تجويع غزة "يطوق" إسرائيل دون أن يثنيها عن مواصلة الإبادة
استمع إلى الملخص
- الإعلام الإسرائيلي، الذي تجاهل الجرائم سابقًا، اضطر للتعامل مع الموضوع بعد تصدره العناوين العالمية، وتحاول إسرائيل تحميل حماس والأمم المتحدة مسؤولية الوضع، مع اعتراف بعض الجهات بصعوبة الوضع الإنساني.
- الأمم المتحدة تتهم إسرائيل بعرقلة المساعدات رغم مزاعم فتح معابر إضافية، وتتعرض لانتقادات دولية متزايدة، مما أدى إلى توترات داخلية حول كيفية التعامل مع الأزمة.
طالما حاولت السردية الإسرائيلية الادعاء بأنه "لا جوع في غزة"
زعم بيان لجيش الاحتلال اليوم أن إسرائيل لا تقيد دخول المساعدات
الضغط العالمي دفع الاحتلال لتسهيل مرور المساعدات إلى قطاع غزة
تحاول دولة الاحتلال الإسرائيلي، تكذيب كل العالم بشأن تجويعها الفلسطينيين في قطاع غزة بزعم أنها لا تمنع دخول المساعدات الإنسانية، رغم سعيها المستمر للسيطرة عليها والتحكّم فيها، وتمسّكها بتوزيعها عبر بما يُسمى "مؤسسة غزة الإنسانية" الأميركية – الإسرائيلية، التي ترتبط بعلاقات مباشرة بالاحتلال. بالمقابل، فإن مشاهد الموت جوعاً من غزة، والتي باتت منتشرة حول العام، تشكّل بعض الضغط على إسرائيل، والتي لطالما حرصت على تسويقّ وجهها "المتحضّر" للعالم، لكن الكثيرين حوله باتوا اليوم يشبّهون ما تفعله بسكان غزة، بأفعال النازية، ما دفعها للإعلان عن إجراءات لتسهيل إدخال المساعدات، في محاولة لإسكات العالم ولو إلى حين، على غرار مرات سابقة منعت أو حدّت فيها من إدخال المساعدات وعمّقت الإبادة وتفاقم الأوضاع.
وطوال الفترة الماضية، تجاهل الإعلام الإسرائيلي بدوره، والمتماهي في معظمه مع المؤسسة الرسمية، بشأن غزة، الجرائم الحاصلة في القطاع، ليجد نفسه في الأيام الأخيرة، مضطراً للتعامل مع الموضوع، الذي تصدر العناوين في وسائل إعلام عالمية، حمّلت المسؤولية لإسرائيل، فضلاً عن مواقف مشابهة من قادة دول ومؤسسات دولية. مع هذا يبقى الهم الأكبر في دولة الاحتلال، ليس الانشغال بالتجويع وتبعاته، وموت الأطفال والأبرياء جراء ذلك، بل كيفية تسويق سردية تحمّل حركة حماس وحتى الأمم المتحدة مسؤولية الحاصل، وتبرّئها من الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، مع إصرارها على أنه "لا جوع في غزة".
ونقلت وسائل إعلام عبرية اليوم الجمعة، عن مسؤولين أمنيين كبار في الجيش الإسرائيلي ومكتب منسق أعمال حكومة الاحتلال في المناطق المحتلة، اعترافهم بأن الوضع الإنساني في غزة صعب، لكنهم أرجعوا ذلك إلى "الاكتظاظ وظروف النظافة"، مؤكدين تمسّكهم بالموقف القائل إنه لا "يوجد جوع في القطاع". ومع ذلك، أفادوا بأن إسرائيل تستعد لإدخال المزيد من المساعدات إلى القطاع، بما في ذلك استئناف عمليات الإنزال الجوي. كما زعم مسؤولون كبار في المؤسسة الأمنية أمس الخميس، أن المستوى السياسي أمر بـ"تسريع كبير" في إدخال المساعدات إلى غزة، مع تقليل الاعتبارات المتعلقة بإجراءات الحذر التي تهدف إلى منع وصول المساعدات إلى حماس.
