تصاعد الحرب على غزة: مقاربة عسكرية وأمنية إسرائيلية مختلفة
استمع إلى الملخص
- المفاوضات بين إسرائيل وحماس وصلت لطريق مسدود بعد رفض إسرائيل لمقترحات الوسطاء، التي شملت تبادل الأسرى وفتح المعابر، مع فرض شروط مجحفة تتعلق بنزع سلاح المقاومة.
- التصعيد الإسرائيلي يهدف لفرض واقع سياسي جديد في غزة بدعم أمريكي، من خلال تدمير البنية التحتية وتهجير الفلسطينيين، ويستخدمه نتنياهو لتثبيت تحالفه الحكومي.
تتصاعد وتيرة حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة بشكل كبير، منذ استئنافها في 18 مارس/آذار الماضي، بعد تشديد الاحتلال الإسرائيلي القصف، فضلاً عن إعلان رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو استحداث هدف جديد يتمثل بالسيطرة على "محور موراغ" أو "فيلادلفي 2" (بعد محور صلاح الدين "فيلادلفي" بين القطاع ومصر) الفاصل بين محافظتي رفح وخانيونس، جنوبي القطاع. كذلك فإن وتيرة القصف اليومية للاحتلال والتسريبات المتصاعدة عن مخططات التهجير "الطوعي" وحديث وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس أخيراً عن أن استئناف الحرب على غزة والضغط العسكري لا يستهدف حركة حماس فقط وإنما سكان القطاع، تشير إلى رغبة إسرائيلية في تنفيذ مخططات التهجير. ويبدو أن السلوك الإسرائيلي أخيراً، بما فيه أوامر الإخلاء المتتالية، يتجاوز تلك المزاعم التي أطلقها نتنياهو في اليوم الأول لعودة الحرب على غزة، مدعياً فيها أن هدف العودة هو تنفيذ مخطط المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، الذي رفضته حركة حماس لكونه يتجاوز اتفاق المراحل الثلاث المبرم سابقاً بوساطة قطرية ومصرية وحضور أميركي، يوم 19 يناير/ كانون الثاني الماضي.
منذ عودة الحرب سقط أكثر من ألف شهيد فلسطيني، وفق إحصائيات وزارة الصحة في غزة، غالبيتهم من النساء والأطفال، فضلاً عن إصابة المئات جراء القصف الجوي والمدفعي المكثف. ولا يعكس السلوك الإسرائيلي حالياً أي رغبة في التفاوض الحقيقي الذي يقود نحو عودة الهدوء إلى القطاع من جديد، على غرار المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار التي انتهت في الأول من مارس الماضي، بل يستغل الاحتلال المفاوضات للاستمرار بالتصعيد، علماً أن تلك المرحلة، والتي لم يلتزم الاحتلال بكل بنودها وعلى رأسها إدخال المساعدات والبيوت المتنقلة، كان من المفترض أن تتبعها مرحلتان تفضيان إلى الانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع ووقف الحرب والبدء بإعادة الإعمار.
نيات مبيتة لتصعيد الحرب على غزة
رغم أن صحيفة هآرتس الإسرائيلية نقلت، مساء أول من أمس الأربعاء، عن مصادر في جيش الاحتلال عدم المصادقة الإسرائيلية حتى الآن على الخطط العملياتية للسيطرة على "محور موراغ"، فإن حديث نتنياهو الواضح يعكس النيات الإسرائيلية المبيتة. وقال نتنياهو، في تسجيل مصور أول من أمس، إن الجيش الإسرائيلي "يقوم بتجزئة القطاع وزيادة الضغط تدريجاً لكي تعيد (حركة حماس) رهائننا (المحتجزين الإسرائيليين)"، زاعماً أنه "يسيطر على محور موراغ الذي سيكون محور فيلادلفي (صلاح الدين) الإضافي". ويقع محور موراغ بين مدينتي خانيونس ورفح، ويحمل اسم مستوطنة إسرائيلية كانت مقامة في القطاع قبل انسحاب إسرائيل منه في 2005. أما محور صلاح الدين بين قطاع غزة ومصر (جنوب)، فيسيطر عليه الاحتلال منذ مايو/ أيار 2024، ولم ينسحب منه وفق ما نصت عليه المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار.
