ترتيب التحالف الحكومي وتمرير الموازنة الإسرائيلية لتثبيت المشروع النيو–صهيوني
استمع إلى الملخص
- الموازنة الجديدة تضمن استقرار الحكومة حتى أكتوبر 2026، وتتيح لنتنياهو تنفيذ مخططات مثل تقييد القضاء وتوسيع الاستيطان، مستغلاً الوضع الأمني في غزة.
- تتضمن الموازنة إنفاقاً عالياً على الأمن وزيادة في الضرائب، وتواجه انتقادات لعدم تحفيزها النمو الاقتصادي، مع استمرار التوترات مع المؤسستين الأمنية والقضائية.
عمل رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، في الأسابيع الأخيرة، على ترتيب البيت الداخلي للائتلاف الحكومي، لا سيما قبيل حلول الموعد النهائي لإقرار الموازنة الإسرائيلية لعام 2025. وسط استئنافه حرب الإبادة على قطاع غزة، أعاد نتنياهو دمج وزير الخارجية، جدعون ساعر، وحزبه اليمين الرسمي في صفوف حزب الليكود الذي يتزعمه. كما أعاد وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، إلى الائتلاف الحكومي، والذي كان استقال عقب إبرام اتفاق وقف إطلاق النار في القطاع، يناير/ كانون الثاني الماضي. كذلك أقال رئيس جهاز جهاز الأمن الداخلي "الشاباك"، رونين بار، وبدأ بإجراءات إقالة المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهاراف ميارا.
نجح نتنياهو أيضاً في إقناع حاخامات حزب يهدوت هاتوراه (حزب التوراة الموحد، اليميني الديني المتشدد)، أخيراً، بعدم معارضة مشروع قانون الموازنة في الكنيست (البرلمان)، بعد أن تعهد، مرة أخرى، بالعمل على سن قانون مناسب لترتيب إعفاء طلاب المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية، وضخ ميزانيات كبيرة لصالح الفئات الحريدية-المتشددة ومؤسساتها. وبالفعل، أقر الكنيست الإسرائيلي، أمس، الموازنة الإسرائيلية. وصادقت الهيئة العامة للكنيست على موازنة إسرائيل لعام 2025 بأغلبية بلغت 66 عضواً لمصلحتها، مقابل معارضة 52 عضواً في الكنيست البالغ عدده 120 عضواً. يُذكر أن الموعد النهائي المحدد للتصويت على الموازنة الإسرائيلية هو يوم 31 مارس/ آذار الحالي أي الاثنين المقبل، وإلا كان سيتم حل البرلمان، وبالتالي إجراء انتخابات جديدة تفضي إلى حكومة جديدة.
تمرير موازنة الحكومة يضمن، نظرياً على الأقل، استقرار الائتلاف الحكومي
تمرير موازنة الحكومة الإسرائيلية يضمن، نظرياً على الأقل، استقرار الائتلاف الحكومي حتى نهاية الولاية القانونية للكنيست الحالية، حتى شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2026، دون تعرضه لابتزازات جدية من قِبل مكونات التحالف. يرى نتنياهو واليمين المتطرف الآن أن بإمكانهم المضي قدماً في تنفيذ مخططاتهم، وعلى رأسها خطة تقييد الجهاز القضائي، التي تهدف إلى فرض سيطرة اليمين على السلطة القضائية وتحويلها إلى نموذج محافظ، يمتنع عن التدخل في عمل السلطتين التشريعية والتنفيذية. يُسهّل هذا التوجه تنفيذ مشروع اليمين المتمثل في توسيع الاستيطان، وضم الأراضي الفلسطينية، وتقييد الحريات الفردية، وتعزيز الطابع اليهودي الديني للدولة، أي السعي لفرض المشروع النيو–صهيوني المحافظ، المتدين، والمتطرف.
لم تبدأ هذه المسارات في العام الأخير، بل كانت بوادرها واضحة منذ انتخاب نتنياهو رئيساً للحكومة لأول مرة عام 1996، إذ بدأ حينها بالتحريض على مؤسسات الدولة، خصوصاً على سلطة القانون والنيابة العامة والمحكمة العليا. كما هاجم النخب التقليدية ووسائل الإعلام، مدعياً أنها يسارية ولا تمثل المصلحة الحقيقية للشعب. إلا أن نتنياهو اصطدم آنذاك بنخب قوية ومتماسكة، وواجه معارضة من داخل حزب الليكود نفسه، خصوصاً من قِبل القيادات التقليدية ذات التوجه الليبرالي–القومي، الذين لُقّبوا بـ"أمراء الليكود". ولم يدم حكمه حينها طويلاً، إذ خسر الانتخابات في عام 1999.
