لا يمكن اعتبار قرار مجلس الدولة المصري، الصادر أمس الأول، بفتح باب التعيين في درجتين وظيفيتين في تسلسله القضائي، للإناث، تنفيذاً لتعليمات رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، شأناً قضائياً خالصاً، بل هي خطوة لها العديد من المؤشرات السياسية على طبيعة العلاقة بين السيسي والقضاء، وعلى طريقة نظر السلطتين التنفيذية والقضائية لمواد الدستور واستحقاقاته الملزمة.
واقتصر القرار على التنفيذ الحرفي والضيق لتعليمات السيسي، بالاكتفاء بـ"الاستعانة" بالنساء، التفافاً على النص الدستوري الصريح الذي يلزم جميع السلطات بضمان المساواة بين الذكور والإناث في الوظائف الإدارية والقضائية كافة. ولم يسمح مجلس الدولة للخريجات الجدد من كليات الحقوق والشريعة والقانون بالتقدم لشغل الوظيفة القضائية، شأن زملائهم الذكور من دفعة 2020، الذين يقدمون حالياً أوراقهم. وقصر التقديم فقط على العضوات السابق تعيينهن منذ سنوات في الهيئتين القضائيتين الأقل أهمية في مصر، وهما النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة، الراغبات في الالتحاق بالعمل قاضيات في مجلس الدولة، لتعيينهن بطريق النقل وليس بالتعيين المبتدأ، لشغل درجة "مندوب" أو "نائب" بالمجلس. أي أن المجلس لم يسمح للإناث بالتقدم لوظيفة "مندوب مساعد"، وهي أولى درجات التسلسل القضائي.
وضع مجلس الدولة شروطاً تعجيزية تهدر المساواة مع الذكور الذين سبق قبولهم للعمل كقضاة
كما وضع المجلس شروطاً تعجيزية تهدر المساواة مع الذكور الذين سبق قبولهم للعمل، ووصلوا إلى هاتين الدرجتين، مثل أن تكون العضوة الراغبة في النقل حاصلة على شهادتها العلمية بتقدير امتياز أو جيد جداً فقط، فضلاً عن أن يخلو ملف خدمتها، بهيئتها الأصلية، من أية جزاءات أو ملاحظات، ثم اجتياز المُقابلة الشخصية أمام اللجنة المُختصة بمجلس الدولة والمشكلة من أقدم سبعة قضاة.
وقالت مصادر قضائية رفيعة المستوى بوزارة العدل، لـ"العربي الجديد"، إن هذه الطريقة لتنفيذ تعليمات السيسي جاءت بناء على الاتصالات المكثفة التي جرت بين وزير العدل عمر مروان ومجلس الدولة ومجلس القضاء الأعلى، ليتأكد الوزير، مما سبق ونشرته "العربي الجديد" في 12 الشهر الحالي، عن أن أغلبية القضاة ترفض نهائياً تعيين المرأة قاضية. ويأتي ذلك لاعتقادات وأسباب مختلفة، منها إيمان بعضهم بعدم جواز تولي المرأة القضاء وفق الشريعة الإسلامية، التي يجب ألا تتضارب معها الأحكام القضائية الصادرة من المحاكم المصرية وفق قراءتهم للمادة الثانية بالدستور، وفشل تجربة الاستعانة بالقاضيات في المحاكم المتخصصة والجنائية منذ العام 2005، واللاتي يبلغ عددهن الآن 60 قاضية. وكذلك بسبب انخفاض إنتاج وضعف كفاءة الإناث، عضوات النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة من وجهة النظر المتحفظة لهذا الفريق.
وبحسب المصادر فقد أوصل مروان هذه الصورة للسيسي، وأوصلها له أيضاً شقيقه المستشار أحمد السيسي نائب رئيس محكمة النقض ورئيس هيئة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وأوضحت أنهما أقنعاه بأن تكون انطلاقة تعيين المرأة في مجلس الدولة بطريقة النقل، وليس بالتعيين، رغم ما في ذلك من شكوك دستورية كبرى، تلقي بظلالها على مشروعية الإجراء وفتح باب التعيين بهذه الصورة، ومع الثقة الكاملة وفق الشروط المنصوص عليها في أن عدد من سيتم تعيينهن سيكون محدوداً للغاية، بدعوى أن هذه الدفعة ستكون "تجريبية".
