استمع إلى الملخص
- تصريحات ترامب حول غزة أثارت ردود فعل سلبية عالمياً، حيث اعتبرت اقتلاعاً غير مقبول لشعب من أرضه، مما أضر بمصداقية الولايات المتحدة في حقوق الإنسان.
- محاولات ترامب لتغيير بنية الإدارة الأمريكية بمساعدة إيلون ماسك أثارت احتجاجات ومعارضة قانونية، مما يعمق الأزمة الداخلية ويعقد الوضع الخارجي.
تمرّ واشنطن الآن بوضع مضطرب ونادر لناحية انفلات القرار، والتباس المرجعية في المجالين الداخلي والخارجي. في الأول، أدى إصرار الرئيس دونالد ترامب على اعتماد طريقة خاصة وغير مسبوقة لتقليص جهاز الحكومة الفيدرالية (حوالي مليوني موظف مدني) إلى حرب إدارية - قانونية - دستورية قد تؤدي إلى تغيير وجه أميركا لو بلغت نهاياتها الترامبية المرسومة. في الثاني، ما زالت قنبلة غزة التي فجّرها الرئيس ترامب قبل يومين بشأن غزة تتفاعل بمزيج من علامات التعجّب ومحاولات الاحتواء التي فشلت في إزالة آثارها السلبية على مصداقية أميركا إزاء حقوق الانسان ومبادئ السيادة والقانون الدولي. وجاء التزامن بينهما ليخلق مشهدية من الفوضى العارمة، التي أدخلت أميركا في أزمة مفتوحة على المزيد من التفاقم المحكوم بتوليد تداعيات ومضاعفات بنيوية واستراتيجية في الساحتين.
مشروع ترامب في غزة ما زال حديث الساعة في واشنطن من زاوية اعتباره عملية اقتلاع مستغربة وغير مقبولة لشعب من أرضه. تلاقى في ذلك الليبرالي مع المحافظ ،والجمهوري عموماً، مع الديمقراطي، سياسياً وإعلامياً ورأياً عاماً. وزاد من الغرابة إعلان الرئيس ترامب عن نيته احتلال القطاع. طرحه أثار ردود فعل كاسحة، خاصة تلميحه بالاستعانة بالقوة العسكرية لفرض ملكية أميركا للقطاع. لتنفيس الموجة المتعاظمة قبل أن تنعكس سلباً على الرئيس في الاستطلاعات، سارعت الإدارة إلى سحب الفتيل من كلامه عبر تقديمه بصياغة تضمر تراجعه عنه.
الناطقة الرسمية في البيت الأبيض كارولين ليويت زعمت أن الرئيس قصد أن تكون عملية ترحيل سكان غزة "مؤقتة"، ولغاية الانتهاء من إعادة اعمار القطاع. وزير الخارجية ماركو روبيو الذي يقوم بجولة في أميركا الجنوبية، والذي يبدو أنه كان آخر من عرف بالمشروع (وتردد أن مسؤولين في البيت الأبيض فوجئوا أيضاً)، سارع هو الآخر إلى تكرار المعزوفة نفسها بأن المقصود من تفريغ القطاع كان إفساح المجال لإزالة الركام للشروع في البناء، "وليس لادعاء ملكية الأرض بصورة دائمة". كذلك، انضم المبعوث الخاص ستيف ويتكوف إلى الفريق "الإطفائي" من خلال قيامه "بتطمين" أركان مجلس الشيوخ بأن الرئيس لا ينوي الاستعانة بالقوة العسكرية في غزة، ولا الالتزام بأي كلفة مالية في المشروع. لكن كل هذه المحاولات الواهية بكل حال نسفها ترامب أمس الخميس، حين أكّد من جديد مقولته ومشروعه بشأن غزة، رغم التحذيرات بأن المضي فيه يشكل "خرقاً فاضحاً للقانون الدولي"، وأن تهجير المدنيين بهذا الشكل "جريمة حرب" حسب بعض الردود.
هو يرفع السقف عالياً للإرباك، وشراء الوقت، واستدرار التنازلات في قضية المحتجزين الإسرائيليين. لكن في معظم القراءات، هو رمى هذه القنبلة ليقتل فكرة الدولتين استجابة لمطلب رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو. التفسير الأخطر وغير المستبعد أن فكرة الترحيل في غزة قد تكون بمثابة التجربة أو "البروفة" لمشروع تهجير لاحق في الضفة الغربية، التي تشهد بعض مدنها ومخيماتها عمليات تدمير للمباني السكنية كالتي جرت في القطاع، والتي اتخذت ذريعة لمشروع تفريغه. وعودة الرئيس ترامب لتأكيد ما طرحه، بالإضافة إلى الارتياح الكبير الذي أبداه نتنياهو خلال زيارته التي ختمها الخميس بلقاءات مع قيادات الكونغرس، تحمل على أخذ المسالة على محمل الجدّ، بقدر ما يتعلق الأمر بالرئيس ترامب الذي تراجع ولو بصورة ملتوية في مواجهات خارجية أخرى، كالتي كادت أن تقع مع كندا، والمكسيك، وبنما، لأسباب تجارية وسيادية، بعد أن رد هؤلاء على التحدي بالمثل.
ربما كان تراجعه هذا مرتبط بالمواجهة التي يخوضها مع خصومه في الداخل، والتي تدور حول التغيير الكاسر الذي يسعى إليه، بل يصرّ عليه، في بنية الادارة وآلياتها البيروقراطية. وزاد من التحدي أنه استعان للنهوض بهذه المهمة بالملياردير إيلون ماسك الذي أمعن في القصقصة والتسريح من الوظائف، مع التلويح بإلغاء بعض الوكالات والوزارات، بدعوى خفض النفقات الإدارية. الاعتقاد الراجح أن الحملة أبعد من عصر النفقات التي يجرى التلطي وراءها، لاستبدال قسم من المسرّحين بغيرهم من الموالين، كما لتمرير إجراءات وتعديلات تؤدي في نهاية المطاف إلى تعزيز سلطات الرئيس على حساب مبدأ المراقبة وتوازن السلطات الثلاث، خاصة مراقبة السلطة التنفيذية التي يترأسها البيت الأبيض. وقد أثارت العملية ضجة واسعة وتظاهرات شارك فيها ديمقراطيون من الكونغرس، وحملت القضاء على وقف بعض الإجراءات مؤقتاً. ومن المتوقع أن تتسع التحركات مع توسع التغييرات التي رهن ترامب رئاسته بتحقيقها، وبما يهدد بتعمق الأزمة، وغرق إدارته في متاعبها، وبما يؤدي إلى المزيد من "ترك الحبل على غاربه" لنتنياهو في غزة والضفة، التي وعد ترامب بالكشف قريباً عن موقف جديد إزاءها. ولا يُستبعد أن ينطوي على مفاجأة أخرى غير بعيدة عن مفاجأة غزة، ولو ليس من عيارها.