ليس من المبالغ به القول إن الأشهر الأولى ستكون حاسمة بالنسبة لرئيسة الحكومة البريطانية الجديدة ليز تراس وبالنسبة لمستقبل حزب المحافظين أيضاً، حيث إن أكثر من نصف عدد سكان بريطانيا يؤيّدون إجراء انتخابات مبكّرة.
ولن تقتصر مهمّة تراس على إيجاد حلول لأزمات لم يسبق لأي رئيس حكومة في بريطانيا أن تولّى الحكم وسطها، بل تنتظرها مهمّات أخرى متعلّقة بمستقبل الحزب الذي فقد شعبيته وباسترجاع ثقة الناخبين بمنصب رئيس الحكومة.
ولم تتغيّر الملفّات التي سيتعين على تراس الخوض فيها عما كانت عليه خلال فترة حكم رئيس الحكومة المستقيل بوريس جونسون، إلا أن مخاطر تلك الملفّات تعاظمت بحدّة وفي فترة زمنية وجيزة، لا سيما مع العطلة الصيفية للبرلمان وتعطيل أعمال الحكومة لشهرين في انتظار نتيجة السباق إلى زعامة الحزب ورئاسة الحكومة.
وفي حين توافقت خطط تراس مع منافسها وزير المالية المستقيل ريشي سوناك في الكثير من الملفات، كقضية الهجرة وارتفاع معدل الجريمة وبرتوكول أيرلندا الشمالية، إلا أن التحدّي الأكبر الذي سيواجهه أي رئيس حكومة اليوم مثّل قضية خلافية بين المرشّحين. ففي حين ركّزت الحملة الانتخابية لسوناك على مواجهة التضخّم أولاً ثم الالتفات إلى تخفيض الضرائب، كانت وعود تراس منذ اليوم الأول تصبّ في التخفيضات الضريبية لتخفيف العبء على الشركات والأفراد في مواجهة غلاء المعيشة وارتفاع أسعار الطاقة. ومع أن سوناك وحلفاءه والكثير من الخبراء والاقتصاديين حذّروا من التبعات الخطيرة لخفض الضرائب ما قد يزيد من التضخّم، لم تتراجع تراس عن خطّتها هذه متعهدة باتخاذ إجراءات فورية منذ اليوم الأول لوجودها في "داونينغ ستريت" تحضيراً لحدث مالي في وقت لاحق من هذا الشهر.
وليست الكارثة الاقتصادية التي تمرّ بها المملكة المتحدة هي التحدّي الأكبر بالنسبة إلى تراس، بل حقيقة أن كل الكوارث الأخرى والتحدّيات مرتبطة بشكل مباشر بالأزمة الاقتصادية والركود والتضخم غير المسبوق. حيث سيصعب إيجاد حلول جدية ومستقرة لأزمة القطاع الصحي مثلاً أو إضرابات قطاع المواصلات العامة أو ارتفاع معدّلات الجريمة، إن لم تتمكن بداية من معالجة آثار غلاء المعيشة وارتفاع أسعار الطاقة. والأمر مماثل بالنسبة إلى ملفات أخرى، كبروتوكول أيرلندا الشمالية و"بريكست" وزيادة الإنفاق الدفاعي والأصعب أيضاً، إعادة توحيد صفوف الحزب.
وتتلخّص أبرز وعود تراس بتخفيض فوري للضرائب واستخدام ميزانية عاجلة وتخفيض قيمة الضريبة المضافة بنسبة 5 بالمائة، وهو أكبر تخفيض على الإطلاق، كما وعدت بإصلاح القطاع الصحي الذي يعاني شللاً حقيقياً في ظلّ نقص هائل في العاملين وفي المعدّات، إضافة إلى عدم قدرته على الاستجابة لحالات الطوارئ، ما دفعه في الشهرين الماضيين للاستعانة بالشرطة لإسعاف المحتاجين من المرضى.
