"بحر الصداقة" المصرية التركية تعود بعد غياب 13 عاماً
استمع إلى الملخص
- تأتي المناورات في سياق إقليمي معقد، حيث تعكس استعداد البلدين لتنسيق أوسع في قضايا الأمن البحري والمفاوضات غير المباشرة المرتبطة بالملف الفلسطيني، مما يشير إلى تطور مسار التطبيع من الدبلوماسي إلى العسكري.
- تسعى دول المنطقة، بما فيها تركيا ومصر، لتشكيل تحالفات أوسع لمواجهة التهديدات الإسرائيلية، مع تعزيز مصر لقطاع الصناعات الدفاعية بالتعاون مع دول ذات خبرات متقدمة مثل تركيا، دون الإضرار بعلاقاتها مع دول أخرى.
بعد انقطاع دام 13 عاماً، تستأنف مصر وتركيا مناورات "بحر الصداقة" في شرق البحر الأبيض المتوسط خلال الفترة من 22 إلى 26 سبتمبر/ أيلول الحالي، بمشاركة واسعة من القوات البحرية والجوية للبلدين. وبدأت مناورات "بحر الصداقة" عام 2009 واستمرت حتى 2013، قبل أن تتوقف مع انهيار العلاقات بين القاهرة وأنقرة عقب أحداث يوليو/ تموز 2013. ومنذ 2021 شرع البلدان في مسار مصالحة بطيء، شمل تبادل الزيارات الوزارية، وإعادة السفراء، ثم لقاء الرئيسين عبد الفتاح السيسي
ورجب طيب أردوغان، العام الماضي، وصولاً إلى الإعلان عن هذه المناورات التي تبدأ اليوم الأحد.أبعاد استئناف "بحر الصداقة"
وتعني العودة إلى التعاون العسكري، أن مسار المصالحة لم يعد محصوراً في الاقتصاد أو السياسة الخارجية، بل تجاوز ذلك إلى أحد أكثر الملفات حساسية، وهو التنسيق الأمني والعسكري. ويرى خبراء أن توقيت المناورات في شرق المتوسط لا يخلو من إشارات سياسية، أولها أن القاهرة وأنقرة ترغبان في إظهار مستوى جديد من الثقة المتبادلة، بعد عقد من الصدام. وثانياً، أن البلدين يسعيان إلى إرسال رسالة للفاعلين الإقليميين -إسرائيل واليونان وقبرص- بأنهما قادران على التعاون في ساحة متوترة ترتبط بأمن الطاقة وخطوط الملاحة. وثالثاً، أن "يوم المراقبين" (خلال المناورات) المقرر في 25 سبتمبر الحالي، بحضور قائدي القوات البحرية للبلدين، يعكس رغبة في منح المناورات بعداً رمزياً يتجاوز البعد التدريبي.
وعلى الرغم من أن المناورات تندرج وفق البيانات الرسمية في إطار "تعزيز العلاقات الثنائية"، إلا أن السياق الإقليمي لا يمكن تجاهله. فالحرب على غزة، التي دفعت مئات آلاف الفلسطينيين إلى النزوح جنوباً، خلقت مساحة تقارب غير معلنة بين القاهرة وأنقرة. كلا البلدين يرفضان سيناريو التهجير القسري، وكلاهما يسعيان إلى تعزيز أوراقهما في معادلة شرق المتوسط. ويعطي إجراء المناورات انطباعاً بأن البلدين يهيئان نفسيهما لتنسيق أوسع في قضايا الأمن البحري وربما في المفاوضات غير المباشرة المرتبطة بالملف الفلسطيني. ويرى مراقبون أنه إذا كانت مناورات "بحر الصداقة" قد توقفت بسبب السياسة، فإن عودتها اليوم تمثل ثمرة مباشرة لمسار تطبيع بدأ دبلوماسياً وينتقل الآن إلى المستوى العسكري. ومع ذلك، تبقى الأسئلة مطروحة حول مدى استمرارية هذا التقارب، وحدود تأثيره على الملفات الخلافية بين القاهرة وأنقرة، من ليبيا إلى شرق المتوسط، وصولاً إلى الملف الفلسطيني.
