استمع إلى الملخص
- فكرة التهجير ليست جديدة في الفكر الصهيوني، بل كانت جزءاً من الاستراتيجية الصهيونية منذ بداياتها، واكتسبت شرعية دولية في فترات سابقة.
- تاريخياً، دعمت قيادات إسرائيلية التهجير القسري، ومع أحداث أكتوبر 2023، تصاعدت عمليات القصف والتهجير، مما يعكس رغبة إسرائيلية في الانتقام من سكان غزة.
قبيل لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مطلع فبراير/ شباط الحالي، اعتبر الإعلام الإسرائيلي أن اللقاء هو الأهم منذ بداية حرب الإبادة على غزة، وتوسيعها للضفة الغربية ولبنان، وأنه سيحمل نتائج تؤثر على مجرى اتفاق وقف إطلاق النار وعلى مصير قطاع غزة، بل ربما مصير المنطقة بأسرها. إلا أن أحداً لم يتوقع تحول اللقاء إلى إعلان أميركي واضح وعلني على لسان الرئيس الأميركي نفسه يدعو فيه إلى تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، وبذلك يعطي شرعية لمشاريع التهجير التي ينادي بها اليمين في إسرائيل.
المجتمع الإسرائيلي عامة، واليمين ونتنياهو خاصة، احتفلوا بهذا الإعلان ورأوا أنه تحول تاريخي في سياسات الولايات المتحدة تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وفرصة لتنفيذ مخططاتها ومشاريعها لتهجير سكان غزة.
المعارضة ترحب بخطة تهجير الفلسطينيين
إلا أن الترحيب بخطة ترامب تهجير الفلسطينيين لم يقتصر على تيارات وأحزاب اليمين المتطرف، بل طاول أيضاً أحزاب المعارضة، التي تشمل أحزاباً تُعرّف نفسها بأنها أحزاب وسط – يمين، مثل "المعسكر الرسمي" برئاسة بني غانتس، و"يوجد مستقبل" برئاسة يائير لبيد، و"الديمقراطيين" الذي يعرف نفسه بأنه حزب يسار صهيوني، والذي تشكل قبل أقل من عام نتيجة اندماج حزبي "العمل" و"ميرتس".
أشار محمود محارب إلى أن أصول مخططات التهجير لازمت سياسات التهجير منذ بداية المشروع الصهيوني
غانتس رحب بمشروع ترامب تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة قائلاً إنه قدم "تفكيراً إبداعياً وأصيلاً ومثيراً للاهتمام ويجب فحصه". وقال لبيد، من جهته، إن المؤتمر الصحافي المشترك لترامب ونتنياهو كان "جيداً لدولة إسرائيل".
أما يائير غولان، رئيس حزب "الديمقراطيين"، فحاول أن يتميز بموقفه بعض الشيء عن بقية الأحزاب، وعرض موقفاً معارضاً للخطة ولو بخجل، وربط الرفض مع أهمية تحقيق أهداف الحرب وإرجاع المحتجزين. جاء رد غولان عبر مقالة في صحيفة هآرتس في التاسع من فبراير الحالي، جاء فيها "إن فكرة التهجير تتناقض مع اليهودية والصهيونية... وعلى كل من يعتبر نفسه صهيونياً أن يعارض ويقف ضد هذا المشروع كي لا يتحول إلى شرعي وطبيعي في الخطاب الإسرائيلي". ورأى أن هذه المشاريع تُبعد إسرائيل عن مهامها الأساسية، وهي إعادة الأسرى وإيجاد بديل لحكم حركة حماس في غزة، والتعامل مع "المحور العربي المتطرف"، وأنه في نهاية المطاف يجب أن يفهم كل إسرائيلي أن مصيره أن يعيش إلى جانب الفلسطينيين.
