بروكسل وأنقرة: تطور العلاقات وسط تعقد علاقة أوروبا بترامب

17 مارس 2025
أمام مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل، 11 فبراير 2025 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- بدأت أوروبا في إعادة تقييم استراتيجياتها الأمنية بسبب تراجع العلاقات الدفاعية مع الولايات المتحدة، مما دفعها للنظر إلى تركيا كشريك استراتيجي مهم لتعزيز أمن القارة.

- تركيا، بامتلاكها ثاني أكبر قوة عسكرية في الناتو وتطويرها للصناعات الدفاعية، أصبحت محط اهتمام أوروبي للاستفادة من قدراتها العسكرية، خاصة في الطائرات بدون طيار.

- العلاقة بين أوروبا وتركيا تتجه نحو نموذج "رابح-رابح"، مع التركيز على المصالح المشتركة، مما قد يشمل استئناف مفاوضات عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي وتعزيز التعاون التجاري والعسكري.

يخوض الأوروبيون هذه الأيام في عمليات حسابية دقيقة بشأن علاقتهم بحليفهم الأميركي في عهدة الرئيس دونالد ترامب. ويبدو لهم أن الأمر غير مرتبط بمطبات هوائية مؤقتة عبر حلف شمال الأطلسي (ناتو)، بل بتحول الانسحاب الأميركي من علاقات الأمن الدفاعي المتبادل إلى ثابت من ثوابت سياسات واشنطن المستقبلية. حسابات أوروبا بدأت في الأسابيع الأخيرة تقدم ملامح فتح الطريق نحو تركيا، لتكثيف جهود القارة وتعزيز أمنها الدفاعي.

 

بروكسل-أنقرة... براغماتية المصالح

مع تزايد المخاطر، وعدم اليقين في واقع جيوسياسي جديد في عدم رسوخ علاقاتهم بواشنطن يجري أوروبياً اعتبار تركيا ضرورة لأمن قارتهم. استنتاج ذهب إليه الباحث أيضاً في برنامج روسيا وأوراسيا بمعهد تشاتام هاوس، المؤرخ تيموثي آش. يأتي ذلك في وقت بات يرى نحو 71% من مواطني القارة أن على دولهم العمل على تعزيز قدراتهم الإنتاجية العسكرية، ويوافق 77% على انتهاج سياسات دفاع وأمن مشترك.

حتى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أكد في وقت سابق من الشهر الحالي أن: "إرساء الأمن الأوروبي بدون تركيا أمر لا يمكن تصوره". وشدد على أنه "بات مستحيلاً وبشكل متزايد أن تحافظ أوروبا على مكانتها لاعباً عالمياً دون إعطاء تركيا المكانة التي تستحقها". وجاءت تحركات بروكسل نحو أنقرة مبكراً، حيث التقت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بأردوغان في ديسمبر/كانون الأول الماضي، لبحث تداعيات عودة ترامب على الأمن الأوروبي.

ويعد ذلك تطوراً مهماً للطرفين، بعد سنوات عجاف في علاقتهما، وتوقف نقاشات دخول أنقرة إلى النادي الأوروبي. وبرغم أن أنقرة، على عكس أوروبا، أبقت على علاقاتها بموسكو، فإنها في المقابل أكدت مراراً دعم وحدة وسيادة أوكرانيا. ولعبت دور الوسيط في أكثر من محطة، مثل اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية.

إذاً، أوروبا وعلى خلفية تراجع العلاقة عبر "الأطلسي" تظهر اليوم براغماتية أكثر. وبدا لافتاً دعوة وزير خارجية تركيا هاكان فيدان إلى اجتماع لندن الأوروبي-"الأطلسي"، لمناقشة الرد على محاولات ترامب الضغط على أوكرانيا لوقف إطلاق النار مع روسيا (بعد حادثة السجال بين ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي).

أوروبا وعلى خلفية تراجع العلاقة عبر "الأطلسي" تظهر اليوم براغماتية أكثر

وخلال الأسبوع الفائت زار رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك أنقرة، طالباً منها "تحمّل مسؤولية الأمن الإقليمي"، حسبما ذهبت صحيفة فاينانشال تايمز، مؤكدة أن أمين عام حلف شمال الأطلسي (الناتو) مارك روته، طالب الزعماء الأوروبيين بـ"تكثيف التعامل مع الرئيس التركي"، بعد سنوات من توتر علاقتهما حين كان رئيس حكومة بلاده هولندا.

وكان روته قد أكد مطلع العام الحالي أن "إشراك الحلفاء من خارج الاتحاد الأوروبي في الجهود الصناعية الدفاعية للاتحاد الأوروبي أمر حيوي من أجل أمن أوروبا".

