، يتواصل التصعيد من قبل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه جنوب أفريقيا، وصولاً إلى إعلان ترامب، يوم الجمعة الماضي، توقيعه أمراً تنفيذياً بوقف المساعدات المالية، لهذه الدولة الواقعة في أقصى جنوب القارة الأفريقية، مهاجماً بريتوريا على أكثر من صعيد، ومنها محاولتها فضح جرائم الاحتلال الإسرائيلي في لاهاي. وأوضح البيت الأبيض أن الأمر يستهدف التعامل مع ما سمّاه "الأفعال الفظيعة" في جنوب أفريقيا بشأن مصادرة أراض زراعية لأقليات عرقية، في إشارة إلى المزارعين وملّاك الأراضي البيض. ومن أسباب تعليق المساعدات بحسب ترامب، التجرؤ أيضاً على رفع دعوى ضد إسرائيل، ما يضر بـ"السياسة الخارجية" للولايات المتحدة. وقال: إن "جنوب أفريقيا اتخذت مواقف عدوانية تجاه الولايات المتحدة وحلفائها، بما فيها اتهام إسرائيل، وليس حركة حماس، بإرتكاب إبادة جماعية في محكمة العدل الدولية، وإعادة تنشيط علاقاتها مع إيران لتطوير اتفاقات تجارية وعسكرية ونووية.

وحمل أمر ترامب، وكذلك تصريحات لافتة ومتناغمة لترامب ووزير خارجيته ماركو روبيو، وكذلك مالك شركة سبايس إكس لتصنيع الطيران والنقل الفضائي الملياردير الأميركي المولود في جنوب أفريقيا إيلون ماسك، الذي كلّفه ترامب أخيراً بالإشراف على ما يسمى وزارة الكفاءة الحكومية، تهجماً على بريتوريا، غير مسبوق، حمل الكثير من التجني، الذي تنصلت من بعضه حتى اللوبيات والجماعات الأفريقانية (البيضاء) في جنوب أفريقيا. وعرض ترامب، على من وصفهم بالأفريقانيين "المضطهدين"، اللجوء إلى الولايات المتحدة، وهو أمر ووجه برفض من قبل عدد من مجموعات الضغط الأفريقانية.

ويشكّل الأفريقيانيون، وهم نسل أبيض من أحفاد المستوطنين الهولنديين والفرنسيين الأوائل في جنوب أفريقيا، حوالي 4% من سكّان جنوب أفريقيا، علماً أن البيض يشكّلون في هذا البلد حوالي 7%، فيما يشكّل الأفارقة السود حوالي 81%. وتعدّ ملكية الأراضي الزراعية إحدى أهم القضايا التي لا تزال عالقة في البلاد منذ زمن الاستعمار (استعمرتها هولندا وبريطانيا) ثم الفصل العنصري (دام 50 عاماً) الذي انتهى عام 1994 (مع فوز المناضل التاريخي نلسون مانديلا بالرئاسة).

وينظر المواطنون السود إلى قضية ملكية الأرض بصفتها إحدى القضايا الشائكة التي تمسّ جوهر نضالهم التاريخي ضد نظام الفصل العنصري، إذ على الرغم من دخول البلاد مرحلة الديمقراطية، إلا أن جنوب أفريقيا، التي تضم حوالي 63 مليون نسمة، لا تزال تسجل أعلى معدلات اللامساواة في العالم المرتبطة بالفوارق العرقية. وينظر الأفارقة السود إلى ذلك، غالباً، باعتباره أحد أوجه بقاء الأراضي الزراعية، بغالبيتها، بيد الأقلية البيضاء، التي تراكم الثروات من خلالها، علماً أن الحزب الحاكم، حزب مانديلا، أي حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، خلق طوال أكثر من 30 عاماً في الحكم طائفة من الأثرياء السود والفاسدين.

