استمع إلى الملخص
- أجرت إسرائيل تغييرات في قياداتها العسكرية والسياسية، واستغلت الهدنة لإعادة التسلح بدعم مالي من إدارة ترامب، وسعت لاحتواء المعارضة الداخلية.
- تراجعت مكانة القضية الفلسطينية دوليًا، واعتمدت قمة القاهرة المقترح المصري لإعادة إعمار غزة، بينما لم تقدم إسرائيل تفسيرات لاستئناف الحرب، مكتفية بتهديدات ترامب.
عاودت حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف، برئاسة بنيامين نتنياهو، حربها الشاملة على قطاع غزّة، مزيحةً من طريقها كلّ الكوابح، وعوامل التردد، والمعوّقات الداخلية والخارجية، بما فيها حركات الاحتجاج الإسرائيلية، والمواقف الدولية والإقليمية، ولعل آخر ما أدخلته حكومة نتنياهو في حساباتها كانت الصفقة التي أبرمتها مع حركات المقاومة في قطاع غزّة، عبر الوساطات الأميركية والمصرية والقطرية، فقد تعمدت خرق الاتّفاق عشرات المرّات، على امتداد فترة التنفيذ، سواء بالتنصل من الوعود والالتزامات، كإدخال مواد الإغاثة، والوقود، والبيوت الجاهزة، أو منع وصولها إلى شمال القطاع، ثّم الامتناع عن بدء المفاوضات حول تنفيذ المرحلتين التاليتين من الصفقة، تلك التي نص الاتّفاق على الشروع بها بدءًا من اليوم السادس عشر لسريان الصفقة، وللتدليل على أنّ موافقة إسرائيل على الصفقة كانت مجرد انحناءةً بسيطةً ومؤقتةً للاستراحة والتقاط الأنفاس، أنّها وقبل الإعلان الرسمي عن العودة إلى الحرب، وخلال فترة التهدئة، التي امتدت لشهرين، قتلت أكثر من 150 فلسطينيًا في قطاع غزّة وحده، عبر العمليات العسكرية المتفرقة والمتواصلة لأسبابٍ شتى.
بمعزلٍ عن التبريرات التي يستسهل القادة الإسرائيليون إطلاقها، حتّى إزاء أكثر جرائم الحرب فظاعةً، فسوف نجد أنّ اللحظة المفصلية التي أعادت فيها إسرائيل ترتيب أوراقها كلّها، وإعادة تنظيم مواقفها وسياساتها، تتمثّل في تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني الماضي، حول تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة، بزعم أن قطاع غزّة قد أصبح مجرد خرائب من الدمار والغبار، ومكانًا غير قابل للحياة، وفي تصريحاتٍ لاحقةٍ أكّد أنّ الولايات المتّحدة ستتولى بنفسها إعمار قطاع غزّة وتحويلها إلى "ريفيرا عالمية" بعد نقل سكانه.
فكرة التهجير كانت حاضرةٌ بالتأكيد في وعي وممارسات قادة إسرائيل، لكن الجهر بها وإعلانها سياسةً رسميةً كان أمرًا محفوفًا بالمحاذير، فالتهجير هو جريمة حربٍ موصوفةٌ من دون لبس، بحسب رأي خبراء القانون الدولي، وقد ورد ذلك في دعوى جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل في محكمة العدل الدولية، حيث استندت إلى تصريحات عددٍ من المسؤولين عن نقل السكان، واعتبرتها تحريضًا على ارتكاب جرائم حرب، منها جريمة الإبادة. إذ يعني التعبير الصريح عن هدف كهذا، الصدام مع المجتمع الدولي، خصوصًا مع دول الاتّحاد الأوروبي، وعشرات الدول العربية والإسلامية، أما وقد صرح الرئيس الأميركي بهذا الهدف، رغم محاولاته التخفيف من وقعه لاحقًا، فقد أصبح الترحيل بمثابة خريطة طريقٍ جديدةٍ لإسرائيل وقادتها، ما دفع إلى إعادة تكييف ومواءمة المواقف والسياسات كلّها، كي تنسجم مع هذا الهدف "الأسمى"، ما انعكس على صفقة التهدئة، ومراحل تنفيذها، حتى استئناف الحرب. هكذا تبدلت الأهداف، وصبت المواقف والإجراءات الإسرائيلية في خدمة هدفٍ رئيسيٍ جديدٍ هو إثبات أنّ قطاع غزّة غير قابلٍ للإعمار، كما أنّ التعايش في جوار شعبٍ فلسطينيٍ مؤيدٍ لحماس، وكارهٍ لإسرائيل هو غايةٌ مستحيلةٌ.