وفي السياق زعم بيان لجيش الاحتلال اليوم، أن إسرائيل "لا تفرض قيوداً على عدد الشاحنات التي تدخل إلى قطاع غزة، لكن المشكلة تكمن في استلام المساعدات، وهو ما يعيق إيصالها المستمر إلى داخل غزة". مضى الجيش في مزاعمه بأنه "على الرغم من الادعاءات بشأن فرض إسرائيل قيوداً على دخول المساعدات الإنسانية، فقد نشرت وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، اليوم، مشاهد موسعة تُظهر مئات الشاحنات المحملة بالمساعدات وهي متوقفة على الجانب الفلسطيني من معبر كرم أبو سالم. وتعود هذه الشاحنات إلى منظمات إغاثية دولية ووكالات تابعة للأمم المتحدة، ومعظمها يحتوي على مواد غذائية، وقد تراكمت خلال الأشهر الماضية في الجانب الغزي من المعبر بانتظار أن تقوم تلك الجهات باستلامها وتوزيعها بعد خضوعها للفحص الأمني"
وليست مزاعم جيش الاحتلال هذه، بأن إسرائيل لا تمنع المساعدات، بمعزل عن تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلية، جدعون ساعر، الذي حمّل في مقابلة مع "بوليتكو" مسؤولية فشل توزيع المساعدات للأمم المتحدة، وهو ما رفضته الأخيرة. وزعم ساعر أن إسرائيل فتحت معابر إضافية وتسمح بتدفق الشاحنات، لكن الأمم المتحدة
لا توزع محتوياتها، وأن "هناك أكثر من 900 شاحنة تنتظر داخل قطاع غزة". وردّ عليه المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، قائلاً إن إسرائيل هي التي تمنع التوزيع فعلياً: "كرم أبو سالم ليس درايف - إن (في إشارة إلى مسار سريع) مثل ماكدونالدز. هناك عوائق بيروقراطية وأمنية هائلة. لا نملك إمكانية الوصول، ولا يوجد تعاون، ولا توجد رغبة (من قبل إسرائيل) في السماح لنا بأداء عملنا". لكن ساعر رفض بشدة هذه الاتهامات، زاعماً أن "هذه أكاذيب. الأمم المتحدة لا تعمل بدافع حقيقي لمساعدة سكان غزة، بل تسعى إلى نزع الشرعية عن إسرائيل".سقوط حر لسردية إسرائيل
مهما حاول ساعر وغيره تكذيب العالم تسقط سردية الاحتلال ومزاعمه سقوطاً حراً مع كل مشهد قادم من غزة. كما يعزز إسقاطها، التصريحات المتواترة من قبل مسؤولين بينهم وزراء، يتباهون في هذه الفترة أيضاً، في ذروة أزمة التجويع، بمنع المساعدات، وبأن "غزة تُمحى" على غرار تصريحات وزير التراث عميحاي إلياهو أمس، أو حتى تصريحات لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في الآونة الأخيرة بأنه يدعم تهجير سكان القطاع، بحجة "الإجلاء بسب صعوبة الوضع" أو حديث وزراء عن الاستيطان في غزة وطرح مخططات لذلك، وحتى مناقشتها في الكنيست كما حدث هذا الأسبوع.
واعتبرت صحيفة يديعوت أحرونوت، الحديث الإسرائيلي عن "التسريع الكبير" في إدخال المساعدات، يعني "تنازل الحكومة، تحت الضغط الدولي، عن سياستها التي كانت أصلاً سبباً في اندلاع الأزمة (التجويع)، وذلك فقط بعد أن دفعت إسرائيل أثماناً سياسية باهظة نتيجة لذلك".
