تستمر بعض الأطراف السياسية في ليبيا، متمثلة في مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة والهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، في عقد اجتماعاتها لرسم ملامح المرحلة المقبلة في هذا البلد، بعد تعثر إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في 24 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بحسب ما كانت تقتضي خريطة الطريق الأممية للحل السياسي.
فمنذ ذلك التاريخ، بدأ الحديث في ليبيا يدور حول ضرورة تفعيل مسودة الدستور الليبي المعدلة لأكثر من مرة، والتي وافقت عليها الهيئة التأسيسية في عام 2017، والذهاب إلى إجراء انتخابات وفقها بعد الاستفتاء عليها. لكن متابعين يرون أن تفعيل المسودة سيوقظ خلافات سياسية واجتماعية إضافية كانت سبباً في أن تظهر المسودة بشكل ناقص، إذ لم تحل مسائل جوهرية، فضلاً عن شكل الاستفتاء إذا ما تمّ.
وكانت اللجنة الدستورية المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي قد وافقت خلال اجتماع لها عقد في مدينة الغردقة المصرية، مطلع العام الماضي، على إجراء استفتاء على الدستور، وتحصين نتائجه استعداداً للانتخابات الرئاسية والبرلمانية والتي كان مقرراً إجراؤها في 24 ديسمبر الماضي، إلا أن مسار أعمال اللجنة، التي كانت تسيرها الأمم المتحدة، توقف فجأة من دون توضيح أسباب توقفه.
يحتاج التوافق حول مشروع الدستور إلى تعديلات على مواده الخلافية قبل الاستفتاء
واليوم يعود مجلسا النواب والدولة إلى مناقشة احتمال العودة إلى الدستور وإمكانية أن يكون أساساً لإجراء الانتخابات في موعد لاحق، لكنهما يُتهمان بالسعي إلى إطالة وجودهما في السلطة.
ويحتاج التوافق حول الدستور إلى تعديلات على مواده الخلافية قبل الاستفتاء، ما يتطلب وقتاً أطول من عمر الفترة الانتقالية حتى الانتخابات، والتي حددتها خريطة الطريق بيونيو/ حزيران المقبل.
وكشف عضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور سالم كشلاف، خلال تصريحات صحافية، أخيراً، عن اتفاق الهيئة مع مجلسي النواب والأعلى للدولة على ضرورة تشارك الأجسام الثلاثة في رسم خريطة المرحلة المقبلة، حتى لا ينفرد جسمٌ سياسي بعينه بهذه المهمة، وحتى تكون المرحلة المقبلة توافقية وتُدار وفق المسار الدستوري.
وعلى الرغم من الانهيار والتشظي السياسي الذي عاشته خلال السنوات الماضية، إلا أن ليبيا لا تزال تحتكم إلى دستور مؤقت تم إعداده خلال الأشهر الأخيرة من عام 2011، حين تمّت الإطاحة بنظام معمر القذافي بعد اندلاع الثورة في العام ذاته، كإطار قانوني ينظم الحياة السياسية بعد الثورة، إلى أن تتم صياغة دستور للبلاد على يد هيئة منتخبة ويجري الاستفتاء عليه من قبل الشعب ليتحول إلى دستور دائم.
ليبيا: مراحل وعراقيل المسار الدستوري
وقام المسار الدستوري في ليبيا على ثلاث مراحل: المرحلة الأولى بانتخاب الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور في فبراير/ شباط 2014، والثانية بصياغة مسودة المشروع والتي بدأت في يونيو/ حزيران 2015، والثالثة هي الاستفتاء عليه، وهي مرحلة لم تتم بعد، على الرغم من تسليم الهيئة مشروع الدستور إلى مجلس النواب في يوليو/ تموز 2017.
ومرّت المرحلتان الأوليان بالعديد من الصعوبات والعقبات، بدءاً من انتخاب الهيئة التأسيسية في عام 2014، والذي تزامن مع إطلاق اللواء المتقاعد خليفة حفتر "عملية الكرامة" في بنغازي في إبريل/ نيسان من العام نفسه، ثم الانتخابات البرلمانية الثانية، التي أنتجت مجلس النواب الحالي في أغسطس/ آب 2014، وأدت الخلافات حول نتائجها إلى انقسام البلاد بين برلمانيين وحكومتين.
