حراك دولي في بنغازي... حفتر يهندس مصالحه مع واشنطن وموسكو
استمع إلى الملخص
- زيارة خالد حفتر إلى موسكو ونشاط تركيا في بنغازي يعكسان تعزيز العلاقات العسكرية، بينما تسعى واشنطن لتعزيز حضورها، مما يخلق توازنات جديدة في المشهد الليبي.
- يحاول حفتر إدارة توازن دقيق بين القوى الكبرى، لكن التنافس المتزايد قد يؤدي إلى تصادم نفوذ في المنطقة، خاصة مع الانقسام الليبي المستمر.
في مشهد يعكس تسارع الأحداث وتداخل المصالح في الشرق الليبي، تشهد بنغازي حراكاً متلاحقاً، مع زيارات متكررة ذهاباً وإياباً لوفود وشخصيات رسمية رفيعة تعكس حجم التنافس على النفوذ في المنطقة، ما يثير تساؤلات حول موقع معسكر اللواء المتقاعد خليفة حفتر داخله، وما إذا كان هذا الحراك يمثّل فرصة لتعزيز نفوذه أم يضعه أمام اختبار لحدود قدرته على التحكم في مساراته.
نجلا خليفة حفتر في الواجهة
وفي آخر محطات حراك بنغازي، وصل خالد نجل حفتر إلى موسكو حيث استقبله نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكيروف وسط مراسم رسمية. ووفقاً لبيان المكتب الإعلامي لقيادة حفتر، فإن هذه الزيارة جاءت "في إطار تعزيز علاقات التعاون بين البلدين، وبحث آفاق التنسيق المشترك في مجالات التدريب، وتبادل الخبرات، وتطوير القدرات الدفاعية". وهذه أول مهمة خارجية يجريها خالد حفتر بعد ترقيته لرتبة فريق وتعيينه رئيساً للأركان العامة بقرار من مجلس النواب الأسبوع قبل الماضي، في جلسة صادق فيها البرلمان الليبي أيضاً على قرار آخر لحفتر، عيّن بموجبه نجله صدام نائباً له في ما يعرف بـ"قيادة الجيش الوطني"، في خطوة رآها مراقبون تكريسا لهيمنة العائلة على مفاصل القرار العسكري في الشرق.
باتت زيارات يفكيروف إلى بنغازي تجري أخيراً بشكل روتيني ومعلن
لكن زيارة خالد حفتر إلى موسكو، وما رافقها من إجراءات أخرى تعزّز سلطة حفتر، لا تبدو حدثاً معزولاً، فقد جاءت في سياق محطات متسارعة شهدتها بنغازي أخيراً، ما حوّلها إلى مسرح علني لتقاطعات إقليمية ودولية. فقد التقى خالد حفتر قبل زيارته موسكو بيومين القائم بأعمال السفارة الأميركية لدى ليبيا، جيرمي برنت، وناقشا تعزيز التعاون "في المجالات الأمنية والعسكرية، وآليات التنسيق المشتركة، والتأكيد على أهمية توحيد المؤسسات العسكرية في ليبيا.
والأحد الماضي، رست فرقاطة تركية في ميناء بنغازي، على متنها وفد تركي رفيع ضمّ المدير العام في وزارة الدفاع الفريق إلقاي ألتينداغ، واستقبلها صدام حفتر، وناقش على متنها مع الوفد التركي ملفات التعاون العسكري والبحري وتبادل الخبرات الفنية والتقنية، بحسب المكتب الإعلامي لقيادة حفتر، فيما ذكرت السفارة التركية لدى ليبيا أن الفرقاطة أجرت تدريباً بحرياً مشتركاً قبالة سواحل بنغازي بمشاركة زوارق تابعة لقوات حفتر، بالتزامن من بيان أصدرته وزارة الدفاع التركية أكدت فيه أن الاجتماعات على متن الفرقاطة جرت "في إطار الهدف المتمثل بليبيا واحدة وجيش واحد".
