جنوب السودان... لعنة الحرب من أعراض الولادة

جنوب السودان... لعنة الحرب من أعراض الولادة

11 اغسطس 2021
مدنيون يفرون من القتال في ولاية أعالي النيل، 2016 (جاستن لينش/Getty)
+ الخط -

يخيّم شبح الحرب مرة أخرى، في دولة جنوب السودان الوليدة، مع تصاعد الانشقاقات وسط إحدى أقوى الجماعات المسلحة والشريكة في حكم البلاد. وتجددت المخاوف عقب قرار مفاجئ من مناوئين لرياك مشار، نائب الرئيس سلفا كير ميارديت، قضى بعزله من قيادة الحركة الشعبية المعارضة، وهي حركة منشقة أصلاً عن الحركة الشعبية لتحرير السودان التي يقودها سلفا كير. وتلت ذلك القرار، معارك طاحنة السبت الماضي في ولاية أعالي النيل، على الحدود مع السودان، بين المؤيدين لنائب الرئيس، والمناوئين له، قتل وأصيب فيها العشرات من الطرفين.
ويمتد القلق والخوف من اندلاع حرب واسعة في جنوب السودان، ليصل إلى كل دول الإقليم التي تتأثر مباشرة بما يحدث هناك، خصوصاً السودان وإثيوبيا وكينيا وغيرها. كما أنّ بعض هذه الدول تواجه أصلاً اختبارات سياسية وأمنية صعبة، وتعيش وضعاً هشاً قابلاً للانفجار في أي لحظة، مثل إثيوبيا والسودان وإريتريا وأفريقيا الوسطى وتشاد وليبيا.

قتل وأصيب العشرات باشتباكات بين مناوئين لمشار ومؤيدين له

ومنذ انفصال جنوب السودان عن السودان، الدولة الأم، في عام 2011، ظلّ المشهد السياسي والعسكري في الدولة الوليدة يسيطر عليه عدم الاستقرار والاحتراب الداخلي، فضلاً عن الخلافات العميقة داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان الحاكمة. ولم يكد يمضي عامان على الانفصال، حتى اندلعت حرب طاحنة، حرّكها قرار في عام 2013 من سلفاكير بإعفاء نائبه رياك مشار من منصبه. وكانت الكلفة عالية جداً لهذه الحرب، إذ قتل نحو 400 ألف شخص من جرائها، فيما لجأ ونزح ملايين الأشخاص، بينما تحدثت تقارير عدة عن ارتكاب جرائم حرب، وأبرزت دلائل على ذلك.

في عام 2015، وبرعاية من منظمة التنمية "إيغاد" (هيئة أفريقية للتنمية تضم كينيا وإثيوبيا وأوغندا وجيبوتي والسودان والصومال)، وقّع الطرفان على اتفاق سلام لم يدم سوى أشهر قليلة، قبل أن تعود آلة الحرب الأهلية من جديد، خصوصاً أن الخلافات تأخذ طابعاً قبلياً أكثر من أي أبعاد أخرى، إذ ينتمي سلفاكير لقبيلة الدينكا، فيما ينتمي نائبه مشار لقبيلة النوير، وكلتاهما من أكبر القبائل من حيث العدد، والأشرس قتالاً في البلاد، إذ تستمدان خبراتهما من الحرب الطويلة مع الشمال.

في عام 2018، نجح نظام الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، في حمل الطرفين على التوقيع على اتفاقية سلام شامل، عبر مفاوضات شاقة استضافتها الخرطوم، أهم ما نصّت عليه إعادة مشار إلى منصبه كنائب لرئيس الجمهورية، ومشاركة جماعته السياسية والعسكرية في بقية المناصب الحكومية، مع دمج قوات المعارضة في الجيش الرسمي لتشكيل جيش وطني واحد، عدا عن تبنّي معالجات سياسية أخرى، أهمها إعادة النظر في عدد ولايات البلاد، وإلغاء تقسيمات سابقة أصدرها سلفاكير.

تأخر تنفيذ الاتفاق، وذلك بسبب التطورات التي طرأت في السودان، ببروز الحراك الثوري المناهض لنظام البشير في ديسمبر/كانون الأول 2018، والذي انتهى بسقوطه في إبريل/نيسان 2019، ولاحقاً تشكيل حكومة انتقالية بين العسكر والمدنيين. ووجدت تلك الحكومة نفسها مشغولة أكثر بترتيب البيت الداخلي، لدرجة أنها احتاجت إلى عون دولة جنوب السودان، التي توسطت بينها وبين المجموعات السودانية المتمردة، ونجحت في ذلك بنسبة كبيرة.