لا يمكن اعتبار مواقف أحزاب المعارضة تجاه خطة ترامب تهجير الفلسطينيين جديدة أو غريبة، إذ تجاهلت هذه الأحزاب الأصوات المطالبة بتهجير سكان قطاع غزة داخل المجتمع الإسرائيلي وصناع القرار، التي بدأت مباشرة في الأيام الأولى بعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، التي ادعت أن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة هو الحل الوحيد للوضع الناشئ بعد السابع من أكتوبر، وأن كل سكان غزة متهمون بدعم حركة حماس، بل إن قسماً كبيراً منهم شارك في الهجوم. كما لا يمكن تجاهل حقيقة أن اقتراحات تهجير الفلسطينيين من غزة ليست جديدة على فكر وطرح أحزاب الوسط - اليمين أو اليسار الصهيوني. وفقاً للباحث محمود محارب، الذي يعود إلى أصول مخططات وفكر التهجير في العقلية الصهيونية، فقد لازمت سياسات التهجير المشروع الصهيوني منذ بدايته واستمرت بعد احتلال الأراضي الفلسطينية عام 1967، بوسائل عدة، وها هي تطفو على السطح مجدداً منذ اليوم الأول للحرب على غزة (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات).
فكرة الترانسفير رافقت الحركة الصهيونية منذ بداياتها
وأوضح الصحافي شاؤول أريئيلي، في مقالة بصحيفة هآرتس في 12 فبراير الحالي، أن فكرة الترانسفير "رافقت الحركة الصهيونية منذ بداياتها، وكانت جزءاً لا يتجزأ من التفكير الاستراتيجي لقادتها... ورغم أن الحركة الصهيونية افترضت في البداية أن الأغلبية اليهودية في أرض إسرائيل سوف تتحقق في المقام الأول من خلال الهجرة اليهودية الجماعية، فإنها لم تتردد قط في دراسة إمكانية إنشاء أغلبية يهودية من خلال نقل جزء من السكان العرب إلى خارج حدود ما كان من المفترض أن يكون الوطن القومي اليهودي". ووفقاً لأريئيلي، فإن هناك ثلاثة دروس أساسية يمكن تعلمها من مراجعة تاريخ فكرة الترانسفير: أولاً، إنها ليست فكرة هامشية أو متطرفة وفقاً لمفاهيم المشروع الصهيوني، وثانياً، اكتسبت الفكرة شرعيتها من جانب عناصر دولية، وخاصة في الفترة ما بين الحربين العالميتين، وثالثاً، حتى عندما بدا أن الفكرة تم التخلي عنها، فإنها ظلت قائمة وذات تأثير على صناع القرار. وعلينا أن نواجه الحقيقة أن فكرة الترانسفير لم تكن حكراً على "المتطرفين" وحدهم. فقد أيد هذه الفكرة بشكل أو بآخر زعماء من مختلف الطيف السياسي الصهيوني، وحتى من يوصفون بـ"المعتدلين" رأوا فيها حلاً مشروعاً.
دعم قيادات تاريخية لمشاريع التهجير
وراجع الصحافي في صحيفة هآرتس عوفر أدرات، في مقالة في 3 ديسمبر/ كانون الأول 2024، مواقف قيادات إسرائيلية تاريخية ودعمها لمشاريع تهجير الفلسطينيين، ومنهم ديفيد بن غوريون. واقتبس أدرات من كتاب المؤرخ الإسرائيلي توم سيغف "أيام شقائق النعمان"، حيث كتب: "باستثناء قلة، لم يكن هناك خلاف على أن التهجير القسري كان مرغوباً به بالنسبة للحركة الصهيونية، واعتبر أنه أخلاقي... وكان هذا بالفعل الحلم الصهيوني في جوهره". وتكشف مراجعات لبروتوكولات الحكومة الإسرائيلية منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حسب أدرات، التي اعتبرت إسرائيلياً أنها حكومة يسار بقيادة حزب العمل، أن رؤساء الحكومات والوزراء اجتمعوا عدة مرات لمناقشة مشكلة السكان الفلسطينيين في غزة، وطُرحت أفكار ومشاريع لا تختلف كثيراً عن أفكار اليمين المتطرف اليوم. وخلص أدرات إلى أن الطموح الحالي لليمين المتطرف في "تشجيع هجرة" الفلسطينيين من قطاع غزة لا يعكس إلا أفكاراً ومقترحات سبق أن طرحت للمناقشة في الماضي من قبل رؤساء حكومات ووزراء وزعماء في حكومات يسارية، ينتمون إلى الجيل المؤسس للدولة.