ونقلت الصحيفة عن مصادر بالجيش الإسرائيلي أن المؤسسة العسكرية تكتمت على خطة السيطرة على هذا المحور للحفاظ على أمن القوات الإسرائيلية، مضيفة أنها فوجئت بكشف نتنياهو عن هذه الخطة. في الوقت ذاته، يطالب الاحتلال سكان القطاع بالتظاهر ضد حركة حماس وحكمها للقطاع، إذ سبق أن طلب نتنياهو وكاتس ذلك، لا سيما في ظل وجود مطالب شعبية بإنهاء الحرب على غزة.
حمل الرد الإسرائيلي على مقترح الوسطاء رفضاً وتغييرات على معظم بنوده
إفشال مقترح الوسطاء
بالمقابل فإن التسريبات الأخيرة التي نشرت بشأن فشل مقترح الوسطاء الأخير، المقدم في 27 مارس الماضي، تشير إلى أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود في ظل الموقف الإسرائيلي المتعنت. فقد وافقت فيه "حماس" على مقترح الوسطاء الذي عرض إفراج الحركة عن خمسة جنود محتجزين خلال 50 يوماً بينهم الأميركي-الإسرائيلي عيدان ألكسندر، بواقع محتجز كل عشرة أيام مقابل الإفراج عن 250 أسيراً فلسطينياً، بينهم 150 محكوماً بالمؤبد، وألفان من أسرى غزة، وعودة الأمور إلى ما قبل الثاني من مارس (تاريخ إقفال كافة المعابر ورفض الاحتلال الدخول في المرحلة الثانية لاتفاق وقف إطلاق النار) وفتح المعابر وتنفيذ البروتوكول الإنساني، إضافة إلى بنود مرتبطة بالمرحلة الثانية، لكن الرد الإسرائيلي حمل رفضاً وتغييرات على معظم بنود مقترح الوسطاء.
طلبت إسرائيل، وفق التسريبات، قبل بدء الاتفاق إفراج "حماس" عن عيدان ألكسندر في بادرة حسن نية دون مقابل، إضافة إلى الإفراج عن عشرة جنود مقابل إطلاق 120 أسيراً فلسطينياً من أصحاب المؤبدات و1111 من أسرى غزة في اليوم الأول من الاتفاق. ثم اشترطت إفراج "حماس" في عاشر أيام الاتفاق عن 16 جثة لإسرائيليين مقابل 160 جثة لفلسطينيين، محددة سقف الاتفاق بـ 40 يوماً تبدأ في اليوم الثاني منها المفاوضات على مبادئ جديدة تتضمن نزع سلاح المقاومة، ورفض انسحاب القوات الإسرائيلية وإعادة تموضعها في القطاع بما هي محددات للتفاوض. وسريعاً، رفضت حركة حماس، أول من أمس، الاقتراح الأخير الذي قدّمته إسرائيل. ونقلت "فرانس برس" عن مسؤولين اثنين في الحركة، أن "حماس قرّرت عدم التعاطي مع الاقتراح الإسرائيلي الأخير المقدّم عبر الوسطاء، لأن الاحتلال يهدف إلى تعطيل الاقتراح المصري-القطري ويريد إعاقة أي اتفاق"، وأنها تناشد "الوسطاء والمجتمع الدولي إلزام الاحتلال باحترام ما وقع عليه والتعامل إيجاباً مع مقترح الوسطاء". كما صرح قيادي بالحركة لـ"رويترز"، أول من أمس، بأن "حماس" قررت عدم الرد والتعاطي مع الورقة الإسرائيلية الأخيرة التي قدمتها للوسطاء بشأن هدنة في غزة، مؤكداً أن الحركة متمسكة بورقة الوسطاء.
مقاربة عسكرية جديدة
يرى الباحث الفلسطيني في الشأن السياسي، محمد الأخرس، أن التصعيد الإسرائيلي الأخير في قطاع غزة، والذي بدأ في 18 مارس الماضي "لم يكن يهدف إلى الضغط التفاوضي أو تحقيق تنازلات سياسية، بل جاء في سياق اختبار مقاربة عسكرية وأمنية جديدة تسعى لتكريس واقع سياسي مختلف داخل القطاع". ويوضح في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "إسرائيل قدمت مقترحاً في 28 مارس بالتنسيق مع الإدارة الأميركية، يتضمن بنوداً تُكرّس شرعنة الاحتلال في غزة دون الحديث عن أي انسحاب من القطاع". بل يشترط المقترح، وفق الأخرس، نزع السلاح بالكامل "سواء كان تابعاً للمقاومة أو غيرها". وبرأيه هذا المقترح أقرب إلى "وثيقة استسلام"، نظراً لشروطه المجحفة، خصوصاً في ما يتعلق بملف الأسرى، إذ "تطالب إسرائيل بالإفراج عن 11 أسيراً و16 جثة من الدفعة الأولى، دون مقابل يُذكر".
