تدريس الحروب الصليبية: أهمية تغيير مركز النظرة

تدريس الحروب الصليبية: أهمية تغيير مركز النظرة

04 يناير 2022
سعى الغربيون لإعادة بناء الإمبراطورية الرومانية أو المطالبة بإرثها (الأناضول)
+ الخط -

تشكل الحروب الصليبية، من فيلم مملكة السماء (ريدلي سكوت، 2005)، إلى لعبة الفيديو "أساسنز كريد" (عقيدة الاغتيالي - يوبي سوفت، 2007)، مصدر إلهام متكرر لمنتجات ثقافية مختلفة، إلى أن أصبحت هذه الظاهرة التاريخية تبدو لنا معروفة جداً، أو على الأقل مألوفة. 

غير أنه يمكن إعادة مساءلة تصوراتنا المشتركة، المتأثرة جداً بالاستشراق، من خلال البحث الجامعي، وفي المقام الأول من خلال العمل الأخير لغابرييل مارتينيز- غروس.

يقوم الأستاذ الفخري للتاريخ في جامعة نانتير (باريس) في أحدث أعماله، المعنون "على الجانب الآخر من الحروب الصليبية"، بإعادة النظر إلى حد كبير في رؤيتنا التقليدية للحملات الصليبية، معتمداً في ذلك على مؤرخين عربيين كبيرين (1)، ومتيحاً خروجاً حقيقياً من النظرة الممركزة (2). 

النظرة التقليدية للحملة الصليبية في الغرب  

تقليدياً، يتم تعريف الحملة الصليبية، على حدّ قول المؤرخ ميشيل بالارد، على أنها "حج مسلح، هدفه /تحرير القبر المقدس/ (كنيسة القيامة) في القدس". تمنح الحملة الصليبية، التي أُطلقت بناءً على مرسوم بابوي، لأولئك الذين يذهبون للقتال من أجل المسيح، امتيازات عدة (مثل تعليق الديون)، ولكنها تمنح بشكل خاص غفران الخطايا التي ارتكبت سابقاً.

مصطلح "الحملة الصليبية"، والنهج الذي يركز على الأرض المقدسة، يميلان إلى إخفاء تنوع الظاهرة

يمتد مشروع "تخليص" القدس هذا بصفة شاملة من نهاية القرن الحادي عشر (مع نداء مجلس كليرمون للبابا أوربان الثاني عام 1095، والذي أطلق الحملة الصليبية الأولى) إلى القرن الرابع عشر (عندما بدأ التخلي تدريجياً عن فكرة إعادة احتلال الدول الصليبية للشرق، التي فُقدت في عام 1291). ومع ذلك، لم يظهر مصطلح "الحملة الصليبية" في الغرب، إلا في منتصف القرن الثالث عشر، ليحل محل التعبيرات السابقة مثل "الطريق"، "رحلة القدس"، "الرحلة الاستكشافية"، أو حتى "العبور إلى ما وراء البحر". 

تنوع الحملات الصليبية 

غير أن مصطلح "الحملة الصليبية" هذا، وكذلك النهج الذي يركز على الأرض المقدسة، يميلان إلى إخفاء تنوع الظاهرة. فبغض النظر عن القدس، فإن الحملات الصليبية استهدفت أراضي أخرى كثيرة. يمكن التفكير مثلاً في مناطق أخرى كان يسيطر عليها المسلمون (مثل إسبانيا أو صقلية)، ولكن أيضاً في الأقاليم "الوثنية" في أوروبا الشرقية (مثل بروسيا، وهي مجال غزو الفرسان التوتونيين منذ نهاية القرن الثاني عشر).

وقد يحدث حتى أن تدور حروب صليبية في قلب الغرب المسيحي تستهدف الهراطقة (أي المسيحيين الذين لا يحترمون المذاهب الرسمية لكنيسة روما): ذلك هو الحال مثلاً في الحملة الصليبية ضد الألبيجنس في جنوب فرنسا بين 1209 و1229.

حروب دينية أم إمبراطورية؟ 

فضلاً عن ذلك، ففي حين تُفهم الحملة الصليبية في الغرب على أنها حرب مقدسة تم إطلاقها من قبل البابوية، فإن هذا البعد الديني غير مقر به حقاً لدى العرب. وهكذا يرى الخليفة في بغداد أن الصليبيين مجرد مرتزقة في خدمة الإمبراطور البيزنطي أليكسي الأول كومنينوس (1081-1118)، أو السلالة الفاطمية الشيعية الحاكمة في مصر.

