جنون القوة الإسرائيلي يلغي الحاجة لاستخلاص عِبَر الماضي
استمع إلى الملخص
- استراتيجية عسكرية جديدة: تحديث إسرائيل لاستراتيجيتها الدفاعية بعد أحداث أكتوبر 2023، يشمل إنشاء منظومة دفاع برية من ثلاث طبقات على الحدود مع غزة ولبنان وسوريا، مع التركيز على نزع السلاح من المناطق المهددة.
- إخفاقات الماضي: رغم تحديث الاستراتيجيات، تكرار الإخفاقات يظهر في عدم التحضير للحروب المستقبلية، مع استمرار الاعتماد على القوة العسكرية دون مراجعة حقيقية للتجارب السابقة.
أطلق رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو خلال حفل تخريج دفعة ضباط جديدة من الكلية العسكرية، يوم الأحد 23 فبراير/شباط الحالي، تصريحات عدائية جديدة تجاه سورية، إذ قال إن إسرائيل ستستمر باحتلال الأراضي في الجنوب السوري ومرتفعات جبل الشيخ، وإسرائيل لن تسمح بدخول ووجود لقوات الحكومة السورية الجديدة إلى منطقة جنوب سورية المحاذية للحدود. في اليوم نفسه، حلّقت الطائرات الحربية الإسرائيلية على علو منخفض في أجواء العاصمة اللبنانية بيروت، أثناء تشييع جثماني الأمينين العامين السابقين لحزب الله، حسن نصر الله وهاشم صفي الدين، اللذين اغتالتهما إسرائيل أثناء الحرب على لبنان. كذلك أعلن وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس، في اليوم نفسه، أن تل أبيب لن تسمح بعودة السكان الفلسطينيين الذين هُجروا من منازلهم في المخيمات الفلسطينية بمنطقة جنين وطولكرم، بالتوازي مع إعلان الجيش الإسرائيلي توسيع عملياته العسكرية في شمال الضفة الغربية. كما أعلنت الحكومة الإسرائيلية ليلة السبت الماضي تجميد عملية إطلاق سراح نحو 600 أسير فلسطيني، كان يفترض إطلاق سراحهم بعد إطلاق حركة حماس ستة أسرى إسرائيليين، وفقاً لاتفاق تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار. بذلك قامت الحكومة الإسرائيلية، خلال أقل من 24 ساعة، بحملة تصعيد على كافة الجبهات.
توسّع إسرائيل احتلالها وسيطرتها على الأراضي السورية في الجنوب، وتعمل على فرض واقع جديد على سكان المنطقة
توسّع إسرائيل احتلالها وسيطرتها على الأراضي السورية في الجنوب، وتعمل على فرض واقع جديد على سكان المنطقة، بحجة منع تشكيل تهديد أمني مستقبلي من تلك المناطق. وتعمل على خلق واقع عسكري أمني جديد في لبنان تقوم عبره باحتلال أراضٍ وإنشاء مواقع عسكرية داخل الأراضي اللبنانية، وتنفذ هجمات جوية شبه يومية في العمق اللبناني، وتعمد إلى منع إعادة ترميم قدرات حزب الله العسكرية والمدنية والمالية. وتصرح بأنها لن تقبل بأي مقاومة أو معارضة من الأراضي اللبنانية.
ترفض إسرائيل توضيح خططها لليوم التالي في غزة، وتعارض إنهاء الحرب، وتعمل على تعطيل تنفيذ اتفاق تبادل الأسرى والمخطوفين ووقف إطلاق النار والتقدّم نحو المرحلة الثانية من الاتفاق، وتهدد بتصعيد إضافي واستمرار الانتقام من المدنيين في غزة إذا عارضت "حماس" الشروط الإسرائيلية الجديدة. كما تنفذ سياسات جديدة في الضفة الغربية ترمي إلى إلغاء نتائج اتفاقيات أوسلو على أرض الواقع، وتهمش أكثر فأكثر مكانة وحضور السلطة الفلسطينية، وتعمل على ضرب أي احتمال لتنظيم حركات مقاومة أو معارضة لسياساتها هناك.
هذه ليست أحداثاً عابرة او تعنّتاً إسرائيلياً تقليدياً، ولا مجرد محاولة لفرض واقع أمني واستراتيجي جديد على الحدود مع سورية، أو انتقام ممزوج برغبة الإهانة لقيادات وكوادر وجمهور حزب الله، ولا حالة ابتزاز لحركة حماس واستمراراً للقمع والقتل في الضفة الغربية. هذه رسائل بأن إسرائيل غيّرت من استراتيجيتها العسكرية في المنطقة، ومن أسلوب عملها وتصرفها؛ وأن لا شيء يمكن أن يمنعها من تنفيذ رغباتها وقراراتها وتصوراتها للمنطقة في اليوم التالي للحرب، ليس لقطاع غزة فقط، وإنما للمنطقة بأسرها.