وفي اليوم التالي، زار رئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم قالن بنغازي والتقى خليفة حفتر في مكتبه، وناقش معه "سبل مواجهة الهجرة غير القانونية وتعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي"، إلى جانب بحث "أوجه التعاون الثنائي والآليات المشتركة لمكافحة التحديات الأمنية". ولفت بيان مكتب حفتر الإعلامي إلى أن النقاشات تطرقت إلى "التطور الملحوظ في العلاقات بين الجانبين"، وأن الطرفين أعربا عن رغبة متنامية في تطوير مستوى الحوار بما يتجاوز الجانب الأمني التقليدي ليشمل مجالات مختلفة.
وفي جانب متصل بالحراك التركي، أكد وزير الخارجية هاكان فيدان في تصريحات صحافية، أول من أمس الجمعة، أن تركيا تستخدم وجودها العسكري في ليبيا "لمنع تفاقم الصراع"، وأن استراتيجيتها الأساسية تقوم على وحدة ليبيا وسلامتها الإقليمية. وأضاف فيدان أن الانقسام بين الشرق والغرب في ليبيا طال أمده، وأن بلاده "تلعب دوراً في منع تقسيم ليبيا"، لافتاً إلى أنه ناقش الملف الليبي قبل أيام مع نظيره المصري بدر عبد العاطي في جدة.
ارحومة الطبال: خالد صار واجهة موسكو، وصدام واجهة واشنطن وأنقرة
ويوازي الحراك التركي المتصاعد في الشرق الليبي، الذي جاء بعد سنوات من القطيعة، إذ ساهمت أنقرة في إفشال عدوان خليفة حفتر على طرابلس عام 2019، ثقلاً روسياً عسكرياً كبيراً تعزز منذ أن دعمت موسكو حفتر بالمئات من مقاتلي شركة المزتزقة "فاغنر" في عدوانه على طرابلس، قبل أن يرتفع مستوى التحالف إلى منح روسيا أهم القواعد العسكرية في شرق البلاد، وصولاً إلى العمق الصحراوي المتصل بالمجال الأفريقي. وباتت زيارات يفكيروف إلى بنغازي تجري أخيراً بشكل روتيني ومعلن، في إشارة إلى تحالف روسي أخذ طابعاً رسمياً، ما يجعل زيارة خالد حفتر إلى موسكو امتدادا لمسار متجذر.
وظل هذا الثقل الروسي يقلق واشنطن التي قرّرت بدورها الاقتراب من معسكر خليفة حفتر عبر زيارات متكررة لمسؤوليها، منذ العام الماضي، ثم ارتفع مستواها مع زيارة نائب قائد "أفريكوم" (القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا) جو برينان في فبراير/شباط الماضي، مروراً برسو السفينة "يو أس أس ماونت ويتني" في إبريل/نيسان الماضي، وعلى متنها قائد الأسطول السادس نائب الأدميرال جيه. تي. أندرسون، وصولاً إلى زيارة بولس مسعد، المستشار الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترامب، في يوليو/تموز الماضي (زار الشرق الليبي من ضمن زيارة إلى لبيبا استمرت 3 أيام في أواخر يوليو). وفي خطوة لافتة، استقبلت واشنطن صدام حفتر في إبريل الماضي مبعوثاً خاصاً من والده.
وفي المجال الإقليمي، ظلّت القاهرة، الحليف التقليدي لحفتر، تراقب عن كثب، لكنها لم تبق بعيدة، فقد استقبلت خليفة حفتر وأولاده في مناسبات عدة، كما زار مسؤولوها بنغازي، وآخرهم رئيس جهاز الاستخبارات المصرية اللواء حسن رشاد الذي زار بنغازي الأحد الماضي، قبل يوم من زيارة قالن، في استمرار لمسار التنسيق الأمني المصري مع قيادة حفتر.
