جنوب السودان.. مخاوف من الانزلاق نحو الفوضى مرة ثالثة

11 مارس 2025
رئيس جنوب السودان (يسار)، ونائبه (يمين) خلال توقيع اتفاق في جوبا، 3 إبريل 2022 (فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تشهد جنوب السودان توترات عسكرية بين الجيش الحكومي ومليشيا "الجيش الأبيض" في ولاية أعالي النيل، مما أدى إلى سقوط قتلى ونزوح المدنيين، وسط اتهامات للحكومة لنائب الرئيس رياك مشار بالتورط.
- يرى الناشط الحقوقي استيفن روبو موسى أن التوترات ناتجة عن عدم تنفيذ اتفاقيات السلام بشكل كامل، مما يعكس ضعف الثقة بين الأطراف وغياب الإرادة السياسية للمصالحة.
- المحلل السياسي جوزيف يشير إلى أن غياب الثقة وتجميد القيادات العسكرية المحلية فاقم الأوضاع، محذراً من تأثير الأزمات على السودان المجاور.

لا يزال القلق يخيم على الأوضاع في دولة جنوب السودان بعد نحو أسبوعين من التوتر، فيما تجتهد الأطراف هناك في الطمأنة وتقديم تعهدات بعدم الانزلاق نحو الفوضى مجدداً. وكانت التوترات العسكرية بين الجيش الحكومي ومليشيا مسلحة معروفة باسم"الجيش الأبيض" أغلب عناصرها من قبيلة النوير، كبرى قبائل جنوب السودان، قد بدأت في الانفجار بولاية أعالي النيل، شمال البلاد، والمتاخمة للحدود مع السودان، حيث سيطرت المليشيا على مدينة الناصر، وعلى عدد من الوحدات العسكرية في المنطقة، ما أدى لسقوط أعداد كبيرة من القتلى ونزوح المدنيين إلى مناطق آمنة.

وتقدر السلطات الحكومية وجود خيط من العلاقة بين الجيش الأبيض ونائب رئيس الجمهورية رياك مشار، المنافس الشرس لرئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت، بالتالي ردت على تلك التحركات الميدانية في الناصر باعتقال قيادات سياسية وعسكرية رفيعة بمدينة جوبا العاصمة، من بينهم وزراء وضباط في الجيش والأمن يوالون مشار. وما عقد الموقف أكثر هو تعرض مروحية تابعة للأمم المتحدة إلى إطلاق نار تسبب في مقتل أحد قادة الجيش الحكومي بولاية أعالي النيل، ولقي أحد أفراد طاقم الطائرة مصرعه، وذلك أثناء محاولة المروحية إنقاذ عسكريين عقب تفاقم التوتر هناك، كما قتل في الحادثة 27 جنديا حكوميا، طبقا لتصريحات حكومية.

وعرفت دولة جنوب السودان، التي استقلت عن السودان في العام 2011، استقراراً لمدة عامين فقط بعد الاستقلال، إذ انفجر في العام 2013 قتال عنيف بين قوات الجيش الحكومي وقوات موالية لرياك مشار قتل فيها نحو 400 ألف شخص، وذلك عقب قرار من الرئيس سلفاكير ميارديت بإقالة مشار من منصبه، إلا أن الهيئة الحكومية للتنمية المعروفة اختصاراً بـ"إيغاد"، وهي منظمة تضم عددا من دول المنطقة، توسطت في العام 2015 بين الطرفين وأبرمت اتفاق سلام هش، عاد بموجبه مشار لمنصبه، إلا الانفجار تكرر مرة أخرى في العام 2016، فتدخل هذه المرة السودان، واستضاف في العام 2018 مفاوضات طويلة تحت رعاية الرئيس المعزول عمر البشير، انتهت بالتوقيع على اتفاق سلام جديد بالخرطوم يكمل الاتفاق الذي توصلت إليه "إيغاد" سابقا. وبموجب الاتفاق الأخير، عاد رياك مشار في العام 2020 وللمرة الثانية نائبا لرئيس الجمهورية، وشكلت حكومة وحدة وطنية شاركت فيها أحزاب سياسية متعددة. ونص الاتفاق على دمج قوات الحركة الشعبية المعارضة في الجيش الحكومي، ومنذ ذلك الوقت لم يجد ذلك النص حظا من التنفيذ، باستثناء المستوى القيادي، وهو ما خلق اضطرابات مستمرة طوال الأعوام السبعة الماضية من تاريخ توقيع الاتفاق في الخرطوم.