كما تعهدت تراس بمواجهة الجريمة وبتخفيض معدل العنف والسطو وجرائم القتل بنسبة 20 بالمائة خلال سنتين. إلا أن هذه الوعود تبدو شبه مستحيلة في ظلّ غلاء المعيشة وارتفاع نسبة الفقر، وقد أشارت الإحصاءات إلى بلوغ معدّل الجريمة أرقاماً قياسية في كل من إنكلترا وويلز خلال الأسابيع الماضية.
بعض الخبراء حذّروا من أن الكارثة الاقتصادية الحالية ستخلق طبقة جديدة من الفقراء وستعيد تشكيل الحياة اليومية والنسيج الاجتماعي، كل هذا في سادس أغنى دولة في العالم! هذا إضافة إلى زيادة الإنفاق الدفاعي بنسبة 3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي وتعهدها بهزيمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا.
ولم تخفِ تراس تشدّدها بشأن قضية الهجرة متعهدة بالمضي قدماً بخطة "رواندا" المثيرة للجدل، لا بل وتوسيعها لتشمل بلداناً أخرى غير رواندا. كذلك الحال بالنسبة لبروتوكول أيرلندا الشمالية، الذي تتعهّد تراس بتمرير مشروع قانون يتيح للوزراء حذف أجزاء مهمة منه برغم ما تشكّله تلك الخطوة من خرق للقوانين الدولية.
كل تلك الملفات التي سيتعين على تراس الخوض فيها تشكّل أولوية اليوم بالنسبة إلى أي رئيس حكومة في بريطانيا، إضافة إلى أنها شديدة الترابط ولا يمكن إيجاد حلول منفصلة ومعزولة لها.
أوردت صحيفة "فايننشل تايمز" مثلاً أن "زيادة التضخم وارتفاع كلفة الديون الحكومية ووعود تراس بشأن التخفيضات الضريبية وزيادة الإنفاق الدفاعي، كلها أمور ستؤدي إلى إحداث فجوة تبلغ 60 مليار جنيه إسترليني (1.15 دولار أميركي) في المالية العامة بحلول منتصف العقد".
وتُظهر حسابات الصحيفة أن آفاق المالية العامة قد تدهورت في 7 يوليو/تموز عندما أعلن بوريس جونسون عن نيّته التنحّي. ثم تدهورت بشكل أكبر خلال حملة الترشّح إلى الزعامة حيث باعت الأسواق المالية الأصول البريطانية في أغسطس/آب الماضي وسعّرت بتكاليف الاقتراض المستقبلية المرتفعة بشكل كبير.
ويقول مصدر من "بنك إنكلترا"، لـ"العربي الجديد"، إن التهديدات التي تواجهها المملكة المتحدة حقيقية وواقعية وليست مجرد تنبّؤات. كما أكّد المصدر على ضرورة أن تتعامل الحكومة البريطانية مع أزمة غلاء المعيشة على أنها ليست مرحلة مؤقتة.
يبقى أن التحدّي الأكبر الذي ينتظر تراس خلال الأشهر الثلاثة الأولى من تولّيها المنصب هو الانقسام الهائل في صفوف "حزب المحافظين" والذي تكشّفت بوادره في الأيام الأخيرة من حكم جونسون. إلا أن الشهرين الماضيين وما رافقتهما من خلافات بين المتنافسين من جهة وبين حلفائهما من جهة أخرى، عزّزا من صورة مهشّمة لحزب غير قادر على الصمود حتى الانتخابات العامة المقبلة. مع أن تراس ختمت كلمتها القصيرة عقب إعلان فوزها، اليوم الإثنين، بالقول إنها ستدفع الحزب إلى الفوز في الانتخابات العامة المقبلة بعد عامين.
وعلى عكس جونسون، لن يكون بوسع تراس الاتّكاء على تفويض برلماني قوي، إذ لم تحصل على تأييد ما يقارب الـ200 عضو من نوّابها هذا إضافة إلى أن أكثر من ثلثي النواب لم يصوتوا لها في المرحلة الأولى من السباق، حيث ثمة شكوك حقيقية في قدرتها على الخروج من أزمة لم يسبق أن شهدتها حكومة بريطانية منذ عقود.