سعى اليمين، منذ تلك الفترة، إلى إعادة تعريف الصهيونية وفق رؤية اليمين المتطرف، وهي رؤية لا تكتفي بالصراع على الحكم والسيطرة السياسية، بل تمتد أيضاً إلى السعي نحو الهيمنة على مفاصل الدولة ومؤسساتها العميقة. وقد تجددت هذه المحاولات بوتيرة منخفضة بعد فوز نتنياهو في انتخابات عام 2009، لكنها برزت بحدة بعد انتخابات عام 2022، مع تشكيل ائتلاف حكومي يميني صرف. وتكثفت هذه الجهود في ظل حرب الإبادة على قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر 2023، مستغلة حالة الإجماع الصهيوني، والشعور العام بالتهديد والخوف الذي ساد داخل المجتمع الإسرائيلي، وضعف المعارضة الإسرائيلية وعدم طرحها مشروعا سياسيا بديلا.
حوّل نتنياهو وتحالف اليمين الأزمة إلى سلاح موجه ضد الشعب الفلسطيني، وأيضاً ضد المشاريع السياسية المنافسة داخل المجتمع الإسرائيلي، في محاولة لـحسم ملفين محوريين: القضية الفلسطينية وطبيعة نظام الحكم في إسرائيل. بات معسكر اليمين المتطرف مقتنعاً اليوم بأن تنفيذ مخططاته أصبح ممكناً، بل وناجحاً، وذلك بعد أن ظنّ كثيرون أن حُكم اليمين أوشك على الانهيار في أعقاب الإخفاق الكبير في السابع من أكتوبر 2023. وفي هذا السياق، يُعدّ إقرار الموازنة دفعة قوية لتحقيق أهداف اليمين، وتثبيت مشروعه السياسي والأيديولوجي.
الموازنة الإسرائيلية
تبلغ الموازنة الإجمالية لإسرائيل لعام 2025، وفقاً لمشروع القانون، حوالي 755.9 مليار شيكل (ما يعادل نحو 206 مليارات دولار). أما إجمالي الموازنة الإسرائيلية المُعتمد لحساب سقف الإنفاق فيبلغ حوالي 619.6 مليار شيكل (169 مليار دولار)، ما يُمثّل ارتفاعاً بنسبة 20.6% مقارنة بسقف الإنفاق لعام 2024. ويُعزى هذا الارتفاع بشكل أساسي إلى زيادة الإنفاق على بنود الأمن نتيجة الحرب على غزة والجبهات الأخرى. وتبلغ ميزانية سداد الديون حوالي 136 مليار شيكل (37 مليار دولار). أما العجز المالي، والذي وعد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش في البداية ألا يتجاوز 4.0%، فقد ارتفع إلى 4.7% في اقتراح القانون، مع احتمال أن يصل إلى 4.9%. وفي حال تجددت الحرب وتوسعت، فقد يرتفع العجز إلى أكثر من 5% خلال ما تبقى من السنة الحالية.
ارتفاع في حصة الأمن
تُعدّ ميزانية وزارة الأمن الأعلى ضمن اقتراح الموازنة لعام 2025، إذ تبلغ حوالي 109.8 مليار شيكل (30 مليار دولار)، أي بزيادة تتجاوز 30 مليار شيكل (8 مليارات دولار) مقارنةً بالميزانية الأساسية للعام الماضي. وهناك احتمال كبير بأن تصاعد الحرب على قطاع غزة سيفرض الحاجة إلى ميزانيات إضافية، ما قد يؤدي إلى زيادة في العجز المالي المرتفع أصلاً. تُعتبر هذه أكبر ميزانية أمنية في تاريخ إسرائيل، وتمثّل العبء الأكبر على الاقتصاد الإسرائيلي في السنوات المقبلة. ووفقاً للإعلام الإسرائيلي، فإنها الميزانية الأمنية الـ13 من حيث الحجم على مستوى العالم مقارنةً بحجم السكان، وتُعدّ ميزانية الأمن الإسرائيلية من بين أعلى خمس ميزانيات في العالم.
عادت ميزانية الأمن للارتفاع عام 2023 بسبب الحرب على غزة وباقي الجبهات
بحسب الموازنة الإسرائيلية الجديدة، ستنفق إسرائيل نحو 6.5% من الناتج المحلي الإجمالي على الأمن في العام المقبل – وهي النسبة الأعلى بعد أوكرانيا في الدول الغربية. وفقاً لمعطيات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، استقرت خلال العقد الأخير، حصة ميزانية الأمن من الناتج المحلي الإجمالي في إسرائيل على 5%. وهي النسبة الأدنى منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، إلى أن عادت للارتفاع إلى 5.7% عام 2023 بسبب الحرب. وللمقارنة بعد حرب عام 1967 قفز الإنفاق الأمني بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 19.7%، وبعد حرب أكتوبر 1973 أصبح 28.7%. منذ ذلك الحين بدأت بالانخفاض تدريجياً وبشكل مستمر، بموازاة الارتفاع الكبير في حجم إجمالي الناتج المحلي.