ومع دخول البلاد في أزمة اقتصادية خلال السنوات الماضية، وتراجع شعبية الحزب الحاكم، عاد ملف الأراضي الزراعية والمزارع ليفتح من جديد، في محاولة لمعالجة جذور أزمة التفاوت في الثروات واللامساواة العميقة. وفي هذا الخصوص، وقّع الرئيس سيريل رامافوزا، الشهر الماضي، قانون مصادرة الأراضي، وهو قانون من شأنه أن يسّهل على الدولة مصادرة الأراضي من أجل المصلحة العامة. ويتضمن القانون دفع تعويضات في غالبية القضايا للمالكين البيض، ولا تعني مصادرة الأراضي لمنحها لمواطنين سود، بل للمصلحة العامة، كتطوير البنية التحتية وبناء المدارس وغير ذلك. إلا أن القانون حظي باهتمام واسع في الولايات المتحدة منذ ما قبل وصول ترامب إلى البيت الأبيض، حيث ينشط لوبي جنوب أفريقي أبيض، منذ سنوات، في واشنطن، وبعضه يغذي نظريات مؤامرة، تتحدث عن "مذابح" ترتكب بحق المواطنين البيض في جنوب أفريقيا. وكانت هذه النظريات لفتت نظرت ترامب، للمرة الأولى لدى وصوله إلى البيت الأبيض، في عام 2017، وكتب مرة على "تويتر" (إكس حالياً) أنه قلق مما أسماه "فظائع ترتكب في جنوب أفريقيا". علماً أنّ أرقام الشرطة بشأن معدلات وأنواع الجرائم المرتكبة في البلاد، تدل كلّها على أن النسبة الأكبر من الجرائم يكون ضحاياها من السود.

"ستارلينك" في جنوب أفريقيا

وأعاد ترامب، قبل أيام من توقيع الأمر التنفيذي، الزعم أن هناك "أموراً فظيعة تحصل في جنوب أفريقيا". وصوّب ماسك، الذي كان ينتظر موافقة بريتوريا على إطلاق أنشطة شركته "ستارلينك" في جنوب أفريقيا، وهو أمر تأخر لأنه كان محل تفاوض مع الحكومة نظراً إلى قوانين التمكين الاقتصادي للسود (يجب على الشركات الأجنبية الراغبة في العمل في البلاد أن تدفع 30% من قيمة أي مشروع لصالح شركات مملوكة للسود)، على ما وصفه بـ"القوانين العنصرية" في جنوب أفريقيا، وهو يرفض تماماً دفع الـ30% وفق قوانين التمكين، وكان يعتمد على الانقسام الحاصل داخل الحكومة، بين "المؤتمر" و"التحالف الديمقراطي" الشريك في الحكم، للتملص من هذا الشرط (علماً أنه حتى داخل الحزب الحاكم، يوجد جناح يدعو للتعاون مع ماسك، وخرجت تقارير محلية أخيراً تقول إن الرئيس رامافوزا هاتف عائلة ماسك للتوسط من أجل تخفيض التوتر). ويبدو أن مالك "إكس" و"سبايس إكس"، المقرّب جداً من ترامب، قد اختار التصعيد، حيث لم يحضر ممثلو الشركة جلسة استماع كانت مقررة الأسبوع الماضي لتقديم عرض وإطار عمل جديد لتطوير خدمات الستلايت في جنوب أفريقيا، من أجل الحصول على رخصة.

إيلون ماسك المولود في جنوب أفريقيا هاجم "القوانين العنصرية" ورفض دفع الـ30% وفق قوانين التمكين لإطلاق أنشطة "ستارلينك

وبالعودة إلى قانون مصادرة الأراضي، فهو العنوان العلني لهجوم ترامب وفريقه، ودفع وزير الخارجية ماركو روبيو للإعلان أنه لن يحضر اجتماع وزراء الخارجية لمجموعة الدول الـ20 الذي تستضيفه جنوب أفريقيا أواخر شهر فبراير الحالي. وبحسب الأمر التنفيذي، فإنه يأتي لمعاقبة جنوب أفريقيا على "أعمالها الفاضحة"، وقانون مصادرة الأراضي لـ"تمكين الحكومة من مصادرة الأملاك الزراعية لأقلية الأفريقانية الإثنية من دون تعويض". واعتبر أن القانون يأتي "إضافة إلى سياسات لا تحصى انتهجتها الحكومة لمنع تكافؤ الفرص في العمل والتربية والأعمال"، في إشارة إلى امتعاض سابق للكونغرس الأميركي من قانون اعتبره البيض والأفريقانيين سيحد من تعليم واستخدام اللغة الأفريقانية في المدارس. واعتبر ترامب في القرار أن المالكين البيض للأراضي "غير مرغوب بهم لأسباب عنصرية".
كما أكد ماسك على "إكس" انتقاده القرارات "العنصرية" للحكومة في جنوب أفريقيا، التي ردّت بطريقة دبلوماسية رافضة ما وصفته بـ"الترهيب".