إسرائيل غيّرت من استراتيجيتها العسكرية في المنطقة، ومن أسلوب عملها وتصرفها
توضيح استراتيجيات إسرائيل الجديدة
يوضح رون بن يشاي، المحلل العسكري في موقع يديعوت أحرونوت والمقرب جداً من المؤسسة العسكرية (في 25 فبراير/شباط الحالي)، أن إسرائيل قامت نهاية العام الماضي بتحديث استراتيجيتها الدفاعية إثر أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، التي تهدف "في المقام الأول إلى توفير الأمن لسكان البلدات القريبة من الحدود في الجنوب، وفي الشمال، وعلى الحدود مع سورية. سواء في البلدات القريبة من الحدود أو تلك التي تبعد عنها عدة كيلومترات".
في الحدود التي لا تزال تشهد حرباً نشطة أو شبه نشطة، أي على حدود قطاع غزة، والحدود مع لبنان، وفي هضبة الجولان المحتلة، سيتم وفقاً لبن يشاي، إنشاء منظومة دفاع برية من ثلاث طبقات. ستكون الطبقة الدفاعية الأولى داخل أراضي إسرائيل، والمنظومة الدفاعية الثانية في جميع هذه الجبهات الثلاث ستكون داخل أراضي "العدو"، لتشكل طبقة من "الدفاع الأمامي"، وهو المفهوم الذي كان قائماً سابقاً في "الحزام الأمني" في جنوب لبنان منذ عام 1984 وحتى انسحاب الجيش الإسرائيلي عام 2000. وهو ما يعني وجوداً عسكرياً إسرائيلياً، بطريقة أو بأخرى، في المنطقة العازلة الواقعة داخل أراضي قطاع غزة وجنوبي لبنان وجنوبي سورية.
الطبقة الثالثة من منظومة الدفاع الأمامي، والتي تمثل التجديد الحقيقي كما يوضح بن يشاي، هي نزع السلاح من المناطق التي تشكل تهديداً لإسرائيل. في قطاع غزة، أعلن نتنياهو أن أي اتفاق لإنهاء الحرب يجب أن يتضمن ليس استعادة الأسرى والقضاء على الحكم المدني والعسكري لـ"حماس" فقط، بل أيضاً نزع سلاح القطاع بالكامل. وفي جنوب لبنان تطالب إسرائيل بمنطقة منزوعة السلاح لغاية نهر الليطاني، والآن في سورية تعمل إسرائيل على فرض منطقة عازلة في كافة المنطقة الجنوبية المحاذية للحدود.
عدم استخلاص عِبَر الماضي
قد تعمل وتنجح إسرائيل في تنفيذ استراتيجيتها العسكرية الجديدة، وخلق وقائع عسكرية وأمنية جديدة تميل لصالحها في المنطقة على المديين القريب والمتوسط. لكن تجربة الماضي أظهرت أن إسرائيل، التي تقوم بتحديث عقيدتها العسكرية بعد الانتهاء من كل حرب، بغية التعامل مع إخفاقات ونجاحات، ونتائج ومسببات الحرب المنتهية، تفشل في العديد من الأحيان بالتحضر للحرب المقبلة وفي منع إخفاقات عسكرية على المدى البعيد.
هكذا كان بعد الفشل والإخفاق الاستخباراتي في حرب أكتوبر عام 1973 حين أقيمت لجنة "اغرانات" للتحقيق في الإخفاق الاستخباراتي، ووضعت توجيهات جديدة للمؤسسة العسكرية ولأجهزة المخابرات، بشكل خاص فيما يتعلق بنقل المعلومات والمعطيات، التشخيص والتحليل. وشخّصت اللجنة حينها وجود ما بات يعرف بـ"الكونسبتسيا" (بالعبري) أي التفكير الجماعي الموحد (بالترجمة الحرة)، وفرضت إقامة هيئة رقابة داخلية في شعبة المخابرات (أمان)، أو ما بات يعرف بوحدة "ايفغا مستبرا"، ما يعني "العكس هو الصحيح" أو "النقيض هو المنطقي"، وهو مصطلح استُخدم في المناقشات التلمودية للإشارة إلى وجهة نظر معاكسة قد تكون أكثر منطقية أو صحيحة من الفرضية الأصلية أو الشائعة، بغية منع تكرار مخاطر التفكير الجماعي الموحد وقراءة خاطئة للواقع.