خنق غزة لدفع السكان للهجرة
غادي الغازي: خنق غزة وسيلة ممنهجة لدفع السكان إلى الهجرة القسرية
وأوضح المؤرخ المناهض للصهيونية غادي الغازي (موقع سيحا مكوميت في 16 فبراير/ شباط الحالي)، أن جهود "التهجير الطوعي" من قطاع غزة لم تتوقف على مدار السنوات الطويلة الماضية، حيث إن خنق قطاع غزة عبر الحصار لم يكن سوى وسيلة ممنهجة لدفع السكان إلى الهجرة القسرية وإجبارهم على مغادرة المنطقة. الهدف النهائي هو استكمال المحاولات السابقة لإسرائيل لتفريغ قطاع غزة من سكانه الفلسطينيين، ولا سيما اللاجئين، وهي محاولات حققت نجاحاً جزئياً خلال الفترة الممتدة بين 1967 و1973. ومنذ أكتوبر 2023، دخل المشروع مرحلته الثانية: القصف العشوائي، والتهجير الجماعي أثناء الحرب، والتدمير المنهجي لكل ما يمكن تدميره. ما تقوله "خطة ترامب" في جوهرها هو أن المرحلة المقبلة ستشهد تصعيداً إضافياً، لكن هذه المرة برعاية إمبريالية.
كذلك رأى الصحافي ميرون راببورت (في موقع سيحا مكوميت في الخامس من فبراير الحالي)، أيضاً من منظار غير صهيوني، أنه من الأكثر دقة أن نقول إن مشروع التهجير يعكس التيارات الأعمق في المجتمع اليهودي. ولم يفاجأ أحد بأن اليمين الديني الفاشي تعامل مع المؤتمر الصحافي الذي عقده البيت الأبيض باعتباره وحياً إلهياً. ولكن كان من غير المتوقع - وربما كان متوقعاً تماماً في نظرة إلى الوراء - قول بني غانتس إن خطة ترامب للتهجير تمثل تفكيراً "إبداعياً وأصيلاً ومثيراً للاهتمام"، وأن يقول يائير لبيد إن المؤتمر الصحافي الذي تم فيه تقديم الخطة كان "جيداً لإسرائيل"، وأن يكتفي يائير غولان "زعيم اليسار الصهيوني"، بالقول إن الخطة غير عملية، وكأن كل السياسيين من الأحزاب الصهيونية كانوا ينتظرون اللحظة التي يحصل فيها هذا التحول وتكون الخطة تحت ختم "صنع في أميركا" لكي يتبنوها.
يمكن الإجمال والقول إن موقف وردود أحزاب وسط اليمين واليسار الصهيوني على اقتراح ترامب تهجير الفلسطينيين ليست غريبة ولا تعكس تحولاً في مواقف تلك الأحزاب، ولم تتشكل فقط بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، بل إنها تعكس القناعات المبطنة لتلك الأحزاب، وكونها تدعم فعلاً هذه المشاريع. في السابق رفضت تلك الأحزاب مشاريع التهجير، لا لأنها تعارض هذه الأفكار مبدئياً، وإنما لكونها تعتقد بأنها اقتراحات غير واقعية وغير قابلة للتنفيذ وربما تكون مضرة لمصالح إسرائيل. هذه القناعات تغيرت وباتت مشاريع التهجير أكثر شرعية، ولا تؤدي إلى عقاب سياسي لمن يتبنى هذه المشاريع من خارج أحزاب اليمين واليمين المتطرف بعد السابع من أكتوبر 2023، نتيجة للرغبة الإسرائيلية بالانتقام من الشعب الفلسطيني عموماً، وخاصة من سكان قطاع غزة، ومن ضمنها أحزاب وسط - اليمين وأحزاب اليسار الصهيوني. هذه الأحزاب باتت تتبنى مواقف أكثر عدائية تجاه الشعب الفلسطيني عامة وسكان غزة خاصة، وتخضع للأجواء الشعبوية اليمينية المتطرفة المهيمنة في المجتمع الإسرائيلي.