ظلت مواقف العجز والشلل هي الطاغية على المواقف العربية والإسلامية، ولعل أقصى ما خرج عن الموقف العربي هو اعتماد قمة القاهرة للمقترح المصري لإعادة إعمار غزّة
شهران من التحضير للحرب
سبقت استئناف الحرب إنذاراتٌ متكررةٌ بفتح أبواب الجحيم على قطاع غزّة، ومحاولاتٌ متفرقةٌ، أميركية وإسرائيلية، لتبديل اتّفاق الصفقة، المكون من ثلاث مراحل، بصيغٍ متعددةٍ من صفقاتٍ صغيرةٍ متفرقةٍ، جوهرها اعتماد معادلةٍ جديدةٍ قوامها "أسرى مقابل إدخال المساعدات وهدنٍ مؤقتةٍ"، وهي صيغةٌ أسماها نتنياهو بـ"الصفقة الإنسانية"، وسبق له أن طرحها مرارًا وتكرارًا على امتداد السبعة عشر شهرًا الماضية، وتمثّل هدفها في اختزال أهداف التفاوض إلى هدفٍ وحيدٍ هو استعادة الأسرى، وتحاشي أيّ بحثٍ في قضايا الانسحاب الشامل، ووقف الحرب، وإعادة الإعمار.
مهدت إسرائيل لاستئناف الحرب بجملةٍ من التحضيرات والاستعدادات، أبرزها إجراء سلسلةٍ من التغييرات في قيادة الحرب، والقيادات العسكرية العليا، بدءًا من تغيير وزير الدفاع، كثير الاحتجاجات يوآف غالانت، وتغييره بالوزير الأكثر طوعًا يسرائيل كاتس، وهو الأبعد عن الاختصاص في شؤون الحرب والقتال، ثّم دفع رئيس الأركان هرتسي هليفي إلى الاستقالة، واستبداله بالجنرال إيال زامير، وسرعان ما أبدى هذا الأخير انسجامًا كاملًا مع توجهات الحكومة، بدءًا بإقالة المتحدث الرسمي باسم الجيش دانيل هاغاري، ثمّ الإعلان عن أنّ العام 2025 هو عام حربٍ، واستكمال إجراء تغييراتٍ واسعةٍ شملت قيادة الاستخبارات، وقيادتي المنطقتين الوسطى والجنوبية في الجيش، وشعبة العمليات، حتّى باتت قيادة الجيش أكثر انسجامًا مع توجهات الحكومة، وتراجعت إلى حدٍّ كبيرٍ الانتقادات التي كانت توجهها القيادات العسكرية للحكومة، بشأن عدم تحديد أهداف الحرب، وإهمال قضية الأسرى، والتهرب من الإجابة عن سؤال اليوم التالي بشأن مستقبل غزّة.
إلى ذلك واصل نتنياهو مساعيه للتخلص من كلّ الأصوات المعارضة له في قيادة الدولة وأجهزة الأمن، مركّزًا في هذه المرحلة على رئيس جهاز الشاباك رونين بار، والمستشارة القضائية للحكومة غالي بهاراف ميارا. كما استثمرت الحكومة فترة الهدنة في إعادة ملء مستودعاتها بالذخيرة، مستفيدةً من الدعم السخي الذي وفرته إدارة ترامب لإسرائيل بقيمة 14 مليار دولار، كما نجحت إلى حدٍّ بعيدٍ في استعادة ثقة الجمهور اليميني المتطرف، من خلال نقل الحرب إلى الضفّة الغربية، وتهجير عشرات الآلاف من سكان المخيّمات، بالتوازي مع ذلك؛ نجحت في احتواء الحركات الاحتجاجية والمعارضة، بادعاء أنّها قدمت كلّ المرونة المطلوبة لإعادة الأسرى، وبأنّ المشكلة كانت وما زالت تكمن في الفلسطينيين وحركات المقاومة.
انشغالٌ دوليٌ وعجزٌ عربيٌ
لعبت العوامل الدولية والإقليمية، هي الأخرى، لصالح قرار استئناف الحرب، فوسط هذا العالم المضطرب، المشغول بعشرات القضايا والأزمات، التي أثارها ترامب، من كندا والمكسيك وبنما وغرينلاند وصولًا إلى جنوب أفريقيا وأوكرانيا، بات كلّ طرفٍ معنيًا بتحسس موقعه في هذه المعادلات الجديدة التي فرضها ترامب، وبالتالي تراجعت مكانة القضية الفلسطينية في زحمة هذه القضايا التي تشغل العالم. بينما ظلت مواقف العجز والشلل هي الطاغية على المواقف العربية والإسلامية، ولعل أقصى ما خرج عن الموقف العربي هو اعتماد قمة القاهرة للمقترح المصري لإعادة إعمار غزّة، الذي بدا مجرد بديلٍ فنيٍّ أو إداريٍّ لخطة ترامب للتهجير، مجردًا من أسباب القوّة المادية، وعوامل الضغط الممكنة، أكثر من كونه بديلًا جادًا ومتصادمًا مع خطة التهجير الترامبية، المسلحة بأنياب ومخالب وترسانة إسرائيل العسكرية، أما الموقف الرسمي الفلسطيني فلم يوفر فرصةً لانتقاد حركة حماس، حتّى مع استئناف الحرب الدموية مؤخرًا.