وكان قانون "الأرض الأصلية"، سنّ في عام 1913، منح معظم الأراضي الزراعية في جنوب أفريقيا للبيض، من قبل البريطانيين، ومعظمهم من الأفريقانيين، تاركاً فقط 13% من الأراضي بيد السود. ثم في عام 1950، مرّر "الحزب الوطني الأفريقاني" قانوناً لطرد 3.5 ملايين مواطن أسود من أراضيهم. واليوم، لا تزال 70% من الأراضي الزراعية بيد البيض. ورأى الخبير القانوني تمبكا نغوسوكايتوبي، في حديث لوكالة رويترز، أن "الفكرة من وراء قانون رامافوسا هي أن حريتنا لم تكتمل في 1994 لأن الوعد بالتحرر الاقتصادي لم يكتمل"، لافتاً إلى أن القانون يحتاج إلى 17 خطوة حتى تتم مصادرة أي أرض. أما بالنسبة إلى كيلي كريل، وهو الرئيس التنفيذي لمجموعة الضغط الأفريقانية "أفريفوروم"، فإن القانون "يخلق مخاوف من وضع اليد على الأراضي". رغم ذلك، فإن "أفريفوروم" شدّدت على رفض عرض ترامب مساعدة الأفريقانيين على اللجوء إلى الولايات المتحدة، حتى إن بعض لوبيات الضغط، وأصحاب الأراضي البيض، أكدوا في تقارير صحافية أنه لم تُصادر أراض ولم يُتعرض لأصحابها.

يوليوس ماليما المتعصب لفلسطين

ولمنح القضية بعداً عرقياً، وتغذية غضب "البيض" في الولايات المتحدة لتبرير الضغوط، أعاد ماسك نشر فيديو ليوليوس ماليما، السياسي الجنوب أفريقي والشعبوي من اليسار الراديكالي، الذي ينادي فيه بـ"قتل البيض". وطالب ماسك بفرض عقوبات على ماليما، الذي كان انشق عن حزب المؤتمر الحاكم وأسّس حزب "المقاتلين من أجل الحرية الاقتصادية" الممثل اليسارَ المتطرف، وإعلانه مجرماً مطلوباً دولياً. ويعدّ ماليما من السياسيين الشعبويين في جنوب أفريقيا، حتى إنه اعتبر لفترة "صانع ملوك" داخل حزب مانديلا، قبل أن ينشق عنه. ويرى فيه اللوبي الأبيض في جنوب أفريقيا، بحسب تقرير سابق لصحيفة ذا غارديان البريطانية، "خطراً" عليه، نظراً إلى مطالبته بطرد البيض وملاحقتهم، فضلاً عن أن ماليما من أشدّ المناصرين لفلسطين. وقد اعتبر في تجمعات شعبية، العام الماضي، أن كل من يطالب بقتل الفلسطينيين "عدو لنا"، مؤكداً أن ما يحصل في فلسطين المحتلة "إبادة جماعية". كما رأى أن "حل الدولتين" ليس هو ما تجب المناداة به، بل يجب أن يطبق النموذج الجنوب أفريقي، وهو أن يقرر الفلسطينيون مصيرهم، وهو ما إذا كانوا "يرغبون في العيش مع المستوطنين أو رميهم في البحر". كما طالب حكومته بطرد السفير الإسرائيلي من بريتوريا، وقطع العلاقات مع إسرائيل، متساؤلاً عن سبب تلكؤ الحكومة في ذلك.

على الرغم من ذلك، يرى متابعون أن التصعيد بين إدارة ترامب وجنوب أفريقيا ليس سوى آخر تجليات مرحلة من التوتر يقف خلفها العديد من القضايا، سبقت وصول ترامب إلى البيت الأبيض. وبحسب دافي رودت، كبير الاقتصاديين في شركة Efficient group consultancy، في حديث لوكالة فرانس برس، فإن عدداً من أعضاء مجلس الشيوخ في الإدارة السابقة، كانوا قد طرحوا أسئلة عدة حول العلاقة مع جنوب أفريقيا، وقد دعا عدد من المشرعين في عام 2023 بايدن لمعاقبة جنوب أفريقيا لعدم إدانتها الغزو الروسي لأوكرانيا. وبحسب رودت، فإن هذه الأصوات كثرت أخيراً، لا سيما أن بريتوريا أظهرت أخيراً، بنظر الأميركيين، الولاء للصين، مقابل دعم واشنطن لتايوان، فيما هدد ترامب بفرض تعرفات جمركية بنسبة 100% على دول "بريكس".

ومن شأن العقوبات المفروضة على جنوب أفريقيا، وهي إيقاف المساعدات التي تقدر سنوياً بنصف مليار دولار، وحرمانها من 17% من تكلفة برامج العلاج من مرض "الإيدز"، ما سيؤثر على حياة الملايين، وسط مخاوف أيضاً من مصير قانون النمو والفرص الأفريقي "أغوا" الذي أقرّه الكونغرس في عام 2000، ويسمح لبعض البضائع الأفريقية من الوصول إلى الأسواق الأميركية من دون ضرائب جمركية.

المساهمون