استمع إلى الملخص
- اتخذت السلطات السورية إجراءات صارمة ضد الفصائل الفلسطينية الموالية للنظام السابق، مثل مصادرة مقراتها وأموالها، وحصر نشاطها في العمل الإغاثي لتحسين أوضاع اللاجئين الفلسطينيين.
- تسعى دمشق لإقامة علاقات جديدة مع منظمة التحرير الفلسطينية، مما قد يؤدي إلى اختفاء بعض الفصائل الفلسطينية في سوريا أو تقليص نشاطها.
اعتقلت السلطات السورية، أول من أمس السبت، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة طلال ناجي، لساعات عدّة قبل إطلاق سراحه. وسبق ذلك اعتقال قياديَين اثنين من حركة الجهاد الإسلامي في 22 إبريل/نيسان الماضي، لم يُفرَج عنهما حتى الآن. وجاءت هذه الاعتقالات في ظل التغيير السياسي الحاصل في سورية بعد رحيل نظام بشار الأسد، وفي ظل استهداف إسرائيلي متواصل للأراضي السورية، وشروط أميركية على دمشق لتخفيف العقوبات عنها، من بينها بحسب ما تسرّب، فرض قيود على الفصائل الفلسطينية في سورية ومنعها من مزاولة أي نشاط عسكري أو سياسي، أو حتى جمع التبرعات، بحسب ما ورد في تسريبات عدة لوسائل إعلام أميركية.
وطرح كل ذلك تساؤلات حول مصير الفصائل الفلسطينية في سورية والنهج الذي ستختاره الإدارة في التعاطي معها، وتحديداً ما إذا كانت هذه الاعتقالات تهدف إلى دفع مَن تبقى من قيادات الفصائل، سواءً من الصف الأول أو حتى الثاني، لمغادرة الأراضي السورية، ما يريح الإدارة من "عبء" اتخاذ إجراءات ضدّها، وفي الوقت نفسه يحقّق الشروط الأميركية.
استبعد مصدر فلسطيني إقدام السلطات السورية على ترحيل أيّ قيادات فلسطينية من البلد
ووفق مصدر فلسطيني مطلع، تحدث لـ"العربي الجديد"، فإنّ الافراج عن طلال ناجي جاء بعد تدخل جهات فلسطينية خارج سورية لدى السلطات السورية، إذ يعتقد أن قيادة الجبهة تواصلت مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ورئيس حركة حماس إقليم الخارج خالد مشعل، وأنهما تدخّلا لدى السلطات السورية من أجل إطلاق سراحه. وطلال ناجي من مواليد 1946 في مدينة الناصرة، شمالي فلسطين المحتلة، وتولى قيادة الجبهة بعد وفاة أمينها العام السابق أحمد جبريل في 2021، ويعد من القيادات الفلسطينية التاريخية، وهو عضو في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ 1974، وكان لفصيله "القيادة العامة" دور ملحوظ في دعم النظام السابق على مستوى الساحة الفلسطينية داخل سورية، خاصة في بسط سيطرة النظام على مخيّم اليرموك، أكبر التجمعات الفلسطينية في سورية، في 2018.
وبعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي، عقدت جهة قيادية سورية لقاء مع قيادات في جميع الفصائل، وعلى إثر ذلك، صدرت سلسلة قرارات تمسُّ الفصائل الموالية للنظام السابق، وهي: الجبهة الشعبية - القيادة العامة، ومنظمة الصاعقة، وفتح الانتفاضة، والمجموعات المنشقة عن فصائلها الأم التي احتضنها النظام السابق، وهي جبهة النضال الشعبي الفلسطيني (خالد عبد المجيد)، وجبهة التحرير الفلسطينية (أبو نضال الأشقر)، إضافة لما كان النظام السابق قد قام بتشكيله بعد 2011 تحت مظلة فلسطينية، مثل "حركة فلسطين حرّة" بقيادة سائد عبد العال، والحزب الديمقراطي الفلسطيني (دافع) بقيادة مازن شقير، ولواء القدس بقيادة محمد السعيد.