سبق أن اضطرت حكومة نتنياهو إلى تمرير صفقة التهدئة على مضضٍ، فصيغة الصفقة، وما وافقت عليه إسرائيل قبيل الموعد الذي حدده الرئيس ترامب في العشرين من يناير/كانون الثاني، موعد تنصيبه الرسمي، هي إلى حدٍّ بعيدٍ جدًا، الصيغة نفسها التي ظلّت محل أخذٍ وردٍ ومفاوضاتٍ على امتداد الفترة بين مايو/أيّار 2024 ويناير 2025، أي الصيغة التي نشأت عن دمج اقتراحاتٍ مصريةٍ وإسرائيليةٍ، وتبناها الرئيس السابق جو بايدن، ثم اعتمدها مجلس الأمن الدولي في يونيو/حزيران، ثّم تنصلت منها حكومة إسرائيل فور موافقة حركة حماس عليها. حاول نتنياهو، دون جدوى، اعتماد صيغٍ جديدةٍ وبديلةٍ، من قبيل استبدال صفقاتٍ صغيرةٍ متفرقةٍ الصفقة الواسعة، أو عرض الرشوة، خمسة ملايين دولار مقابل كلّ أسيرٍ، على عناصر المقاومة، الذين يحتفظون بالأسرى الإسرائيليين، إلى جانب ما لدى الترسانة الإسرائيلية من أساليب القتل والتدمير والتجويع والمذابح اليومية، لكن ذلك كلّه لم ينجح في تغيير جوهر المعادلة، وهو استحالة استعادة الأسرى بوسائل الضغط العسكري من دون اتّفاقٍ سياسيٍ.
على امتداد هذه الحرب الطويلة؛ توافرت دائمًا عوامل ضاغطةٌ ومتعاكسة التأثير يدفع بعضها إلى مواصلة الحرب من دون هوادةٍ، من قبيل الضغط الداخلي لقوى اليمين الإسرائيلي المتطرف، وحرص نتنياهو على تماسك ائتلافه الحكومي من أجل البقاء في الحكم، واستعادة قدرة الردع، وصورة إسرائيل القويّة. مقابل عوامل تدعو إلى التهدئة، ووقف الحرب، مثل ضغط أهالي الأسرى الإسرائيليين، الذين انضمت إليهم، في وقتٍ متأخر، مئات عائلات الجنود والضباط، الذين بدأوا تنظيم فعالياتٍ احتجاجيةٍ خوفًا على مصير أبنائهم، الذين يتعرضون للموت من دون جدوى، فضلًا عن الخسائر الاقتصادية الهائلة، وتراجع مكانة إسرائيل الدولية، والضغوط المتواصلة من قبل أوساطٍ مهمّةٍ في قيادة الجيش والمؤسسات، التي ترى أنّ الأوّلوية القصوى يجب أن تكون لاستعادة الأسرى، وليس القضاء على حماس، وتؤكّد حاجة الجيش إلى إعادة الترميم والإنعاش بعد هذه الحرب، الأطول في تاريخ حكومة إسرائيل.
واصل نتنياهو مساعيه للتخلص من كلّ الأصوات المعارضة له في قيادة الدولة وأجهزة الأمن، مركّزًا في هذه المرحلة على رئيس جهاز الشاباك رونين بار
وسط هذه الضغوط الداخلية والخارجية لعب الموقف الذي حمله المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف دورًا حاسمًا في دفع إسرائيل للقبول بالصفقة، وبدا ذلك الموقف أقرب إلى كونه إنذارًا أو مهلةً نهائيةً، ولعل ذلك هو ما دفع بعضهم إلى الافتراض بأنّ إدارة الرئيس ترامب معنيةٌ قبل كلّ شيء بإستكمال الصفقة وإنهاء الحرب، وأنّها ستكبح جموح إسرائيل نحو استئناف القتال.