وهنا تتضح أول دلالة لما حدث، وهي رغبة النظام في تحقيق أكبر قدر من الفوائد الدعائية لتعليمات السيسي، والإيحاء أمام الرأي العام الأجنبي والعواصم الغربية، ثم الرأي العام المحلي، بحرص النظام على تطبيق الدستور وتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة. ويتماشى هذا الأمر مع خطوات سابقة اتخذها السيسي، وثبت بالممارسة أنها محض دعاية ولا تمت للكفاءة بصلة، كتعيين عدد كبير من الوزيرات في كل حكومة، والتوسع في تعيين المحافظات، وتعيين عدد كبير من السيدات كعضوات في مجلسي النواب والشيوخ، واختيار المئات في القائمة الوطنية الموحدة بغرفتي البرلمان، دون أن يكون لمعظمهن أي رصيد شعبي أو خبرة سابقة أو رؤية مستقبلية.
تسمح طريقة التعيين بالنقل التي سيتم اتباعها بتحويل استحقاق المساواة إلى مجرد أداة لتمييز "بعض" بنات القضاة
وبالتالي فعند الاستحقاق الدستوري الصريح، الذي يسمح للمتفوقات من الخريجات بالالتحاق بالوظائف القضائية، تم الاكتفاء بهذه التعيينات الصورية المنطوية على تمييز واضح ضد الخريجات المتفوقات الجدد. ومن المرجح أنه سيتكرر الإعلان عن مثيلها بالنسبة للنيابة العامة والمحاكم الابتدائية، حيث يعكف مجلس القضاء الأعلى حالياً على وضع تصور نهائي للإعلان، علماً بأن عدداً من الناشطات الحقوقيات والمحاميات والخريجات دشنّ حملة لمطالبة السيسي بالتدخل وتنفيذ الاستحقاق الدستوري كما يُقصد تماماً.
أما الدلالة الثانية، فهي استمرار توتر العلاقات بين السيسي والقضاء عموماً، ومجلس الدولة خصوصاً. فبعد أزمة تيران وصنافير، التي صدر فيها عن المجلس حكمان ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية، فرض السيسي قانون تعيين رؤساء الهيئات القضائية بدلاً من نظام الأقدمية، وخفض عدد الجهات الحكومية التي من الممكن انتداب القضاة إليها إلى جهة واحدة فقط. كما أخضع جموع القضاة لضريبة الدخل بشكل كامل، شاملة البدلات الأساسية التي كانت تُعفى عرفياً في السابق. ثم أخضعهم لتحريات دائمة بواسطة الرقابة الإدارية والمخابرات العامة. وأخيراً اقتطع منهم سلطة اختيار المعينين الجدد في القضاء، وأوكلها للأكاديمية الوطنية للتدريب، التابعة للمخابرات العامة.
كل هذه الخطوات في سلسلة إخضاع القضاة لم تردع أغلبيتهم عن إعلان رفض تعليمات السيسي الأخيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. لكن هذه المرة، وتلافياً لما كان يحدث سابقاً من إحالة المعارضين للتفتيش والمساءلة التأديبية، استخدم القضاة الأدوات الجديدة، كالـ"كوميكس" والتدوينات الساخرة المنسوبة لحسابات مجهولة مصطنعة. وعلى الرغم من وجود عشرات القضاة الذين قد يستفيدون بنقل بناتهم من النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة، المصنفتين كمستودع لبنات القضاة منذ عشرات السنين، فإن عدد من يتحمسون لهذا النقل يعتبر أقلية في القضاء العادي ومجلس الدولة. بل إن عدداً من متزعمي الرفض وحاشدي أصوات المعارضين، عبر المجموعات المغلقة في تطبيقات التواصل، هم آباء لعضوات بالهيئتين المذكورتين.