وضع اليد على مقرّات بعض الفصائل الفلسطينية في سورية
وتراوحت الإجراءات بين وضع اليد على مكاتب ومقرّات البعض، وحتى معسكرات التدريب، من بينها مكاتب فتح الانتفاضة حيث مكتب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس السابق بدمشق (مكتب الصداقة) الذي كان يسيطر عليه العقيد زياد الزغيّر، الذي هرب إلى لبنان بعد سقوط نظام الأسد، كما جرى وضع اليد على مكاتب ومعسكرات منظمة الصاعقة، ومكتب الأمين العام للجبهة الشعبية – القيادة العامة الراحل أحمد جبريل، الذي اتخذه ابنه من بعده خالد جبريل مقراً له.
وبالنسبة لفصيل منظمة الصاعقة، فقد جرى التحقيق مع أمينه العام محمد قيس، لكن دون اعتباره من "فلول النظام" لأنه لم يكن في موقع المسؤولية خلال معركة مخيّم اليرموك في 2015. مع ذلك، صادرت السلطات السورية مكاتب التنظيم وسياراته وحتى أمواله، وطلبت إعادة تشكيل التنظيم بعد حل حزب البعث السوري والفلسطيني (التنظيم هو الجناح العسكري لحزب البعث – الفرع الفلسطيني)، لكن بعد ذلك صدر بيان من داخل فلسطين يتهم قيس بأنه من "فلول النظام" وبأنه غير مخول الحديث باسمهم، وهو ما يشي ببوادر انشقاق، كما ألغت المنظمة اسم "البعث" من مُعرّفاتها الرسمية لتقتصر تسميتها على "منظمة الصاعقة" التي أصدرت قراراً بفصل محمد قيس ونقل مقرّ الأمانة العامة إلى رام الله، وإعلانها أنها جزء من منظمة التحرير الفلسطينية، أما المكتب الرئيسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في منطقة الطلياني في دمشق، فلا يزال مفتوحاً، لكن دون نشاط، فيما جرى إغلاق باقي المكاتب ومصادرة الأسلحة.
أما حركة الجهاد الإسلامي فليس لها اليوم أي مكتب تنظيمي في سورية. وبحسب معطيات، فإنه ليلة سقوط النظام غادر عدد من مسؤوليها إلى بغداد، فيما طلبت السلطات السورية منها تسليم أي سلاح أو سيارات لديها، وقبل نحو أسبوعَين أقدمت السلطات السورية على اعتقال مسؤول حركة الجهاد الإسلامي في سورية خالد خالد (أبو الحسن)، مع مسؤول العمل التنظيمي أبو علي ياسر بعد عودتهما من العراق، لأسباب مجهولة، وما زالا معتقلَين لغاية الآن.
مغادرة مجموعات فلسطينية إلى لبنان
في الأثناء، غادرت مجموعات فلسطينية عدّة إلى لبنان، منها مجموعة سائد عبد العال "فلسطين حرة" التي كانت تعمل مع المخابرات الجوية لنظام الأسد، إضافة إلى أفراد وشخصيات كانوا يقومون بتهريب المدنيين من مخيّم اليرموك خلال تعرّضه للحصار من النظام بين عامَي 2013 و2018 لقاء مبالغ مالية باهظة، يتقاسمونها مع ضباط النظام السوري السابق. وكان قد مُنِحَ بعضهم جوازات سفر دبلوماسية سورية، لتمكينهم من التجول خارج البلد.
ماجد كيالي: السلطة في سورية تركز على إقامة علاقة مع منظمة التحرير بصفتها ممثلاً للشعب الفلسطيني
وعقب هذه الإجراءات، وتحديداً منذ فبراير/شباط الماضي، جرى إبلاغ كل الفصائل الفلسطينية في سورية بحصر نشاطها بالعمل المؤسّساتي الإغاثي دون أي عمل عسكري إطلاقاً. ونشطت في هذا الإطار، كل من حركة فتح باعتبارها الفصيل الفلسطيني الشرعي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهي الفصيل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، إضافة إلى حركة الجهاد الإسلامي عبر مؤسّساتها الخيرية المتعدّدة، في ترميم المباني في مخيّم اليرموك، إلى جانب المؤسّسات والجمعيات الأهلية الفلسطينية، التي كان حضورها أقوى من حضور الفصائل. وفي المرحلة الثالثة، برز الضغط الأميركي على القيادة السورية عبر أطراف عدّة لإنهاء الوجود الفلسطيني التنظيمي والفصائلي في سورية، ومن المُعتقد أن اعتقال القياديين في حركة الجهاد الإسلامي، ومن ثم طلال ناجي، جاء في هذا الإطار.