لم تجهد إسرائيل نفسها في تقديم تفسيراتٍ، وإعطاء مبرراتٍ لاستئناف الحرب، ولا حاولت شرح أسباب نقضها الاتّفاق، واكتفت بإعادة ترديد تهديدات ترامب، وترديدها بفتح أبواب الجحيم على قطاع غزّة بكل سكانه، واستخدام أقصى درجات القوّة لدفع حركة حماس إلى التراجع، وتسليم الأسرى من دون مقابل، حتّى لو افترضنا تجاوب الحركة مع هذا التهديد، فإنّ ذلك لن يحميها من المصير المحتوم بحسب التهديدات الإسرائيلية، ولن يحمي سكان غزّة من التهجير، الذي بات هدفًا معلنًا وصريحًا، إذ أنشأت الحكومة الإسرائيلية وكالةً رسميةً لمتابعته وتنفيذه. تمثّل التحفظ الوحيد، الذي أبداه المسؤولون الإسرائيليون، في الإشارات الخافتة إلى عدم استهداف المواقع التي يحتمل وجود أسرى فيها، هكذا وبكل بساطةٍ أصبحت مهمة استعادة أسرى الاحتلال قضيةً ثانويةً بعد أولويّة القضاء على حركة حماس، وذلك بالضبط ما قاله القائد الجديد للمنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي، اللواء يانيف عاسور، في خطابٍ الاحتفال بتوليه منصبه الجديد.
التباينات المحدودة بين إدارة ترامب وحكومة نتنياهو، مثل إنذار ترامب- ويتكوف، وفتح مسارٍ جانبيٍ لمفاوضاتٍ أميركيةٍ مع حماس، أنعشت الرهانات بوجود خلافاتٍ بين إدارة الرئيس ترامب وحكومة نتنياهو، وذهب بعضهم إلى تفسير ذلك بالقول إنّ ترامب وعد بإنهاء كلّ الحروب، وإنّه يطمح بنيل جائزة نوبل للسلام، وتعززت هذه الافتراضات بالقول إنّ من الصعب توقع قرارات ومواقف الرئيس ترامب، الذي يفاجئ العالم يوميًا بمواقف مثيرةٍ وإشكاليةٍ. لكن الوقائع المادية العنيدة ظلّت أقوى من أيّة رهاناتٍ وأوهامٍ نظرية، فإذا كان صحيحًا صعوبة توقع تصرفات ترامب وقراراته، فالأصح أنّها تنطبق على الكيفيات والوسائل والتفاصيل الثانوية، وليس على مضامين قراراته وجوهرها. لذلك فالأحرى اللجوء إلى أدوات قياسٍ ثابتةٍ ومجربةٍ لتوقُّع سلوك الرئيس الأميركي وسياساته، ومن هذه الأدوات، في ما يخص القضية الفلسطينية على نحوٍ خاص، تتبع ومعرفة السياسات التي انتهجها خلال فترة ولايته الأولى، وأبرزها اعترافه بالقدس عاصمةً لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، ثّم تبنّي ما أسماه "صفقة القرن"، التي هي في جوهرها نسخةٌ مطوّرةٌ من رؤية اليمين الإسرائيلي المتطرف لحلّ القضية الفلسطينية. ومن وسائل القياس والاستدلال المهمّة كذلك التدقيق في خيارات الرئيس ترامب وتعييناته لكبار المسؤولين في إدارته، ومن بينهم وزير الخارجية ماركو روبيو، ووزير الدفاع بيت هيغسيث، ومستشار الأمن القومي مايكل وولتز، وسفير الولايات المتّحدة في إسرائيل مايك هاكابي، وكلّهم من ذوي المواقف اليمينية المتطرفة تجاه القضايا الداخلية والدولية. كما تكفي الإشارة هنا إلى ما سبق أن قاله وزير الكفاءة في إدارة ترامب فيفيك راماسوامي (من أصلٍ هنديٍ وكان مرشحًا للرئاسة) حين اقترح على إسرائيل تعليق رؤوس مائةٍ من قادة حماس على أوتادٍ على امتداد حدود قطاع غزّة.
ثّمة مصادر أكيدة أخرى لتوقع سلوك ترامب، أبرزها تصريحاته المباشرة، التي تنسجم تمامًا مع سياق الأحداث، وطبيعة العلاقات بدولة إسرائيل وقيادتها، ومن بين هذه التصريحات اللافتة، التي صدرت قبل فوزه بسباق الرئاسة، إظهار دهشته من صغر مساحة إسرائيل، وقوله أنّه يفكر دائمًا في كيفية زيادة هذه المساحة، وهو ما أطلق أطماع إسرائيل التوسعية على مداها في ضم أراضٍ فلسطينيةٍ وسوريةٍ ولبنانيةٍ، وربّما غيرها أيضًا.