وفي مطلع عام 2020، عاد الاهتمام باتفاق السلام الجنوبي-الجنوبي، فتم تنصيب رياك مشار نائباً للرئيس مجدداً، وشُكلت حكومة وحدة وطنية، بينما ساد البطء في مسألة توحيد الجيش، وترتيبات سياسية وأمنية أخرى. وقاد ذلك البطء إلى تململ جديد، سواء في أوساط المجموعات الموالية لسلفاكير أو تلك الموالية لمشار، ووصل ذروته، الأسبوع الماضي، بصدور قرار من الذراع العسكرية للحركة الشعبية المعارضة الموالية لمشار، بعزله من قيادة الحركة، بحجة أنه "لم يعد يمثل مصالحها، وفشل في توحيدها، واعتمد المحسوبية وسياسة فرّق تسد في إدارة شؤونها". وحمل هذا القرار توقيع رئيس هيئة أركان الجيش، سيمون غاتويش دويل، الذي عُيّن رئيساً بالوكالة للحركة.

منذ سنوات لم يعد المجتمع الدولي يأبه كثيراً لما يجري في جنوب السودان

وكما كان متوقّعاً، رفض مناصرو رياك مشار القرار جملة وتفصيلاً، وبما أنه لا مجال غالباً للحوار والتفاوض في مثل هكذا مواقف، وقعت اشتباكات دموية في ولاية أعالي النيل، شمال البلاد، حيث الثقل الرئيسي للحركة، وامتدت لتشمل مناطق داخل الأراضي السودانية الحدودية، وتسببت في موجات نزوح واسعة. ويرجح تصاعد وتيرة هذه الاشتباكات في الفترة المقبلة، خصوصاً مع عدم وجود أي محاولات للتدخل ووقف نزيف الدم.

حكومة جنوب السودان أو بالأصح مجموعة سلفاكير، وخشية من أي تفسيرات تظهرها بمظهر المنحازة لأي من الطرفين، فضّلت الصمت، ولم يصدر عنها أي بيان أو تعليق على التطورات على صعيد الخلافات داخل الحركة الشعبية المعارضة.

لكن الحكومة السودانية، التي ترعى اتفاق سلام الجنوب، سارعت إلى إصدار بيان، قالت فيه إن "الأحداث المؤسفة التي حصلت، لا تصب في مصلحة السلام، وإنما تزيد الأوضاع تعقيداً، وبالتالي تزداد معاناة مواطني جنوب السودان الذين يتوقون إلى تحقيق السلام الشامل في جميع أنحاء بلادهم". ودعت "كافة أطراف النزاع الحالي إلى التوقف الفوري عن المواجهات المسلحة، والبحث عن السبل السلمية للتعبير عن انشغالاتهم الداخلية، وعدم الانجراف تجاه الحروب"، مشددة على أنّ "اتفاقية السلام، والالتزام بتنفيذ بنودها، هما الطريق الأوحد لاستدامة السلام والاستقرار في جنوب السودان".

وذكر بيان الحكومة السودانية أنّ "الخرطوم، ومن منطلق رئاستها للدورة الحالية لإيغاد، وحرصها على العلاقات الثنائية المتميزة مع جنوب السودان، فإنها ستقف على الحياد وستسعى إلى تهدئة الأوضاع، لأنّ أي حرب سيكون لها أثر مباشر على أمن وسلامة السودان والمحيط الإقليمي"، مؤكدةً أنها "تراقب الأوضاع عن كثب في مسرح الأحداث، باعتباره متاخما للحدود الجنوبية للسودان"، وأنها "لن تسمح لأي نشاط مسلح داخل الأراضي السودانية من أي طرف ضد الآخر".

من جهتها، أجرت وزيرة الخارجية السودانية، مريم الصادق المهدي، يوم الأحد الماضي، اتصالات هاتفية مع وزراء خارجية دول "إيغاد"، حول تطورات الأزمة بين فصائل الحركة الشعبية المعارضة في جنوب السودان، واتفقت معهم، حسب بيان لوزارة الخارجية، على "ضرورة التحرك العاجل مع كافة أصحاب المصلحة للوقف الفوري لإطلاق النار، والتمهيد لحل سلمي للخلافات عن طريق الحوار".
كذلك، يزور رئيس وزراء السودان عبد الله حمدوك في الأيام المقبلة جوبا، للتباحث مع مسؤولي جنوب السودان بشأن احتواء الأزمة وتعزيز الثقة بين أطراف السلام، بحسب ما أعلنت وزارة الخارجية السودانية أول من أمس الإثنين.

أما المجتمع الدولي، فمنذ سنوات لم يعد يأبه كثيراً لما يجري في جنوب السودان، بعد خيبة الأمل الذي أصابته من الأداء غير المتوقع للقادة السياسيين عقب الانفصال. وتنحصر اهتمامات هذا المجتمع اليوم بشكل كبير بالقضايا الإنسانية ودعم المتضررين من النزاعات.