وكانت صحيفة واشنطن بوست نقلت، في 17 إبريل/نيسان الماضي، عن مسؤول أميركي قوله إنه جرى تسليم وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني قائمة خطوات لبناء الثقة. ووفق المسؤول فإن القائمة تتضمّن السماح بتنفيذ عمليات أميركية لمكافحة الإرهاب على الأراضي السورية، ومطالبة دمشق بإصدار إعلان رسمي دعماً للتحالف الدولي ضدّ "داعش"، وإصدار إعلان يحظر جميع المجموعات والأنشطة السياسية الفلسطينية، وترحيل أعضاء المجموعات الفلسطينية لتهدئة المخاوف الإسرائيلية.
وقال مصدر فلسطيني مطّلع، لـ"العربي الجديد"، إنّ زيارة عباس إلى دمشق في 18 إبريل الماضي، عزّزت موقف القيادة السورية بالطلب من الفصائل الفلسطينية في سورية التركيز على العمل المؤسّساتي المتعلق بتحسين أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في البلد، والذين كان عددهم يزيد عن نصف مليون شخص، جزء منهم باتوا خارج سورية نتيجة التهجير. واستبعد المصدر إقدام السلطات السورية على ترحيل أيّ قيادات فلسطينية من البلد، لأن الموجودين هم من اللاجئين، ولا يوجد مكان يذهبون إليه، مشيراً إلى أن عدداً محدوداً من القيادات الفلسطينية ما زال في سورية، مثل الأمين العام السابق للجبهة الديمقراطية نايف حواتمة، الذي حلّ مكانه فهد سليمان، مع ملاحظة أن الجبهة الديمقراطية هي الوحيدة تقريباً، إضافة إلى حركة فتح، التي لم تطاولها أيّ إجراءات من القيادة السورية. وهناك أيضاً أبو عدوي (اللواء محمود حمدان) قائد حركة النضال الشعبي الفلسطيني، بعد أن غادر قائدها السابق خالد عبد المجيد إلى الإمارات، حيث يقيم هناك، ولديه أعمال تجارية، ونقل المصدر عن عبد المجيد، اتهامه لعباس بأنه اتفق خلال زيارته دمشق مع القيادة السورية على اتخاذ إجراءات ضدّ الفصائل الفلسطينية في سورية، غير أن المصدر استبعد ذلك، واضعاً كلام عبد المجيد في إطار التحامل على عباس.
دمشق تعمل وفق اعتبارات داخلية
قال الباحث السياسي مؤيد غزلان، لـ"العربي الجديد"، إنّ دمشق لا تتعامل تحت الضغوط الأميركية والإسرائيلية بشأن هذا الموضوع، بل وفق سياستها واعتباراتها الداخلية، موضحاً أن السياسة السورية تقوم على عدم إثارة أيّ خلافات مع المحور الدولي والعربي والأوروبي، إذ لدينا مصلحة مع الولايات المتحدة تتمثل أساساً في رفع العقوبات، ونعلم أيضاً أن واشنطن هي حليفة لإسرائيل، وللأخيرة تأثير على السياسة الأميركية في المنطقة. ورأى أن الفصائل الفلسطينية لم يكن لها في السابق أيّ نشاط فعلي ضدّ إسرائيل انطلاقاً من الأراضي السورية، وكان معظمها متحالفاً مع طهران، وربما كان لها مبرّرات، لكن علاقاتها مع إيران مرفوضة في سورية اليوم.