اتهامات بين المستوى السياسي والعسكري
يرى الصحافي والكاتب في الصحيفة ذاتها، بن درور يميني، أن "كل يوم بدون وقف لإطلاق النار يقرّب إسرائيل من الخط الأحمر للمقاطعة الدولية". وأن "كل تقرير عن عشرات الفلسطينيين الذين قُتلوا أثناء انتظارهم لتوزيع الطعام، يجعل إسرائيل أكثر عزلة... وكل تصريح إضافي من أحد أعضاء الكابنيت يخدم حملة المقاطعة (BDS) الادعاءات حول التجويع تتصدر وسائل الإعلام العالمية في الأسابيع الأخيرة، وتنضم إلى الاتهامات بالإبادة الجماعية".
وكتب زميله نداف إيال، أنه في يوم الأربعاء، "أدرك المستوى السياسي خطورة الوضع، بعد أن بثت وسائل الإعلام العالمية صوراً لأشخاص يموتون جوعاً في غزة. رُضّع عظامهم بارزة من تحت الجلد. الاتصالات مع الجيش الإسرائيلي ووزارة الأمن أصبحت مكثفة. أحد المصادر وصفها بأنها هستيرية". وتابع بأن ممثلي الحكومة قالوا للضباط: "أدخلوا كل شيء، كل شيء، بلا قيود. شاحنات بلا حدود. أزيلوا الحواجز. الخطة التي تمنع وصول المساعدات إلى حماس؟ لا تهمنا الآن".
وأوضح أنه حتى الأسبوع الماضي، وبّخ المسؤولون في المستوى السياسي وشوّهوا سمعة مسؤولي منسق أعمال الحكومة في المناطق المحتلة، بزعم أن المساعدات تصل إلى حماس، والآن، أي بعد الإدانة الدولية، يضغطون عليهم لإدخال مساعدات أكبر. واعتبر الكاتب أن "الخطيئة الأصلية كانت قرار وقف جميع المساعدات إلى قطاع غزة في شهر مارس (آذار) الماضي، والاستمرار بذلك حتى مايو (أيار). الحكومة تباهت بهذا القرار". وكتب وزير المالية يتسلئيل سموتريتش في حينه، على منصة إكس أنه "خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح. عتبة أبواب الجحيم".
من جهته، كتب المحلل العسكري في صحيفة هآرتس، عاموس هارئيل، اليوم، أن "إسرائيل أصرّت على السيطرة على المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، ومحاولة إخراج حماس من سلسلة التوزيع، ونقل المسؤولية إلى مؤسسة غزة الإنسانية، وهي جهة أميركية تفضّل الحفاظ على علاقاتها المتشعّبة مع محيط رئيس الوزراء (نتنياهو) والمؤسسة الأمنية بسرية. ورغم أن المنظمة تتفاخر بتوزيع عشرات الملايين من الوجبات على سكان غزة خلال شهرين، فإن جهودها مليئة بالإخفاقات والفجوات، مما يؤدي إلى نتائج كارثية. وعدد الوجبات بعيد عن تلبية الاحتياجات، وهناك صعوبة في استخدام بعض المكونات، ونقاط التوزيع قليلة جداً وتقع جميعها في جنوب القطاع، بينما الطريق الوعرة إليها تخلق وضعاً يحصل فيه الأقوياء (وأحياناً العنيفون) على المساعدات على حساب الضعفاء".
ولفت الكاتب إلى "المشاهد المروّعة من القطاع" في وسائل الإعلام العالمية، وتحذير جهات مختلفة، من بينها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ووكالاته، من كارثة، ومطالبتها إسرائيل بوقف القتال وحل الأزمة. ومن جهة أخرى، أورد مزاعم المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بأن "المعطيات لا تشير إلى وجود مجاعة، وأن جزءاً من النقص ناتج عن إصرار الأمم المتحدة على عدم إدخال شاحنات المساعدات إلى القطاع، وأن العديد من الصور مفبركة أو مأخوذة من مناطق كوارث أخرى في العالم، وأن الصرخة العالمية هي في الأساس نتيجة تلاعب من قبل حماس، بهدف دفع إسرائيل لتقديم تنازلات في الصفقة".