يقول الناشط الحقوقي استيفن روبو موسى إن ما يدور في جنوب السودان لم يكن مفاجئا، بل كان متوقعا منذ توقيع اتفاق السلام بين الحكومة والحركة الشعبية في المعارضة بقيادة رياك مشار، ومتوقعا معه الوصول إلى تلك المرحلة، حيث لم تخلق اتفاقية السلام أي وفاق حكومي حقيقي لإدارة البلاد، وظلت المضايقات متبادلة من وقت لآخر في مواقع سيطرة كل منهما، مبينا أن الخلافات شملت حتى الوزارات، ما أقعدها عن أداء مهامها الخدمية. 

يوضح موسى، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن التوترات بدأت قبل فترة طويلة ولم تبدأ الآن، مشيرا لما حدث في غرب الاستوائية بين قبيلتي البلندا والزاندي، وهو نزاع انتقل إلى غرب بحر الغزال بالخلاف على مناطق حدودية، وفيه لقي عدد من الأشخاص مصرعهم بعدما شارك في الخلافات الجيش الحكومي وجيش المعارضة، وفي الرابع والعشرين من فبراير/شباط الماضي وقعت صدامات أخرى أدت لنزوح مدنيين، وتم اعتقال محافظ نهر الجور ومستشار أمن الولاية.

ويضيف موسى أن الاحتقان انتقل بعد ذلك إلى ولاية أعالي النيل، تحديدا بمدينة الناصر، حيث دارت مواجهات عسكرية بين عناصر الجيش الأبيض والقوات الحكومية، أدت لخسائر كبيرة في الأرواح، وبعدها انعكس الوضع بالولاية على الوضع في العاصمة جوبا، حيث تم اعتقال عدد من القيادات السياسية والعسكرية الموالية لنائب رئيس الجمهورية رياك مشار.

ويرى موسى أن كل ذلك يؤكد للشعب الجنوب سوداني وجود علاقة ضعيفة بين أطراف اتفاقية السلام، خصوصا بين الحكومة والحركة الشعبية المعارضة، وعدم المصداقية في العلاقة بينهما، فضلا عن عدم الشفافية وغياب الثقة، لأنه ومنذ التوقيع على الاتفاقية لم تتوفر الإرادة السياسية للمصالحة الحقيقية، ولم تتوفر الرغبة في تنفيذ الاتفاقية وما فيها من صلاحيات، مشيرا لعدم تنفيذ نصوص الترتيبات الأمنية التي لو تم تنفيذها لما حدث ما حدث ولكانت هناك قيادة واحدة لديها قدرة على السيطرة على أي أوضاع، كما نبه إلى أن القيادات كلها لا تريد تناسي قبائلها ولا ترغب في الاعتماد على المؤسسات في إدارة الدولة، محذرا من غياب حكم القانون في الوقت الراهن، وعدم إطاعة الأوامر العسكرية، ما يصعب السيطرة على المسلحين. واستطرد موسى منبها إلى أهمية احترام حقوق الإنسان وحماية المدنيين، وهو أمر يحتاج لحوار بناء بين الأطراف، وشدد على أهمية وجود مناخات سياسية مواتية لقيام أحزاب سياسية قوية تستطيع المنافسة في أي انتخابات منتظرة، مبينا أن الشعب الجنوبي يرغب في دولة مستقرة وآمنة له ولجارته السودان.

