استمع إلى الملخص
- تراجع النفوذ الفرنسي: شهدت فرنسا تراجعًا في نفوذها الدولي، خاصة في أفريقيا والشرق الأوسط، مع فشل بناء جيش أوروبي موحد واستمرار الاعتماد على الناتو، مما أثر على دورها في القضايا الأوروبية.
- استراتيجية التأثير عبر القانون: أطلقت فرنسا استراتيجية لتعزيز دورها الدولي عبر القانون كقوة ناعمة، لكن ماكرون يواجه تحديات داخلية وصعوبة في تسويق رؤيته لنهاية الحرب الأوكرانية، مما يبرز الفجوة في القوة العسكرية بين أوروبا والولايات المتحدة.
مَن لم يكن يشعر داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء بدرجة الخطر التي يشكلها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على ذلك المشروع الأوروبي المشترك، أتاه البرهان من ترامب نفسه الأربعاء الماضي عندما قال إن الاتحاد الأوروبي "تمّ تأسيسه للإضرار بالولايات المتحدة، كان هذا هو الهدف وقد نجحوا في ذلك". صحيح أن الرد الأوروبي جاء فورياً في بيان صادر عن المفوضية، وحرفيته أن الاتحاد كان نعمة للولايات المتحدة، بما أنه أكبر سوق للسلع الأميركية، إلا أنه يبقى رداً قاصراً عن مواجهة ما يعتبره كثيرون حقيقة مؤكدة، وهو أن النتائج النهائية التي سيفرزها الغزو الروسي لأوكرانيا قد تحدد مستقبل الاتحاد الأوروبي. لذلك ربما سارع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، رغم وصف العامين الأخيرين من ولايته الثانية، حتى 2027، بـ"البطة العرجاء"، نظراً لخسارة تياره الصدارة في الانتخابات التشريعية المبكرة التي أجريت العام الماضي، واستمرار صعود اليمين المتطرف، إلى محاولة الاستثمار بعلاقة "ودّية" جمعته بترامب خلال ولاية الأخير الأولى، لمحاولة التأثير على قرار واشنطن الذهاب في مفاوضات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول مستقبل أوكرانيا، قد تحمل الكثير من التنازلات.
تجنب اتفاق "استسلام" بين كييف وموسكو
والتقى ماكرون، الخميس الماضي، المستشار المقبل لألمانيا، المحافظ فريديريش ميرز، في الإليزيه، على أمل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من النفوذ الأوروبي، والاستثمارات الأوروبية في الحرب الأوكرانية، لتجنب اتفاق "استسلام" بين كييف وموسكو، وربما طمعاً أيضاً بحجز حصة أوروبية من كعكة الاتفاق. لكن "الضمانات الأمنية" التي تطالب بها فرنسا في أي صفقة، لحفظ ماء الوجه الأوروبية خصوصاً، يُنظر إليها في باريس على أنها لا تتعلق بأمن أوكرانيا فحسب، بل بأمن القارة في مواجهة التهديدات الروسية، حين ذهب ماكرون لحدّ طرح إمكانية إرسال جنود إلى أوكرانيا، بديلاً لغياب الدرع الأمني الأوروبي والجيش الأوروبي الذي لطالما نادى به. درع وجيش يظهر اليوم مدى الحاجة إليهما بالنسبة إلى أوروبا، بما أن تقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا هو مهمة الأوروبيين لا الأميركيين مثلما قال ترامب الأربعاء. هكذا تُعيد المفاوضات الأميركية الروسية تذكير الفرنسيين بتهميشهم المستمر، وبتراجع نفوذهم الذي لم يعد محصوراً بما وراء البحار، وهو نتاج تراكمي، لكن عودة ترامب للبيت الأبيض لن تسّهل بكل الأحوال استعادة الثقل.
تحولت رئاسة ماكرون إلى بطة عرجاء، ولم ينظر إليه دولياً رئيسا قويا
ويمكن الحديث بإسهاب، عن أسباب تراجع النفوذ الفرنسي حول العالم، خلال العقدين الماضيين، والذي أوصل إلى خسارة فرنسا نفوذها في حوالي 70% من مستعمراتها السابقة في أفريقيا، وذوبان السياسة الفرنسية في أفريقيا المعروفة اختصاراً بـ"فرانس أفريك"، التي ظلّت تخلط القوتين الناعمة والخشنة، لعقود، لإدارة العلاقة مع هذه المستعمرات بعد استقلالها. ويمكن أن نفهم إلى حدّ ما، أسباب تحول فرنسا إلى "لاعب متفرج" في الشرق الأوسط، رغم مشاركتها الفاعلة في الحرب على "داعش" خلال العقد الأخير، حين ازدحمت المنطقة باللاعبين المؤثرين، ولكن حيث تحتكر الولايات المتحدة مع وكيلتها إسرائيل مهمة "إعادة رسم الشرق الأوسط"، الذي تعزّز في الحرب الأخيرة وبسقوط نظام الأسد في سورية.
رغم ذلك، تبقى الأزمة الأوكرانية الأكثر أهمية بالنسبة إلى الفرنسيين، ويرى ماكرون، قبل عامين على مغادرته السلطة، أن ما ستفرزه هذه الحرب التي تضغط إدارة ترامب لإنهائها سريعاً، سيحدّد مستقبل الاتحاد الأوروبي، الذي لطالما نادى ماكرون باستقلاليته الأمنية، ودور فرنسا فيه. وترى باريس، اليوم، أكثر من أي وقت مضى، كيف أن الفشل في بناء جيش أوروبي موحد، وهو ما كان عنواناً أساسياً في أبرز خطب ماكرون، لاسيما في السوربون بشهر إبريل/نيسان 2024، أوصل إلى النتيجة الحتمية التي تتراءى اليوم، وهي تحقيق روسيا انتصاراً عسكرياً وسياسياً على الأوروبيين، باحتفاظها على الأرجح في أي نتائج للمفاوضات بالأراضي التي احتلتها في أوكرانيا، مع خطوط حمراء مثل عدم انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، أو للاتحاد الأوروبي، أو حتى القبول بقوات فرنسية وألمانية في أوكرانيا، كإحدى الضمانات الأمنية التي يقترحها الأوروبيون.