تأتي ميزانية وزارة التربية والتعليم في المرتبة الثانية، وتحصل على حوالي 92 مليار شيكل (25 مليار دولار). وبعدها ميزانية وزارة الصحة التي تبلغ حوالي 59 مليار شيكل (165 مليار دولار). كذلك تشمل الموازنة الإسرائيلية مبلغ 56 مليار شيكل (15.5 مليار دولار) لدفع الفوائد على القروض والدين الخارجي، الذي ارتفع بشكل كبير في العامين الأخيرين، كما ارتفعت نسبة الفائدة بسبب تراجع تدريج الائتمان لإسرائيل. من المتوقع أيضاً، نتيجة الوضع الأمني واستئناف الحرب على غزة، أن يتم خلال العام الحالي، إدخال تعديلات على الموازنة، بما يشمل زيادة ميزانية الأمن ورفع الحجم الإجمالي للموازنة، كما حصل العام الماضي أيضاً.
أعباء على الإسرائيليين
تشمل الموازنة الإسرائيلية أعباء إضافية على الإسرائيليين، إذ تم تجميد التخفيضات في ضريبة الدخل، ورفع ضريبة القيمة المضافة بنسبة 1% لتصل إلى 18%، إلى جانب زيادة ضرائب التأمين الوطني. كما تم تجميد الأجور في القطاع العام، وفرض تقليصات في حقوق الموظفين. بالإضافة إلى ذلك، جرى تقليص في ميزانيات جميع الوزارات الحكومية بنحو 3.6 مليارات شيكل (1 مليار دولار)، ما يعني تراجعاً في مستوى الخدمات الحكومية في مختلف المجالات، بما فيها وزارات التعليم والصحة والرفاه الاجتماعي. على سبيل المثال، تم تقليص الدعم الحكومي لسلة الأدوية، وكذلك تخفيض الميزانيات المخصصة لإعادة الإعمار في مستوطنات الجنوب والشمال. لاقى اقتراح الموازنة انتقادات واسعة من قبل محللين وخبراء اقتصاديين يرون أنها لا تتضمن أي مقوّمات لتحفيز النمو الاقتصادي، ولا تبشّر بخروج إسرائيل من أزماتها الاقتصادية، التي بدأت مع طرح خطة الحكومة لتقييد القضاء، مطلع عام 2023، وازدادت سوءاً عقب أحداث السابع من أكتوبر 2023.
ما زاد الطين بلة، بحسب المنتقدين، هو تخصيص مبلغ 5.6 مليارات شيكل (1.5 مليار دولار) لما يُعرف بـ"ميزانيات التحالف"، وهي أموال تُمنح لأحزاب الائتلاف الحكومي دون قيد أو شرط، وتُعتبر بمثابة رشوة سياسية تُقدَّم لهذه الأحزاب بموجب اتفاقيات التحالف، بهدف ضمان دعمها لتمرير الموازنة. وقد حصلت الأحزاب الحريدية على الحصة الكبرى من هذه الميزانيات، كما تم تخصيص أموال لدعم الاستيطان وتعزيز الطابع اليهودي الديني للدولة. نجاح نتنياهو في تمرير أكبر موازنة في تاريخ إسرائيل، وإعادة ترتيب الائتلاف الحكومي، من شأنه أن يعزز مكانة نتنياهو ويدعم استقرار التحالف الحكومي، كما يمنح اليمين الإسرائيلي فرصة للاستمرار في محاولاته لحسم الملفات الداخلية والخارجية. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن هيمنة اليمين المتطرف قد ترسّخت بالكامل؛ فلا تزال هناك تحديات داخلية ومعارضة سياسية ومجتمعية قد تحول دون إتمام مشروعه بالشكل الذي يطمح إليه.
لا تزال معركة نتنياهو مع المؤسستين الأمنية والقضائية مفتوحة
لا تزال الموازنة الإسرائيلية الجديدة محاطة بشكوك جدية بشأن مدى ملاءمتها للواقع، وقدرتها على إخراج إسرائيل من أزمتها الاقتصادية. في المقابل، لا تزال معركة نتنياهو مع المؤسستين الأمنية والقضائية مفتوحة؛ إذ أصدرت المحكمة العليا أمراً احترازياً يجمّد إقالة رئيس "الشاباك" إلى حين صدور القرار النهائي خلال الأسابيع القليلة المقبلة. كما أن محاولة إقالة المستشارة القضائية للحكومة لن تمرّ بسهولة، ومن المتوقع أن تواجه تدخلاً قضائياً من المحكمة العليا. كما أن محاولات اليمين لحسم الملفات السياسية الداخلية قد تُفضي إلى تأجيج حركة احتجاج ومعارضة جدّية داخل المجتمع الإسرائيلي، خصوصاً في ظل تصاعد التوترات بين السلطات وتراجع الثقة بمؤسسات الحكم. كل ذلك يشير إلى أن إسرائيل قد تكون على أعتاب أزمة دستورية وسياسية عميقة وحقيقية، ليس فقط بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، بل أيضاً بين التحالف الحكومي وجزء واسع من الجمهور الإسرائيلي. ويبدو أن حسم مخططات اليمين، وكذلك مستقبل المنطقة، سيكونان رهينين لنتائج هذا الصراع الداخلي المتصاعد في إسرائيل.