أما المحلل السياسي جوزيف، الذي اكتفى باسمه الأول لأسباب أمنية، فيرى أن البلاد وصلت لهذه النقطة لغياب الثقة بين الطرفين رغم مرور ست سنوات على الشراكة بينهما، لا سيما بين قادة الجيش، حيث لم تنجح خطوة توحيد قيادة الجيش في توحيد القواعد الأدنى وبشكل يمكنها من العمل بعضها مع بعض، منبها إلى أن ذلك ظهر جليا في ما حدث بمدينة الناصر، حيث عُينت قيادات القوات هناك قبل عشر سنوات، ولم تغير طوال تلك المدة، فأصبحت جزءا من التوتر المحلي بصراعاته ونزاعاته، وحين صدر قرار بتغييرها رافقت ذلك إشاعات واسعة وأخبار كاذبة ومضللة وبث خطاب الكراهية، ما أدى إلى انفجار الوضع. وكرر جوزيف، في حديثه لـ"العربي الجديد"، ما ذُكر بشأن عدم قدرة كبار قادة الجيش على السيطرة على القوات في الميدان. وأبان جوزيف أن تنفيذ اتفاقية مثل تلك الاتفاقية المعقدة يحتاج لحنكة وإلى حوافز، وهو ما لم يحدث، مشيدا بالتحركات الأخيرة لتهدئة الأوضاع.  

في المقابل، يخشى مراقبون في السودان من أن يساهم أي انفجار في جنوب السودان "إذا حدث"، في تعقيد الصراع الآخر في بلادهم بين الجيش وقوات الدعم السريع الملتهب منذ إبريل/نيسان 2023. ويقول المحلل السياسي السوداني خالد فضل إن الأزمة في جنوب السودان هي نتاج طبيعي لعجز القيادات في ذلك البلد عن تجاوز ما دعاهم أساسا لحمل السلاح والنضال عندما كانوا يجأرون بمطالب مشروعة للعيش في ظل مواطنة متساوية في السودان بدون تهميش وإقصاء، مبينا أنه ومن أجل تلك المطالب دفع الجنوبيون ثمنا باهظا واضطروا لمغادرة البلد الكبير بعد الفشل في جعل خيار الوحدة جاذبا.

ويستدرك فضل، في حديثه لـ"العربي الجديد"، بالقول إن الداء ذاته انتقل للممارسة السياسية في الدولة الوليدة، حيث الشكوى من التهميش، والإقصاء، والهيمنة، مع التخلي شبه التام عن مبادئ ومشروع بناء السودان الجديد، الذي رفعته الحركة الشعبية شعارا لها لعقود طويلة، موضحاً أن ذلك أدرى لتكرار الحروب والاتفاقات ونقضها في جنوب السودان فدخل في الدوامة التاريخية نفسها التي دخل فيها السودان الكبير. وذكر فضل أن "أي اشتعال للحرب مجددا في الجنوب سيكون وبالا جديدا على كل أراضي السودان، إذ لجأ كثير من الفارين من حرب السودان إلى الجنوب، وعاد كثير من الجنوبيين إلى بلدهم طوعا أو كرها، والآن ما لم يتم تدارك الأمر بالعودة الجادة إلى مسار التفاوض والالتزام التام بالاتفاقات فإن الأرض ستميد بسكان البلدين".

ومع ازدياد المخاوف من انفجار الأوضاع، عقدت القيادات السياسية اجتماعات متلاحقة، بما في ذلك اجتماع بين رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت ونائبه رياك مشار، بهدف تدارك الموقف. ويوم الجمعة الماضي، تعهد رئيس جنوب السودان بعدم عودة بلاده لدائرة الحرب مرة أخرى، وأعلن التزامه بتولي المسؤولية الكاملة والتعاطي مع الأزمة والالتزام بطريق السلام.