ويأتي فشل ماكرون طوال مدة ولايته الأولى ثم الثانية، في إقناع الأوروبيين، وخصوصاً ألمانيا، بوضع الأسس الصلبة لبناء جيش أوروبي موحد، وتحقيق الاستقلالية العسكرية عن الولايات المتحدة وحلف ناتو، ليكون أحد الأسباب التي تؤدي اليوم إلى فقدان فرنسا نفوذها وتأثيرها على مجريات الأحداث بالنسبة للمسألة الأوكرانية. ولا يعود ذلك فقط إلى الرفض الألماني القديم لبناء جيش أوروبي موحد، حيث إن ألمانيا تعدّ من الدول الأوروبية الأكثر إيماناً بأهمية "الدرع الأميركي والأطلسي" للحماية، بل لعدم القدرة على التمويل، في وقت تطالب واشنطن بزيادة الإنفاق الدفاعي لدول حلف شمال الأطلسي ومساهماتها المالية فيه.
روّجت باريس للنفوذ عبر القانون، للتعويض عن خسارة معركة بناء جيش أوروبي موحد
وللتعويض عن ذلك، روّجت فرنسا، في مارس/آذار 2023، عبر وزارة الشؤون الخارجية (وزارة أوروبا والشؤون الخارجية)، استراتيجية "التأثير عبر القانون"، والتي قالت إنها ستغطي السنوات الخمس المقبلة، موضحة أنه تمّت صياغتها مع وزارة العدل، وتهدف إلى "جعل القانون أولوية في سياسة فرنسا الخارجية، تناغماً مع خريطة طريق القوة الناعمة التي نشرتها الوزارة في ديسمبر/كانون الأول 2021. وشرحت الوزارة أن الاستراتيجية الجديدة تتناغم مع هدف ماكرون "إعادة تسليح الدبلوماسية الفرنسية لخدمة القيم الفرنسية والأوروبية، عبر القانون"، لمواجهة "المنافسة الاستراتيجية في كل المضامين، حيث يهتز أحياناً مفهوم النظام الدولي، ليبقى القانون أداة لحلّ الخلافات، وقوة ناعمة جديدة".
لكن ذلك كلّه، يبقى كلاماً من وجهة نظر متابعين "فارغاً من مضمونه"، ولا يعكس سوى ازدياد التراجع الفرنسي، الذي فاقمه عهد ماكرون، لاسيما خلال السنوات الماضية، مع دخول باريس مرحلة تقلب الحكومات، والتعايش النيابي من دون أغلبية حاسمة، وارتفاع نسبة التضخم والإنفاق، وعجز في الميزانية قد يصل هذا العام إلى 7%. إلى ذلك، يطرح صعود اليمين المتطرف في فرنسا (وأوروبا عموماً لاسيما مع حلوله ثانياً في انتخابات ألمانيا أخيراً)، تساؤلات حول قدرة البلاد على الصمود في وجه الموجة المعارضة للتحالف الأطلسي، وغير المعادية لروسيا. كما أن ماكرون نفسه تحوّل إلى "بطة عرجاء"، ولم ينظر إليه دولياً، نظراً إلى حجم الأزمات الداخلية التي واجهها، وتراجع شعبيته بشكل مطرد لدى الفرنسيين، على أنه رئيس قوي لدولة صاحبة نفوذ (ونووية)، لاسيما في ظلّ هيمنة إدارة ترامب.
فشل ماكرون أمام ترامب
ولكن فشل ماكرون أمام ترامب في تسويق رؤيته لنهاية الحرب الأوكرانية، كما تشتهيها باريس، ليس وليد الصدفة، لأن فرنسا ومعها ألمانيا، القاطرة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، لم تعد طرفاً أمنياً وعسكرياً وازناً في معادلة الردع في أوروبا نفسها، إذ يملك ترامب زمام القرار من نافذة الـ70% من الإنفاق الأميركي على حلف ناتو، إلى حدّ الآن، وتغطي أميركا النسبة الكبرى من قوة الحلف الجوية، وبالتالي سماء أوروبا، كما يسيطر ترامب على العمليات البحرية من خلال الأسطول السادس في البحر الأبيض المتوسط، فيما لأوروبا كلّها حاملة طائرات واحدة هي شارل ديغول، ما يعكس الفجوة الواسعة في الاستحواذ على القرار، من دون إغفال أن فرنسا عادت إلى القيادة العسكرية الموحدة للحلف فقط في عام 2009، بعد أن أمر الجنرال شارل ديغول بالخروج منه في عام 1966، متمرداً آنذاك على الهيمنة الأميركية. وما يحبط ماكرون أكثر، هو رجحان كفة الأطلسيين داخل الاتحاد، خصوصاً في شرق أوروبا، لاسيما بولندا، حيث يفضلون البقاء تحت المظلة النووية الأميركية، من دون المخاطرة ببناء هيكل دفاعي أوروبي، فضلاً عن فشل ماكرون في التسويق أيضاً للسوق الدفاعية المشتركة، مع صعوبة صنع القرار داخل الاتحاد (27 دولة)، حيث أصبح لليمين المتطرف صوت واضح، يجعل أن لا مفر أمام أوروبا سوى الانصياع لترامب.