"تحالف الراغبين" في باريس: اختبار لسياسات واشنطن إزاء روسيا وأوكرانيا
استمع إلى الملخص
- تثير مواقف الولايات المتحدة المتقلبة تجاه الحرب في أوكرانيا حيرة القادة الأوروبيين، حيث يطالبون بمشاركة أميركية واضحة، بينما تميل إدارة ترامب إلى تحميل أوروبا الجزء الأكبر من العبء.
- تعتمد الضمانات الأمنية على تعزيز القدرات الدفاعية الأوكرانية، وتواجه تحديات مثل غياب التنسيق مع الولايات المتحدة والتوترات السياسية الداخلية، مما يجعل اجتماع "تحالف الراغبين" فرصة حاسمة لتوحيد الجهود الدولية.
تحتضن العاصمة الفرنسية باريس، اليوم الخميس، اجتماعاً هاماً لدول "تحالف الراغبين"، وهي مجموعة تضم حوالي 35 دولة من مختلف أنحاء العالم، معظمها أوروبية، تهدف إلى تقديم ضمانات أمنية ملموسة لأوكرانيا في حال التوصل إلى اتفاق سلام أو وقف لإطلاق النار مع روسيا. يمثل هذا الاجتماع محطة محورية في مسار الحرب المستمرة في أوكرانيا منذ فبراير/شباط 2022، إذ يهدف إلى بناء آليات دولية لدعم كييف وضمان أمنها في مرحلة ما بعد النزاع.
ويأتي اجتماع باريس بعد لقاء جمع قادة دول الشمال ودول البلطيق في كوبنهاغن، بمشاركة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، حيث أكد المجتمعون على استمرار الدعم العسكري والسياسي لأوكرانيا، وتعهدوا بمواصلة الوقوف إلى جانبها في مواجهة العدوان الروسي. لكن رغم هذه العزيمة الأوروبية، تظل التساؤلات قائمة حول مدى مشاركة الولايات المتحدة في هذا الإطار، خاصةً بعد الغياب الملحوظ لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن الاجتماع، ما يطرح علامات استفهام حول مدى جدية التزام واشنطن تجاه ضمانات الأمن الملموسة لأوكرانيا.
أهمية اجتماع "تحالف الراغبين"
يشكل اجتماع تحالف الراغبين اختباراً حقيقياً لما إذا كانت القوى الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة، قادرة على تجاوز خلافاتها الداخلية والسياسية من أجل دعم أوكرانيا بطريقة فعالة. فالتحالف يسعى إلى إنشاء نظام ضمانات أمنية يكون بمثابة "تأمين على الحياة" لأوكرانيا، بحيث تلتزم الدول الأعضاء بالتدخل السريع في حال تعرضت كييف لأي هجوم روسي جديد بعد توقيع اتفاق سلام أو وقف إطلاق النار. وأكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن الخطة الأوروبية جاهزة وتمت مناقشتها بشكل مكثف، وأنها تضمن سلاماً قوياً ودائماً لأوكرانيا ولأوروبا بأسرها، وأشار إلى أن أوروبا مستعدة لتحمل الجزء الأكبر من أعباء هذه الضمانات، لكنه شدد على ضرورة وضوح دور الولايات المتحدة في هذه الخطة، وخاصة أن واشنطن تلعب دوراً حيوياً في الميزان الاستراتيجي للمنطقة.
موقف الولايات المتحدة والاختلافات مع أوروبا
لا تزال الولايات المتحدة تتخذ مواقف متقلبة تجاه الحرب في أوكرانيا، ما يثير حيرة القادة الأوروبيين الذين يطالبون بمشاركة أميركية واضحة ومحددة في دعم أوكرانيا، إذ على الرغم من إعلان الرئيس ترامب قبل أسابيع قليلة استعداده للمساعدة في ضمان أمن أوكرانيا بعد اتفاق سلام، فإن تفاصيل هذا الدعم لا تزال غير واضحة، ولا تزال واشنطن تتردد في الالتزام بمسؤوليات مباشرة على الأرض.
وتعود جذور هذه التباينات إلى عدة عوامل:
- الالتزامات العسكرية: يرغب الأوروبيون في ضمانات أمنية تشمل مشاركة عسكرية واضحة من جانب الولايات المتحدة، بينما تميل إدارة ترامب إلى تحميل أوروبا الجزء الأكبر من العبء، مع تحفظات على التدخل المباشر.