وأدّت كل هذه الصعوبات إلى تأجيل أعمال الهيئة حتى يونيو 2015، عندما شكّلت لجنة عمل لإعداد مسودة الدستور، عرضت الأولى منها في يناير/ كانون الثاني 2016، والثانية في فبراير من العام ذاته، بعدما خضعت للعديد من التعديلات بسبب معارضة ممثلي الأقليات، الأمازيغ والتبو والطوارق وأنصار التيار الفيدرالي، على بعض موادها.
في غضون ذلك، واجهت أعمال الهيئة صعوبات أخرى، تمثلت في اشتداد التنافس السياسي والعسكري في ليبيا. فعلى الرغم من قرار الهيئة النأي بنفسها عن التجاذبات الحاصلة في البلاد، إلا أن اتخاذها مدينة البيضاء، شرقي البلاد، مقراً لها، جرفها إلى دائرة التأثير.
فعلاوة على أن المدينة كانت مقرا أيضاً للحكومة الموازية (في الشرق)، بدأت رقعة سيطرة مليشيات حفتر في الاتساع، ما حدّ من قدرة العديد من أعضاء الهيئة على الوصول إلى مقرها وممارسة أعمالهم، لا سيما ممثلي مناطق غرب ليبيا، الذين كانت تنظر إليهم مليشيات حفتر بعين العداء.
ويضاف إلى ذلك ميْل ممثلي التيار الفيدرالي للمسار السياسي والعسكري في شرق البلاد، وهي ظروف دعت الأمم المتحدة إلى اقتراح نقل أعمال الهيئة إلى خارج ليبيا.
وعلى الرغم من اعتراض بعض أعضاء الهيئة على العمل من خارج البلاد، بحجة رفضهم إعداد دستور ليبيا من خارجها، إلا أن آخرين تمكنوا من عقد جلسات عمل عدة في مدينة صلالة بسلطنة عمان، في مارس/ آذار 2016، وتواصلوا مع الذين بقوا في ليبيا للوصول إلى توافق حول المواد الخلافية.
وأدى ذلك إلى صياغة مسودة دستور ثالثة صدرت في إبريل 2016. وبدورها واجهت المسودة الثالثة معارضة، وصلت إلى حد تقديم أنصار التيار الفيدرالي طعناً عليها أمام محكمة ابتدائية في مدينة البيضاء، تمّ قبوله وإبطال دستوريتها.
ليبيا لا تزال تحتكم إلى دستور مؤقت تم إعداده في الأشهر الأخيرة من عام 2011
ونتج عن قرار المحكمة أن جمّدت الهيئة أعمالها لقرابة عام، قبل عودتها في مارس 2017 حين بدأت مفاوضات بين أعضائها، بمشاركة ممثلين عن مجلسي النواب والدولة، للتغلب على خلافاتهم والوصول إلى أكبر قدر ممكن من التوافق حول المواد الخلافية. وانتهت تلك الجهود بالتصويت على المسودة الرابعة والنهائية، في يوليو 2017، بأغلبية الأعضاء.
وعلى الرغم من أن الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور أحالت المسودة الرابعة إلى مجلس النواب لإعدادها للاستفتاء الشعبي، إلا أن المسودة لا تزال في أدراج البرلمان إلى اليوم، حيث يقول المعارضون لها من النواب إنها تشتمل على الكثير من القضايا التي لم يتم حلّها، وإنها لا تزال غير توافقية.
ولا يزال مشروع الدستور الليبي أيضاً يقابل برفض الأقليات (الأمازيغ والطوارق بشكل خاص)، بسبب عدم دسترة لغتهم وحقوقهم الثقافية، معتبرين أن المكوّن العربي يستحوذ على الهيئة ويهيمن على تنظيم أعمالها وقراراتها، بلا أي اعتبار لقرار القوميات الأخرى.
كما أن أنصار التيار الفيدرالي أقدموا على الطعن في المسودة الأخيرة أمام محكمة البيضاء، وبعد قبول الأخيرة بالطعن، أبطلت المحكمة العليا (في طرابلس) قرارها بحجة أنها محكمة مدنية ولا يحق لها البت في الشأن الدستوري.