مصطفى الكوت: لا شك أن مصر منزعجة من الارتباك الذي يعيشه حفتر
هذه المشاهد تكشف عن مساعٍ دولية وإقليمية كثيفة تتقاطع خطوطها في بنغازي. فمن جهة يسعى الروس إلى مأسسة وجودهم العسكري عبر خالد حفتر بعد تعيينه على رأس الأركان، ومن جهة ثانية تنشط تركيا بشكل غير مسبوق فاتحة قنوات مباشرة مع حفتر وأبنائه في مسعى لشرعنة اتفاق ترسيم الحدود البحرية الموقع مع حكومة طرابلس عام 2019، أما واشنطن فقد كثّفت حضورها السياسي والعسكري في الشرق الليبي لإرسال إشارات تحمل في مضامينها بأنها يمكنها الانخراط بفاعلية في المنطقة.
وفي قراءته لهذا الحراك، رأى عضو حزب الائتلاف الديمقراطي الليبي، ارحومة الطبال، أن حفتر يدير استراتيجية يحاول من خلالها "هندسة توازن حاد بين القوى الكبرى للحفاظ على موقعه". وأوضح الطبال في حديث لـ"العربي الجديد"، أن توجّه خالد وصدام في زياراتهما يعكس توزيعاً للأدوار "فخالد صار واجهة موسكو، وصدام واجهة واشنطن وأنقرة".
واعتبر الطبال أن زيارة خالد إلى موسكو بعد أيام من تعيينه في منصبه الجديد تهدف إلى "طمأنة الروس باستمرار التحالف، ومن المهم أن قراءة توقيت الزيارة بعد أيام قليلة من الزيارات التركية المهمة لبنغازي، فالتوقيت يؤشر إلى رغبة حفتر في توصيل رسالة لواشنطن مفادها بأن الشرق ليس منطقة نفوذ روسية صافية".
في المقابل، رأى أستاذ العلاقات الدولية، مصطفى الكوت، أن حفتر "يخوض مغامرة أجبر عليها، فهو لا يستطيع الموازنة بين كل هذه القوى ولا يملك الحنكة اللازمة لذلك، فإدخاله موسكو وأنقرة وواشنطن معاً إلى بنغازي يفتح الباب لصدام نفوذ قد ينفجر عند أول أزمة أو تصعيد دولي في ملفات أخرى أكثر حساسية من الملف الليبي".
ولفت الكوت في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن ما يصفه بـ"التوريث المؤسسي" لدى حفتر، لا يسمح له بوجود بيئة مناسبة ليوازن المصالح الدولية، موضحاً أن "تنافس الأبناء سينفجر في أي يوم، وهناك العديد من الظروف الأخرى التي يدركها اللاعبون الدوليين فهم لا يرون في معسكر حفتر سوى ممر لمصالحهم أكثر منه قوة محلية مستقلة". وأضاف أن الوضع العسكري في ليبيا لا يزال مرسوماً بخريطة راسخة منذ سنوات، حيث تسيطر روسيا بكثافة على قواعد عسكرية في مجال حفتر، وتركيا على قواعد الغرب، متسائلاً "كيف يمكن لحفتر أن يوازن هذا الثقل العسكري المنقسم؟ فما يحدث في بنغازي وضع تفرضه المصالح الدولية فرضاَ، وليس نتاج إرادة حفتر أو تخطيطه". ورأى أن حفتر "سيجد نفسه في مسرح تتواجد فيه قوى متنافسة، ما يحوّل البلاد إلى ساحة مصالح متقاطعة، وربما سيدفع إلى موقف وشيك للقاهرة، الأكثر اتصالا بمجال حفتر، للحد من هذه الفوضى في بنغازي". وأوضح أن "مصر حتى الآن لا تزال توازن الأوضاع من خلال تفاهمات مع تركيا، لكنها لا شك منزعجة من الارتباك الذي يعيشه حفتر، وآخر مظاهره سعيه إلى توريث كل شيء لعائلته".