في السياق، اعتبر المحلل السياسي بجنوب السودان، مايكل أتيت، أنّ "للأزمة داخل الحركة الشعبية، فصيل مشار، أكثر من سبب؛ منها تضاؤل القيمة السياسية والعسكرية لشخصية مشار، واضمحلال الدعم السياسي الذي ظلّ يحظى به، خاصة من قبل المكون العسكري في حركته، لابتعاده عن الجنود الذين يواجهون ظروفاً صعبة في أدغال وأحراش الجنوب، وافتقارهم لأدنى مقومات الحياة من غذاء ودواء وكساء، ما اضطر بعضهم إلى ترك العمل والعودة للمدينة للانشغال بالزراعة أو الرعي". وأشار أتيت، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنّ "عدم اكتمال بند الترتيبات الأمنية الوارد في اتفاقية السلام، تسبب أيضاً في تلك الخلافات داخل الحركة، التي سبق لها أن شهدت انشقاقات فقدت على إثرها قادة سياسيين من الوزن الثقيل، بعد أن أعلنوا في عام 2016 انضمامهم لجناح الرئيس سلفاكير"، موضحاً أنه "بعد الخسارة السياسية تلك، يبدو أن الحركة ستخسر عسكرياً هذه المرة، لأن عماد التمرّد الحالي عسكري بحت، وبالتالي ربما تفقد كل شيء في القريب العاجل".

أتيت: ولاية أعالي النيل النفطية ستكون أكثر الولايات تأثراً بالتطورات

ولفت أتيت إلى أنّ "ولاية أعالي النيل التي توجد فيها حقول نفط جنوب السودان، ستكون أكثر الولايات تأثراً بالتطورات الأخيرة من الناحية الأمنية، مع تصاعد حدة المواجهات، كما ستشهد الولاية تعقيدات إنسانية كبيرة، بنزوح الآلاف في ظروف صعبة، خاصة في فصل الخريف". ورجح أتيت "حدوث تحالفات عسكرية بين منشقين عن الحركة أو الذين باتوا خارجها ومجموعات أخرى متمردة، قد يصل صداها وأثرها إلى المناطق الاستوائية على الحدود الجنوبية مع أوغندا". ولم يستبعد فرضية "تأثّر العاصمة جوبا والمركز السياسي والتجاري بتلك التطورات"، التي يقول إنها "ستلقي بظلالها على بقية أجزاء البلاد ولو بنسب متفاوتة، خصوصاً مع هشاشة الوضع الأمني، بما في ذلك في جوبا". 

من جهته، قال الصحافي السوداني عبد الله رزق، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ ما يجري في جنوب السودان "هو فصل من أزمات لا تنتهي في الدولة الوليدة، لأن تلك الأخيرة برزت إلى الوجود وتحمل داخلها عوامل مدمرة، مثل الانقسامات القبلية التي تستخدم في الصراعات التناحرية وصراعات السلطة، والتنافس على الاستئثار بموارد النفط". ولفت إلى أنّ تلك الصراعات "شلّت الدولة لناحية النمو والتطور". وأشار رزق إلى أنّ "المجموعة الأم؛ الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي قاتلت من أجل استقلال الجنوب لم تكن موحدة قبل الاستقلال إلا شكلياً، وكان داخلها انقسامات عديدة، وهي توحّدت فقط أثناء الحرب أو التفاوض مع شمال السودان".

واعتبر أنّ "ما يحدث الآن، هو استمرار لمعاناة شعب جنوب السودان، مع فارق هو في أطراف الحرب. فمنذ عام 1954 إلى عام 2011، كانت الحرب مع الشمال، والآن هي جنوبية-جنوبية". وأرجع كل ما يحصل والمأساة التي يعيشها سكان جنوب السودان "لغياب مبدأ المحاسبة والمحاكمة عن جرائم الحرب التي ارتكبها القادة الجنوبيون في حرب 2013"، لافتاً إلى أنّ "اتفاق السلام نص على تشكيل محكمة مختلطة لتقوم بالمهمة، لكن أول من وقف في وجه تنفيذ ذلك البند، هما سلفاكير ومشار، وبالتالي فإنّ غرس بذرة الإفلات من العقاب هو مدخل لحروب جديدة في الدولة".

ولا يتوقع رزق نجاحاً للمحاولات السودانية لتهدئة الأوضاع "لعدم وجود ثقة لدى الجنوبيين في السودان، المتهم دوماً بزعزعة استقرار الجنوب"، مشيراً إلى أنّ ذلك "ظهر جلياً خلال كلمة ألقاها سلفاكير قبل أشهر، بحضور رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، وعرض فيها دور السودان في دعم الحركات المتمردة الجنوبية".

تقارير دولية
التحديثات الحية