هيئة تأسيس الدستور: انقسام مناطقي وقلة خبرة
ويتحدث العضو في الهيئة حميد الهادي عن جملة من الصعوبات الأخرى التي اكتنفت عمل الهيئة، ومنها انتخاب أعضاء الهيئة الـ60 وفق المعيار المناطقي بواقع 20 عضواً عن كل إقليم من أقاليم البلاد الثلاثة (برقة وطرابلس وفزّان)، وبدون اعتماد معيار الخبرة والاختصاص، ما ترتب عليه طغيان الانتماء المناطقي والقبلي على مواقف غالبية الأعضاء، وهو ما شكل أيضاً تهديداً حقيقياً لوحدة البلاد.
ويضاف إلى ذلك أن قسماً كبيراً من أعضاء الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور لم يكونوا قانونيين، واحتاجوا وقتاً طويلاً لتفهم طبيعة عملهم في الهيئة.
ونتيجة تلك الصعوبات، يقول الهادي إن الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور الليبي "جاهدت من أجل الحفاظ على تماسكها وعدم انفراط عقدها"، لافتاً إلى أن "النزعات المناطقية كانت سبباً لظهور المنادين بشكل الحكم الفيدرالي في الدستور، وفي انسحاب أعضاء يمثلون الأقليات، كالأمازيغ والتبو والطوارق، وكلها عقبات كانت تتطلب تنازلات للوصول إلى أكبر قدر من التوافق".
لا يزال مشروع الدستور الليبي يقابل برفض الأقليات
ويلفت العضو في الهيئة إلى أن عملها حول حالة الصراع السياسي في ليبيا والكثير من المسائل التي طرحت للنقاش في المسودة "كانت سياسية بامتياز"، ويضرب مثلاً حول ذلك "موارد الدولة ومطالب توزيعها بشكل عادل بين المناطق، فقد كان النفط وحقوله في أتون الصراع المسلح وقتها، وكل طرف يحاول كسبه كورقة سياسية لصالحه".
ويحصر الهادي الخلافات التي رافقت صياغة مسودات الدستور الأربع في ثلاث قضايا، هي: هوية البلاد وشكل الحكم (الحكم المحلي) وموارد الدولة. وبرأيه، فإن "هذه هي النقاط الأساسية التي شكلت محور الخلاف على طول الخط"، مشيراً إلى أن المسودة النهائية التي تم التصويت عليها "صدرت من دون توضيح هذه المسائل تاركة أمر تنظيمها للسلطات التشريعية التي ستنتخب بعد الاستفتاء على الدستور".
هوية ليبيا
وتتعلق إشكالية مسألة هوية ليبيا برفض ممثلي الأقليات الليبية، وتحديداً الأمازيغ والتبو، أن يكون الاسم الرسمي للبلاد "دولة ليبيا العربية"، مطالبين بأن يكون "دولة ليبيا" فقط.
كما تتصل مسألة الهوية بالخلاف بين أعضاء في الهيئة ينتمون للنظام السابق وغيرهم حول شكل العلم الليبي ونشيد البلاد الوطني، وهما مسألتان أحالت المسودة البت فيهما إلى السلطات التشريعية المقبلة.
إدارة الحكم والموارد في ليبيا
وفيما لم يتوافق أعضاء الهيئة على شكل الحكم، وما إذا كان برلمانياً أم رئاسياً أم مختلطاً، ظلت أيضاً قضية موارد البلاد مؤجلة لتقررها السلطات التشريعية المقبلة في ظل مطالبة شديدة من أنصار التيار الفيدرالي بضرورة اعتماد تقسيم موارد الدولة وفقاً لتقسيم إقليمي موزع بين شرق وغرب وجنوب، وبإدارة محلية قائمة على نظام المحافظات أو الولايات، وإلغاء المركزية.
ويقر موسى لطيّف، أستاذ القانون الدستوري في الأكاديمية الليبية للدراسات العليا، بصعوبة مهمة الهيئة بسبب تقلبات الوضع السياسي والأمني، لكنه يرى في الوقت ذاته أن خلو مشروع الدستور من أي توضيح للمسائل الثلاث "يجعل المسودة والعدم سواء".