- الاستراتيجية الدبلوماسية: الأوروبيون يميلون إلى إتباع مسار دبلوماسي متوازن يهدف إلى تحقيق سلام مستدام مع روسيا، في حين تبقى الولايات المتحدة متقلبة في مواقفها، أحياناً تتخذ مواقف متشددة وأحياناً تتراجع عنها، كما يقرأ الأوروبيون.
- التمويل وتقاسم الأعباء: هناك خلاف واضح حول من يتحمل تكاليف دعم أوكرانيا، حيث تضغط واشنطن على زيادة الإنفاق الأوروبي على الدفاع، بينما يطالب الأوروبيون بدعم مالي وعسكري أميركي أكبر.
- الرؤية المستقبلية: يسعى الأوروبيون إلى حل متوازن يحترم مصالح جميع الأطراف المعنية، بينما تختلف مواقف الأميركيين بحسب حساباتهم السياسية الداخلية والخارجية.
وتلقي هذه الخلافات بظلالها على عملية صنع القرار، وقد تؤثر على سرعة وفعالية الدعم المقدم لأوكرانيا في المستقبل القريب.
الضمانات الأمنية وأركانها
تقوم الضمانات الأمنية التي تناقشها دول تحالف الراغبين على ثلاثة أركان رئيسية:
1- تعزيز القدرات الدفاعية الأوكرانية: يشمل ذلك توفير التمويل اللازم، الأسلحة الحديثة، المعدات، التدريب، ودعم صناعة الدفاع المحلية في أوكرانيا، بهدف تمكين الجيش الأوكراني من صد أي هجمات جديدة من الجانب الروسي.
2- تعهدات بالتدخل السريع: في حال خرق أي طرف اتفاق وقف إطلاق النار أو السلام، تتعهد الدول الأعضاء في التحالف بالتدخل الفوري بالقوة الردعية (Reassurance Force) لمنع تصعيد الأوضاع أو هجمات عسكرية.
3- التزام قانوني ملزم: يشدد الرئيس الأوكراني زيلينسكي على ضرورة أن تكون هذه الضمانات ملزمة قانونياً وليس مجرد وعود شكلية، لكي تتمكن أوكرانيا من الاعتماد عليها بثقة.
التحديات والآفاق المستقبلية
رغم وجود هذه الخطط الطموحة، تواجه الضمانات الأمنية العديد من التحديات، أهمها:
- غياب التنسيق الواضح مع الولايات المتحدة: والذي يثير شكوكاً حول مدى قدرة التحالف على تنفيذ هذه الضمانات على أرض الواقع.
- التوترات السياسية الداخلية في الدول المشاركة والتي قد تؤثر على سرعة اتخاذ القرارات والتزام الدول بتقديم الدعم الكامل، بل من الممكن أن تتأثر الخطط بتبدل الحكومات الأوروبية ووصول قوى يمين متشدد وأحزاب متشككة بمواصلة الانخراط في جهود دعم أوكرانيا.
- تعقيدات التفاوض مع روسيا والتي لا تزال تحتفظ بمواقف متصلبة، وقد ترفض أي اتفاق لا يحقق أهدافها الاستراتيجية.
- الضغط المستمر على أوكرانيا، خاصة في ظل استمرار العمليات العسكرية، والتقدم الروسي البطيء على الأرض، مع تزايد النقص في عديد الجيش الأوكراني وتهرب كثيرين من الانخراط فيه، واستمرار التدهور الإنساني في مناطق النزاع.
عموما، في ظل تصاعد التوترات في أوكرانيا، يشكل اجتماع "تحالف الراغبين" في باريس فرصة حاسمة لتوحيد الجهود الدولية ودعم السلام والأمن في المنطقة، لكن نجاح هذه المبادرة يعتمد بشكل كبير على قدرة الدول الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة، على تقديم التزامات واضحة وملزمة، كما يعتمد على مدى استعداد المجتمع الدولي للعمل المشترك والفعلي للحفاظ على وحدة الأراضي الأوكرانية وتأمين مستقبل آمن لشعبها.
ويبقى السؤال المحوري: هل ستنجح القوى الغربية في تحويل هذه الخطط إلى واقع ملموس، أم ستظل الخلافات الداخلية والضغوط السياسية عقبة أمام دعم أوكرانيا بشكل فعال؟ الأيام المقبلة ستجيب عن هذا السؤال، مع توقعات متزايدة بأن تكون أوروبا، بقيادة فرنسا، على رأس جهود بناء السلام والاستقرار في قلب هذه الأزمة التي تمس مكانة أوروبا ومصالحها وعلاقاتها بالحليف الأميركي.