ومع ذلك، نقلت الصحيفة، اعتراف مصدر أمني إسرائيلي رفيع، لم تسمّه بأن الوضع "أشبه بالسير على حبل رفيع جداً". وقال إن "الظروف في القطاع صعبة للغاية ويمكن أن تتدهور بسهولة وسرعة إلى كارثة". ولفت هارئيل إلى أن منظومة الدعاية الإسرائيلية لا تقنع أحداً في العالم، كما أن بعض الوزراء في حكومة الاحتلال يصرون على عدم فهم ما يحدث. وأضاف بأنه "على الرغم من أن الدعاية ليست هي الأساس، من المهم الانتباه إلى ردود الفعل العالمية على استمرار الحرب. هذا الأسبوع، منع متظاهرون في اليونان سفينة سياحية إسرائيلية من الرسو في إحدى الجزر. ومن بلجيكا ورد تقرير عن مواطن وجندي إسرائيليين وصلا للمشاركة في مهرجان موسيقي، وتم استجوابهما لفترة وجيزة من قبل السلطات بشبهة التورط في جرائم حرب، بناءً على شكوى من منظمات مؤيدة للفلسطينيين. هذه أحداث صغيرة ظاهرياً، لكنها تشير إلى نفاد صبر متزايد تجاه أفعال إسرائيل وتبريرات الحكومة".
ألف قنبلة أسبوعياً وخلافات في الجيش حول الأجندة
تنضم قضية تجويع الاحتلال لسكان غزة، والتي وصفها هارئيل" بـ"المجاعة"، وكأنه لا مسؤول عنها، "إلى ادعاءين مركزيين آخرين ضد تحركات الجيش الإسرائيلي، واللذين يثيران، ولو بتأخير، علامات خلاف حتى داخل الجيش نفسه". ويوضح في هذا السياق أنهما "القتل الجماعي واليومي للمدنيين الفلسطينيين في القصف، والتدمير المنهجي للمباني في القطاع". ويزعم مسؤولون في هيئة الأركان العامة لجيش الاحتلال، لم تسمهم الصحيفة، أن حجم الدمار لا يُملى بالضرورة كسياسة من الأعلى، بل ينبع جزئياً من إجراءات الحماية التي يتخذها القادة في الميدان. العبوات الناسفة تُعد التهديد الرئيسي للقوات العاملة في عمق القطاع، وقد تسببت في مقتل نحو 70% من قتلى الجيش الإسرائيلي خلال الأشهر الأربعة الأخيرة. في مثل هذه الظروف، يتجنب القادة المخاطرة ويفضلون تفجير المباني أو تدميرها بدلاً من إرسال الجنود إلى داخلها".
ولفتت هارئيل إلى أن جزءاً غير قليل من هذه العبوات يُركّب باستخدام ذخيرة إسرائيلية. ويدور الحديث عن قنابل غير منفجرة يلقيها سلاح الجو، ويُعيد الفلسطينيون تركيبها لتفخيخ المباني أو إخفائها تحت الطرق التي تمر بها المركبات المدرعة التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي. وبحسب صحيفة هآرتس، تُسقط إسرائيل على قطاع غزة أكثر من ألف قنبلة وصاروخ جوي أسبوعياً.
وكما حدث قبل عدة أشهر، عادت التوترات لتظهر بين قيادة سلاح الجو وقيادة المنطقة الجنوبية في الجيش، وذلك حول سياسة إطلاق النار في القطاع. بالإضافة إلى ذلك، نشأ توتر دائم حول فريق التخطيط التابع لقيادة الجنوب، الذي يتكون في معظمه من جنود احتياط. وهناك ادعاء متكرر بأن هذا الفريق، الذي يُفترض أن يخطط للخطوات العسكرية المستقبلية، يدفع نحو إجراءات متطرفة تتماشى مع أجندات أحزاب اليمين المتطرف في الحكومة. وأدّت الخلافات والشكوك، إلى انسحاب لعدد قليل من ضباط الاحتياط من غرف التحكم التابعة لسلاح الجو، التي تدير الحرب الجوية. كما يدور نقاش عام حول تهرب الحريديم من الخدمة العسكرية، والجهود التي يبذلها الائتلاف الحكومي لترسيخ ذلك في تشريع.