وتعد تركيا بروتوكولياً دولة مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي. وتوقفت العملية على خلفية ملاحظات أوروبية تتعلق بمعايير سيادة القانون وحقوق الإنسان في تركيا، وغيرها من قضايا أخرى، مثل النزاعات البحرية مع اليونان وقبرص، وكلاهما دولتان عضوان في الاتحاد الأوروبي، واستمرار النزاع مع نيقوسيا منذ دخول القوات التركية إلى شمال الجزيرة في 1974.

مع ذلك يمكن القول إن الواقعية السياسية الأوروبية فرضت عليها تشنجاً أقل في العلاقة بأنقرة، أو ربما النظر إلى ما هو أبعد من المسائل القيمية.

إدراك أوروبي لأهمية أنقرة... ربح للطرفين

ينظر الأوروبيون باهتمام لقوة تركيا في الناتو، التي تعد الثانية بعد أميركا، حيث لديها نحو 373 ألف جندي تحت الخدمة، وقادرة على حشد 378 ألفاً من الاحتياط، وفقاً لأرقام المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية. وتحت مظلة ناتو الأوروبية يعدونها استراتيجية بالنسبة لـ"الجناح الشرقي الجنوبي"، بما في ذلك البحر الأسود ومضيق البوسفور الفاصل بين أوروبا وآسيا الصغرى. ذلك بالطبع إلى جانب تماسها المباشر مع العالم العربي، بالإضافة إلى علاقتها مع أفريقيا ومع وسط آسيا.

كذلك يولي الأوروبيون اهتماماً بتطوير أنقرة صناعاتها الدفاعية العسكرية. فقد زادت صادرات هذا القطاع بنسبة 29% في 2024 (نحو 7 مليارات دولار أميركي، وكانت في 2010 حوالي 853 مليون دولار). وتحتل المرتبة الحادية عشرة بين أكبر مصدري المعدات الدفاعية في العالم، بحسب المعهد الدولي للدراسات. ويهتم الأوروبيون بتطور طائرات بيرقدار بدون طيار (تي بي2) التركية، التي باتت تصدر منها إلى 25 دولة، وبينها أوروبية. يأتي ذلك وسط نقاش أوروبي حول تسريع عجلة الإنتاج العسكري، ليشكل أحد جوانب الاهتمام الأوروبي بالتجربة الصناعية العسكرية الثقيلة لأنقرة. هذا إلى جانب إمكانية مساهمة تركيا بجنود على الأرض، في وقت يبحث الأوروبيون في كيفية تأمين 20 إلى 30 ألف جندي لحفظ السلام في أوكرانيا.

ذلك وغيره يؤشر إلى أن علاقة الجانبين باتت ضرورة في سياق إعادة الأوروبيين قراءة مشهد نظام وعلاقات دوليين متغيرين، ومن منطلق حاجاتهم لتعزيز أمنهم الدفاعي، وسد ثغرة مع الأميركيين، لا يرونها مؤقتة.

استشعار تركيا تلك الحاجة الأوروبية إليها دفع بوزير خارجيتها فيدان إلى التصريح لصحيفة فاينانشال تايمز بأن "تركيا تريد أن تكون جزءاً من أي بنية أمنية أوروبية جديدة، إذا انهار الناتو". ونوه فيدان (رئيس الاستخبارات السابق حتى 2023 وأظهر تأييده القوي لأردوغان في وجه محاولة انقلاب صيف 2016) إلى أن "تصرفات ترامب بمثابة جرس إنذار لنا من أجل الاتحاد وتصميم مركز ثقل خاص بنا". بل اتفق الرجل مع مشاغل ساسة بروكسل المستقبلية بقوله إنه "حتى لو قرر ترامب عدم الانسحاب من أوروبا حالياً، فمن الممكن في المستقبل أن يفكر شخص (أميركي) لديه أفكار سياسية مماثلة في تقليص مساهمات أميركا في الأمن الأوروبي".

إجمالاً، فإنه في سياق تشكّل علاقة "رابح-رابح" بين الجانبين التركي والأوروبي، فمن الممكن أن تحمل الأسابيع والأشهر القادمة بعض مؤشرات التركيز على المصالح، وتخفيف شعارات الاختلافات؛ كالعودة إلى سكة مفاوضات عضوية أنقرة إلى النادي الأوروبي، وتلبية مطالبها بشأن تأشيرات دخول مواطنيها إلى القارة، والعودة إلى معاملة تجارية تفضيلية تحت سقف الاتحاد الجمركي، ما يمنح الأوروبيين أيضاً فرصة للانفتاح على الصناعات العسكرية التركية. وربما عودة إلى التعاون الدفاعي مع أنقرة، بعد أن أوقفته فرنسا وهولندا، ودول أخرى، بسبب نشرها صواريخ أس 400 الروسية في 2017.

 

المساهمون