محمد الأخرس: عمليات الاحتلال ركزت على تدمير البنية التحتية الحكومية والأمنية في غزة
ويشير الأخرس إلى أن العمليات العسكرية الإسرائيلية "ركزت بشكل واضح على تدمير البنية التحتية الحكومية والأمنية في غزة، إلى جانب خلق حالة من الفوضى، عبر دعوات لسكان القطاع بالخروج في تظاهرات ضد حركة حماس". ويضيف أن "إسرائيل بدأت تتحدث عن محور أمني جديد يُعرف بفيلادلفي 2 أو موراغ، في محاولة لإعادة رسم خريطة السيطرة في القطاع، وهو ما يؤكد أن الأمر يرتبط بالسعي لفرض واقع جديد". التحول في الاستراتيجية الإسرائيلية يعود إلى ثلاثة دوافع رئيسية، وفق الأخرس، أولها "تغير المقاربة الأميركية وتبنيها للرؤية العسكرية الإسرائيلية، وهو ما يقلّل فرص الضغط الدولي لإنهاء الحرب على غزة". أما الدافع الثاني "فهو الضغط الداخلي في إسرائيل، إذ تستخدمه حكومة الاحتلال لإعادة تشكيل النخبة العسكرية والأمنية". بينما يتمثل الدافع الثالث "في تحولات داخل النخبة العسكرية نفسها، والتي تتماشى مع توجهات سياسية جديدة تجاه قطاع غزة".
من جانبه، يقول مدير مركز رؤية للتنمية السياسية (مقره في إسطنبول)، أحمد عطاونة، إن استئناف الحرب على غزة والتصعيد العسكري الإسرائيلي الأخير، يأتي ضمن سياق متعدد الأهداف، يتصدره السعي لاستكمال ما وصفه بـ"حرب الإبادة الجماعية" التي تشنها قوات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، بهدف كسر إرادة المقاومة، وفرض الشروط الإسرائيلية بالقوة. ويوضح عطاونة في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الهدف الأول من هذا التصعيد يتمثل في استمرار الحرب على غزة وضمان تحقيق ما تسعى إليه إسرائيل منذ بدايتها، عبر الضغط العسكري والنفسي على الشعب الفلسطيني ومقاومته، من أجل فرض شروطها المعلنة، التي باتت أكثر وضوحاً في المقترحات الأخيرة، مثل تفكيك المقاومة، نزع سلاحها، وإبعاد قياداتها". الهدف الثاني، وفق عطاونة "يتعلق بخلق بيئة يائسة تدفع الفلسطينيين نحو الهجرة، في ظل تسريبات عن تكليف حكومة الاحتلال لجهاز (الاستخبارات الخارجية) الموساد، بالبحث عن دول بديلة لاستيعاب تهجير الفلسطينيين، مثل السودان وأرض الصومال (صوماليلاند)، وهو ما يُعد استمراراً لسياسة التهجير القسري".
أحمد عطاونة: استخدم نتنياهو التصعيد أداة لتثبيت تحالفه الحكومي
ويشير إلى أن "التصعيد له أيضاً أبعاد سياسية داخلية، إذ استخدمه نتنياهو أداة لتثبيت تحالفه الحكومي، بإعادة إدماج الوزير (الأمن القومي) المتطرف إيتمار بن غفير (بعد استقالته احتجاجاً على إبرام اتفاق وقف إطلاق النار)، وتمرير الموازنة العامة، ما وفّر لحكومته استقراراً نسبياً حتى نهاية ولايته". برأي عطاونة هذا التصعيد في الحرب على غزة "يجري برعاية أميركية كاملة ودعم غير مشروط، إضافة إلى ضعف الموقف العربي والإسلامي، والذي يكتفي بردات فعل شكلية تقليدية، من بيانات واجتماعات دون أي خطوات عملية تلجم العدوان، بما في ذلك مخرجات قمة القاهرة الأخيرة (الشهر الماضي) التي لم يتم تنفيذ أي شيء منها بما في ذلك اللجنة الإدارية لغزة". ويعتقد أن "رفض المقاومة الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين من دون اتفاق شامل لوقف العدوان وإعادة الإعمار ورفع الحصار، هو موقف منطقي ومبرر"، إذ "لا يمكن للمقاومة أن تتخلى عن ورقة الأسرى دون تحقيق مكاسب جوهرية تغيّر من مسار الحرب على غزة بشكل حقيقي".