تم الاكتفاء بتعيينات صورية تنطوي على تمييز واضح ضد الخريجات المتفوقات الجدد
وهنا تبرز الدلالة الثالثة، متمثلة في أن طريقة التعيين بالنقل التي سيتم اتباعها تسمح، في حقيقتها، بتحويل استحقاق المساواة إلى مجرد أداة لتمييز "بعض" بنات القضاة، وقبولهن للعمل دون غيرهن من المستحقات. إذ إن الشروط المذكورة لا يمكن أن تنطبق على جميع العضوات في المركز القانوني، بل ستكون الأفضلية لفئة ضئيلة، وستتضاءل أكثر من خلال المقابلة الشخصية، وهو ما يعتبر عيباً قانونياً آخر في قرار فتح باب التعيين، وربما يتسبب في إقامة عدد كبير من الطعون. واللافت للنظر هنا، أنه إلى جانب بنات عدد من كبار قضاة مجلس الدولة والقضاء العادي، فإن اثنتين من السيدات في أسرة السيسي نفسه باتتا مؤهلتين للتعيين كقاضيتين. الأولى هي هاجر أحمد سعيد السيسي، ابنة القاضي شقيق السيسي، والتي عينت في النيابة الإدارية عام 2014، وهي خريجة بتقدير جيد جداً. والثانية هي داليا محمود حجازي، إبنة رئيس أركان الجيش السابق وزوجة نجل السيسي الأصغر حسن، الذي كان موظفاً بشركة بترول حكومية عندما تزوجها، وأصبح حالياً مسؤولاً عن ملف الاستثمارات البترولية في المخابرات العامة. وقد عينت في النيابة الإدارية أيضاً عام 2016.
وبداية العام الحالي، أعلن السيسي ووزير العدل عمر مروان تخصيص العام 2021 لـ"النهوض بشباب القضاة"، من خلال الأكاديمية الوطنية للتدريب التابعة للمخابرات، استكمالاً لخطة تدجين القضاء التي بدأها منذ خمس سنوات. وسيتم استحداث دورات تدريبية في الأكاديمية للقضاة المعينين الموجودين سلفاً بجميع الهيئات، لتصبح تلك الدورات أداة لتقييمهم ومعرفة انتماءاتهم، وتطوير التعاون مع بعضهم، تمهيداً لاختيارهم لوظائف قيادية قضائية وإدارية في المستقبل. وهو ما يبرهن على رؤية السيسي للقضاء كجزء من السلطة التنفيذية، يصلح لممارسة السياسات التفريخية ذاتها التي تتبع لإعداد القيادات الجديدة الموالية في الحكومة.
ومنذ 11 سنة، ثارت أزمة كبيرة في مجلس الدولة بسبب فتح باب التعيين للخريجات. ورغم تأييد سوزان ثابت، قرينة الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك، لهذا الأمر وخروج تظاهرات من أمانات المرأة بالحزب الوطني الحاكم آنذاك، ومنظمات حقوقية مستقلة تطالب بتعيين المرأة قاضية، إلا أن الدولة وقتها رضخت لقرار الجمعية العمومية لمستشاري مجلس الدولة برفض تعيين الإناث، وتجاهلت قراراً صدر آنذاك من المحكمة الدستورية العليا بعدم اختصاص الجمعية العمومية بالتدخل في أمور التعيينات. وعارض القضاة أيضاً المادة 11 من الدستور الحالي لدى وضعها من قبل لجنة الخمسين، نظراً لنصها صراحة على المساواة بين الذكور والإناث في التعيين بالجهات والهيئات القضائية، وهو النص الذي شاركت في وضعه عدد من السيدات، عضوات اللجنة وقتها مثل الوزيرة السابقة ميرفت التلاوي والمحامية منى ذو الفقار والأكاديمية هدى الصدة. ورغم إلحاح الوزارات والجهات الحكومية المعنية، طوال السنوات السبع الماضية، فإن مجلس القضاء الأعلى ومجلس الدولة رفضا فتح باب التعيين للخريجات الجدد. كما صدر الكثير من الأحكام برفض دعاوى أقامتها خريجات من كليات الحقوق والشريعة والقانون.