وعندما ذكر المؤرخ ابن الأثير انطلاق الحملة الصليبية الأولى، أشار إلى أن ذلك أمر غير عقلاني. فهو يعتبر غزو الأراضي المقدسة بمثابة عمل عبثي كون شمال أفريقيا توفر للغربيين فرصاً مربحة أكثر بكثير (وكانت للقدس آنذاك قيمة رمزية أكبر في الغرب مما كانت عليه في العالم الإسلامي). ولم يأت على ذكر البابا أوربان الثاني في سرده. 

باستخدام مصادره، يقترح غابرييل مارتينيز غروس تفسيراً آخر لأهداف الحملة الصليبية. فإذا كان واضحاً أنه ليس أول من أظهر أن إعادة غزو القدس ليست هي الهدف الوحيد للحملات الصليبية، فإنه يرى على الخصوص أن البعد الديني أقل أهمية في الواقع من "الذاكرة الإمبراطورية" للبابوية.

هكذا يسعى الغربيون قبل كل شيء إلى إعادة بناء الإمبراطورية الرومانية، وإعادة تشكيل /ماري نوستروم (مصطلح روماني للبحر الأبيض المتوسط) - بحرنا/ (أي الهيمنة الرومانية على البحر الأبيض المتوسط). هكذا يفهم العرب المسألة، ويربطون الحملات الاستكشافية إلى سورية وصقلية وشبه الجزيرة الأيبيرية بعضها ببعض.

يسمح لنا هذا المنظور الإمبراطوري أيضاً أن نفهم بشكل أفضل الأهمية المركزية للقسطنطينية (التي كان يسيطر عليها الفرنجة من 1204 إلى 1261)، بالنسبة للصليبيين: فبعيداً عن أن يكون مجرد "انحراف" أو حادثاً بسيطاً للحملة الصليبية الرابعة، فإن الاستيلاء على القسطنطينية يُفسّر بالتنافس القائم بين البيزنطيين والفرنجة في المطالبة بميراث الإمبراطورية الرومانية. 

تهديد ثانوي جداً بالنسبة للعرب 

وإذا كانت الحروب الصليبية تحتل مكانة مركزية في تاريخنا بالنسبة للعصور الوسطى، فإن كتاب "الجانب الآخر من الحروب الصليبية" يسمح لنا (نحن الغربيين) بالتقليل نوعاً ما من أهميتنا. ففي القرن الحادي عشر، عندما نزل الصليبيون الأوائل إلى الشرق الأوسط، كان الصراع الكبير بين الشيعة والسنة هو الذي يشغل المسلمين قبل كل شيء.

البعد الديني للحملة غير مقر به حقاً لدى العرب

بالنسبة لابن خلدون، فإن الفرنجة ليسوا إلا قوة من بين قوى أخرى (البربر، الأتراك، المغول)، كانت تسعى إلى الاستفادة من ضعف الإمبراطورية الإسلامية لتوسيع أراضيها والاستيلاء على موارد جديدة؛ فالخسائر البشرية التي تسبب بها الصليبيون هي في المجموع محدودة نسبياً.

في المجلد الخامس من كتابه الكبير، كتاب العبر (ابن خلدون)، لا تحتل الحروب الصليبية إلا حيّزاً صغيراً جداً (29 صفحة من مجموع 563 صفحة).

فالتهديد الكبير الذي يثقل كاهل الإمبراطورية الإسلامية كان يأتي في الواقع من الشرق ويتجسد في المغول: بعدما قضوا على سلالة العباسيين الحاكمة وأبادوا سكان بغداد في 1258، ثم حلب في 1260، دفعوا بالإسلام إلى أطراف إمبراطوريتهم الجديدة التي كانت تشكل بكين مركزها.  

في نهاية المطاف لم تؤثر الحروب الصليبية في الأرض المقدسة سوى على سورية ومصر، بينما تجاهلتها كلياً كل من إيران والعراق، وهي قلب السلطة الإسلامية. 

يُنشر بالتزامن مع "أوريان 21"
https://orientxxi.info/ar

 

(1) ابن الأثير (1160-1223)، الذي عاصر بشكل خاص الحملة الصليبية الثالثة (1189-1192)، وقضى معظم حياته في الموصل، وابن خلدون (1332-1406)، وهو مؤلف متأخر بعدما عمل كناصح للعديد من الأمراء المسلمين والذي لا تزال كتاباته مشهورة إلى اليوم.

(2) decentration في الفرنسية، وهي تعني القدرة على تبني وجهات نظر أخرى غير نظرتنا الخاصة. بمعنى آخر، هي ظاهرة معرفية تسمح لشخص ما أن يضع نفسه في مكان شخص آخر في محاولة لفهم وجهة نظره.