رسائل إقليمية
وفي السياق، وصف المستشار السابق برئاسة الوزراء التركية، جاهد طوز، استئناف مناورات "بحر الصداقة" بين مصر وتركيا بأنها "مبادرة مهمة للغاية"، مشيراً في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إلى أنها لا تقتصر على العلاقات الثنائية بين البلدين، بل تحمل رسائل مباشرة إلى "الكيان الصهيوني والولايات المتحدة والديناميات الداعمة له". وأوضح طوز أن السياسات والتحركات الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وما تلاها من قصف إسرائيلي متكرر لدول المنطقة، كان آخرها استهداف الدوحة، قد غيّرت قواعد اللعبة وأجبرت الدول الإقليمية على اتخاذ تدابير جديدة وتشكيل تحالفات أوسع. وفي رأيه فإن المناورات يجب أن تُقرأ في إطار هذا السياق، إلى جانب الاتفاقات التي تشكلت بين دول مثل باكستان والسعودية وقطر والإمارات، معتبراً أن "الصورة الكاملة تشير إلى اتفاقات أوسع وأكبر في المنطقة، كرد مباشر على التهديدات الإسرائيلية للأمن الإقليمي".
جاهد طوز: تتجه دول المنطقة نحو تحالف عربي – إسلامي لمواجهة التهديد الإسرائيلي
ولفت طوز إلى أن "تركيا ومصر، ومعهما دول مثل باكستان والسعودية، تتجه نحو تحالف عربي – إسلامي واسع لمواجهة التهديد الإسرائيلي"، مضيفاً أنه "من خلال هذه المناورات، تبعث أنقرة والقاهرة برسالة واضحة إلى جميع الأطراف بأنهما قادرتان على (تنفيذ) أي عملية عسكرية في شرق المتوسط، وأنهما لن تسمحا لأي قوة خارجية بتجاوز مصالحهما الاستراتيجية في المنطقة".
في المقابل، لا يرى عمار فايد، الباحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، أن استئناف مناورات "بحر الصداقة" بين مصر وتركيا مجرد خطوة رمزية، عازياً ذلك في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إلى أنها "تأتي في سياق مستمر من تطور التعاون العسكري بين الجانبين". وأضاف أن "هناك تقارير متواترة، وإن لم تتضح بشكل كامل بعد، تشير إلى توجه مصري–تركي نحو الشراكة في برامج تصنيع عسكري استراتيجية، مثل مشروع الطائرة قآن (مقاتلة تركية) والمسيّرات التركية، إلى جانب الزيارات المتبادلة بين قيادة الجيشين خلال الأعوام الأخيرة".
عمار فايد: مصر تسعى لتطوير قطاع الصناعات الدفاعية
من جهة أخرى أوضح فايد أن "مصر تسعى من جانبها لتطوير قطاع الصناعات الدفاعية، وهي حريصة على تعزيز التعاون مع دول لديها خبرات متقدمة في هذا المجال مثل تركيا وباكستان والبرازيل"، مشيراً إلى أن "تركيا أثبتت قدرتها بشكل لافت منذ حرب ناغورنو كاراباخ (2023 بين أذربيجان وأرمينيا)، ما يجعلها شريكاً محتملاً أكثر قرباً لمصر في هذا المجال". القاهرة، وفق فايد، مثل غيرها من دول المنطقة "تواجه مخاوف متزايدة من مساعي الهيمنة العسكرية الإسرائيلية، ما يفتح الباب أمام الحاجة إلى ترتيبات أمنية إقليمية جديدة أكثر استقلالاً عن واشنطن"، مضيفاً أنه "من المؤكد أن تركيا ستكون لاعباً رئيسياً في هذه الترتيبات، سواء مع مصر أو مع دول الخليج". وفي ما يخص اليونان، أكد فايد أن العلاقات العسكرية بين القاهرة وأثينا قوية، وأن تطور العلاقات المصرية – التركية "لا يعني أنه سيكون على حساب علاقات مصر مع اليونان".
ورغم التوترات السياسية المتكررة، فإن التعاون العسكري بين مصر وتركيا يمتد إلى عقود سابقة. فمنذ سبعينيات القرن الماضي شارك ضباط مصريون في تدريبات عسكرية في تركيا، كما جرى تبادل خبرات في مجالات الدفاع الجوي والبحري. وفي العقد الأول من الألفية الجديدة شهدت العلاقات دفعة قوية مع توقيع اتفاقيات تعاون دفاعي وتنظيم تدريبات مشتركة، أبرزها مناورات "بحر الصداقة" التي انطلقت عام 2009. هذا التاريخ يوضح أن التنسيق العسكري كان دائماً أحد أعمدة العلاقة بين البلدين، وأن استئنافه اليوم يمثل عودة إلى تقليد قديم توقف فقط بفعل الخلافات السياسية.