تجربة الماضي أظهرت أن إسرائيل تفشل في العديد من الأحيان بالتحضر للحرب المقبلة وفي منع إخفاقات عسكرية
بعد حرب لبنان الثانية عام 2006 شكّلت إسرائيل لجنة "فينوغراد" للتحقيق وفحص الأداء في الحرب، خصوصاً إثر الشعور بالفشل العسكري وعدم قدرة الجيش الإسرائيلي على حسم المعركة والقضاء على قدرات حزب الله. بخلاف لجنة "اغرانات" التي تركزت في المستوى العسكري، طاولت توصيات لجنة "فينوغراد" صنّاع القرار، خصوصاً رئيس الحكومة ووزير الأمن ورئيس الأركان، واعتبرت أنهم فشلوا في أداء مهمتهم، وأن إسرائيل لم تكن مهيأة لخوض الحرب، وأنها أخفقت في إدارة الحرب. كما أضافت إسرائيل مبدأ الدفاع إلى عقيدتها الأمنية بعد حرب عام 2006 وفقاً لتوصيات لجنة مريدور (على اسم وزير القضاء والمالية السابق دان مريدور الذي ترأس لجنة داخلية لتحديث عقيدة الأمن الإسرائيلية بعد حرب لبنان عام 2006 بقيت توصياتها سرية). بالتوازي، وفي نوع من استخلاص العبر داخل الجيش الإسرائيلي، وضع الجيش "عقيدة الضاحية" عام 2008 التي تحدثت عن تحويل أي حرب مستقبلية بين إسرائيل وحركات المقاومة، وهي حرب غير متوازية بالضرورة، إلى حرب دمار واسع بحيث تقوم إسرائيل بتوجيه ضربات غير متناسبة مع حجم الهجوم التي تتعرض له، وتلحق دماراً واسعاً في البنى التحتية المدنية، لتلقين "العدو" درساً لن ينساه، وخلق قوة ردع لا يمكن صدها.
جاء هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر 2023 ليوضح أن خلاصات لجنة "اغرانات" تبخّرت بعد نحو أربعين عاماً من وضعها، وأن مهمة وحدة "النقيض هو المنطقي" لم تنجح في منع تكرار نهج التفكير الجماعي الموحّد لقراءة الواقع، الذي ما زال مسيطراً في أروقة المخابرات وصناعة القرار الإسرائيلي، وأن إضافة مبدأ الدفاع لعقيدة الأمن الإسرائيلية لم تنجح كما كان متوقعاً على أرض الواقع. وجميعها لم تمنع المفاجأة والإخفاق الكبير مرة أخرى. كما أوضحت حرب الإبادة على غزة أن "عقيدة الضاحية" لم تعد كافية لإشباع رغبة الانتقام الإسرائيلية، ولا للحفاظ على قدرة الردع ولا لترميمها، فأنتجت إسرائيل نموذج حرب الإبادة في غزة، وبات التهجير أمراً قابلاً للتنفيذ. بعد حرب الإبادة على غزة نقلت إسرائيل التجربة، ولو جزئياً، إلى الجنوب اللبناني، وتقوم حالياً بنقل التجربة إلى المخيمات الفلسطينية شمالي الضفة الغربية.
تعرض إسرائيل استراتيجيتها العسكرية الجديدة التي تستند إلى تجربة الإخفاق في السابع من أكتوبر 2023، وعلى حرب الإبادة في غزة، والحرب على لبنان، وتعتقد أن المعطيات الحالية في المنطقة تتيح لها تنفيذ مخططاتها من دون إزعاج أو دفع ثمن. كل هذا لا يمنع العودة إلى أخطاء الماضي والوقوع مجدداً في فخ "التفكير الجماعي الموحد" والذهاب إلى حلول عسكرية وأمنية عادة ما تكون مؤقتة. فبدل مراجعة حقيقية لتجارب الماضي، والاقتناع أن الحلول الحقيقية للأزمات الاستراتيجية والأمنية مرتبطة بالضرورة بإنهاء الاحتلال والسلام، تذهب إسرائيل مرة أخرى إلى طرح استراتيجيات عسكرية تستند إلى القوة وتعميق وتوسيع احتلالها لأراضٍ عربية. مرة أخرى، يلغي جنون القوة والعظمى الإسرائيلي الحاجة لاستخلاص العبر الحقيقية من تجارب الماضي.