وتابع: "بالنسبة لتوقيف طلال ناجي لبعض الوقت، فهذا ليس تصرفاً عدائياً تجاه الفصائل الفلسطينية في سورية بل يندرج في إطار التحقيق معه، ومع بعض قادة الفصائل الفلسطينية في سورية ممّن وقفوا مع النظام السابق في قمعه للشعب السوري، وذلك ضمن مسار العدالة الانتقالية الذي تعمل عليه الإدارة في دمشق بشأن كل المتورطين مع النظام السابق، سواء أكانوا سوريين أم فلسطينيين أم سواهم".
وأكد غزلان أن "دمشق لم تتخلّ عن القضايا العربية، وفي مقدمتها فلسطين، لكنها تحاول في الوقت نفسه عدم استعداء المحور الدولي بهدف رفع العقوبات بالتعاون الوثيق مع المحور العربي، وقد حققت السياسة السورية نجاحات ملحوظة على هذا الصعيد"، وشدّد على أن "جميع القوى في سورية، بما فيها الفصائل السورية، مثل هيئة تحرير الشام، ليس لها رؤية أو سياسات مستقلة عن رؤية الدولة، وهي الوحيدة التي تقرّر السياسات الخارجية للبلاد".
وعبر الباحث بسام السليمان، في تصريح لـ"العربي الجديد"، عن اعتقاده بأن "هذا الموضوع يمكن مقاربته من زوايا عدّة، أولاها المفاوضات الجارية بين الولايات المتحدة والحكومة السورية من أجل رفع العقوبات، وأميركا لديها طلبات، وكل الدول تدخل في مفاوضات خطوة مقابل خطوة. والنقطة الثانية أن معظم الفصائل الفلسطينية كانت جزءاً من المحور الإيراني في المنطقة، وبعضها شارك مع النظام في حربه على الشعب السوري، وهؤلاء يجب أن يخضعوا للمحاكمة. والنقطة الثالثة أن سورية اليوم لديها تموضع إقليميّ معيّن، لا يحبّذ التعامل مع الفواعل غير الدولة. ومن أهم التحديات الداخلية اليوم محاولة دمج الفصائل السورية تحت مظلة وزارة الدفاع، لذلك من المرجّح أن السياسة هنا هي نحو التخلص من هذه الحالة الفصائلية"، وتساءل "عمّا فعلته هذه الفصائل للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة"، مشيراً إلى أن الكثير من الموجودين على الساحة السورية، دعموا نظام الأسد، وكانوا يدورون في المحور الإيراني".
وحول مستقبل وجود الفصائل الفلسطينية في سورية رأى الكاتب الفلسطيني ماجد كيالي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن السلطة في سورية تركز على إقامة علاقة مع منظمة التحرير الفلسطينية، بصفتها ممثلاً للشعب الفلسطيني، وقضيته، بعد قرابة ستة عقود من العلاقات غير السليمة بين الفصائل والنظام السوري السابق، ولفت إلى أن "معظم تلك الفصائل لا تتمتع برصيد شعبي أصلاً، وهي غير مؤثرة على أي صعيد، وكانت تستمدّ نفوذها من الامتيازات التي كان يمنحها إياها النظام السوري، ودعمها من إيران، لذا فهي لن تجد مكاناً لها في العهد الجديد، على الأغلب، ولا قبولاً في مجتمع الفلسطينيين السوريين، خاصة مع أُفول حقبة الكفاح المسلّح من الخارج، منذ أربعة عقود، ونقل مركز القيادة إلى الضفة والقطاع"، ورجح كيالي أنْ "تختفي بعض الفصائل الفلسطينية في سورية، التي كانت تعتمد في وجودها على نظام الأسد، وإن بقيت فهي لن تكون فاعلة أو ملحوظة، لا رسمياً ولا شعبياً، سيّما أن النظام الحالي حلّ حزب البعث، كما حلّ كل أحزاب الجبهة التقدمية في سورية. والأحرى أنّ ذلك سيشمل الفصائل الفلسطينية في سورية التي كانت تعمل ضمن إطار نظام الأسد".