ويعتبر أن من العيوب التي شابت عمل الهيئة عدم لجوئها إلى المستشارين لاستكشاف حلول كان من شأنها أن تنهي الخلافات في وقت أقصر.
وبرأي لطيّف، في حديث لــ"العربي الجديد"، فإن "حقوق الأقليات الثقافية جاءت محدودة، ولا تتجاوز حدّ دسترة اللغة والثقافة، وكان يمكن فرض نُظم تعزز القيم في صميم الانتقال الديمقراطي من عدالة واحترام للحقوق، بدلاً من التماهي مع مطالب لتطاول هوية الدولة، عربية أم غير عربية".
ويؤكد لطيّف أن مخاوف عدم ضمان الحقوق كانت أيضاً وراء مسألة شكل الحكم وموارد البلاد، ويلفت إلى أنه "كان يمكن تجاوز ذلك بخلق عملية توازن في صنع القرار من خلال ترسيم طرابلس عاصمة للبلاد واعتماد بنغازي مقراً للسلطة التشريعية، وسبها مقراً للمحكمة العليا، أي السلطة القضائية".
لكن هذه المعالجة، يرى الأكاديمي الليبي وأستاذ العلوم السياسية عيسى الغزوي، من جهته، أنها لن تتجاوز حدّ الترميم، منبهاً إلى أن ترك المسائل الثلاث دون حسم أوقع الهيئة في دائرة الخلافات السياسية.
ويلفت الغزوي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أنه "لو أضفنا إلى هذه الفراغات في المسائل الثلاث قضايا أخرى لم تحسمها الهيئة، مثل مزدوجي الجنسية وحقهم في اعتلاء المناصب العليا، لتبين بشكل واضح أن الهيئة لم تكن قاصرة من الناحية القانونية بقدر ما كانت عاجزة عن مواجهة الصراع السياسي".
وبغض النظر عن الدوافع التي جعلت مجلسي النواب والأعلى للدولة يعودان اليوم إلى مسألة الدستور، يرى الغزوي أن العودة إلى المسودة ستفتح الباب أمام أشكال جديدة من الصراع، موضحاً أن "إعادة فتح المسودة وتعديلها أمر ضروري، لأن مستجدات الأوضاع في البلاد تجاوزت مضمون ما تطرحه، لكن ذلك سيوقظ خلافات قديمة".
ويذكّر الأكاديمي الليبي بأن اعتماد المسودة (الرابعة) والتصويت عليها جرى بالأغلبية، ولم تكن محل إجماع أعضاء الهيئة، ما يعني فتح الباب أمام عودة الخلافات الفيدرالية وحقوق الأقاليم وحقّ توزيع الثروة". ويرى الغزوي أن مصير الدستور سيبقى قيد المجهول، بسبب المساومات السياسية والمعارك القانونية.
من جهته، يوافق الناشط السياسي الليبي الشاذلي بلعيد على رأي القائلين بأن لجوء مجلسي النواب والدولة إلى إعادة مسألة الدستور للمشهد "ما هو إلا مناورة لكسب الوقت لبقاء المجلسين في المشهد".
ولقطع الطريق أمام ذلك، يرى بلعيد أن التعديل يجب أن يتم بأحد طريقين، الأول بعد إطلاق حوار سياسي جديد لا يكون بين المجلسين فقط بل تنخرط فيه كافة الشرائح الليبية الأخرى للوصول الى توافق سياسي ملزم، ووفقه لن يبقى إجراء تعديل على المسودة صعباً لأن الخلاف في مضمون المسودة سياسي وليس قانونياً".
أما الطريق الثاني، فيقترح بلعيد أن توكل المهمة لطبقة سياسية جديدة، ستفرز بعد انتخاب برلمان جديد وفق قاعدة دستورية مؤقتة.
ويعتبر بلعيد أن الشكل الحالي لمسودة الدستور "هو أفضل الممكن"، فالهيئة، برأيه، "أضفت طابعاً دستورياً على الخطوط العريضة للدستور الليبي وتجاوزت الدخول في التفاصيل لسدّ الباب أمام النزاعات الداخلية بين أعضائها"، لكنه لا يرى المسودة دستوراً نهائياً.