استمع إلى الملخص
- تسعى الحكومة لخفض العجز المالي من خلال إجراءات تقشفية، لكن بايرو يواجه صعوبة في تمرير الميزانية بسبب المعارضة القوية من الأحزاب الرئيسية.
- تتزايد الدعوات إلى إضراب عام في 10 سبتمبر ضد السياسات التقشفية، مما قد يؤدي إلى سقوط الحكومة وزيادة عدم الاستقرار السياسي في فرنسا.
وضع رئيس الحكومة الفرنسية فرانسوا بايرو، أول من أمس الاثنين، مصير حكومته في يد البرلمان الفرنسي، في خطوة وصفها البعض بالانتحارية، إذ أعلن العزم على إجراء تصويت على الثقة بحكومته، دعا البرلمان إلى عقده في جلسة استثنائية، مقرّرة في 8 سبتمبر/ أيلول المقبل. ويستبق بايرو، بذلك، حراكاً وتظاهرات مقرّرة في الشارع، و"عصياناً شعبياً" محتملاً، دعا إليها تجمع "لنغلق كل شيء" Bloquons tout، الذي نشأ في وقت سابق هذا العام، اعتراضاً على خطط الحكومة التقشفية، وقد يتوسع إلى أزمة شعبية، بدعم من اليسار. وبحسب مقربين من بايرو، كما تحدثوا إلى صحيفة لوموند، أمس الثلاثاء، فإن رئيس الحكومة فضّل الهروب إلى الأمام، وإطاحة حكومته من قبل البرلمان، وهو أمر مرجّح إلى حدّ كبير نظراً إلى عدم تمتعه بأغلبيةٍ مؤيدة له في الجمعية الوطنية، وذلك بدل الدخول في لعبة الشارع، أو في جدل عاصف مع المعارضة حول ميزانية 2026، المُحاصرة بأزمة المديونية. لكن صحيفة لومانيتيه الشيوعية، اعتبرت أن رئيس الحكومة يقول للبرلمانيين من خلال خطوته هذه، وكذلك للأحزاب المعتدلة: "أنا أو الفوضى". ويُدرك بايرو أنه لا يُمكنه فرض ميزانية تقشفية منفرداً، دون دعم برلماني أو شعبي، حيث إن فريقه، وهو فريق الرئيس إيمانويل ماكرون، لا يتمتع بأغلبية نيابية، فيما شعبية حكومته منحدرة.
الحكومة الفرنسية تواجه "مرحلة توضيح"
وأقرّ بايرو، عن حزب الحركة الديمقراطية (موديم - وسطي)، أول من أمس، خلال مؤتمر صحافي، بأن سعي الحكومة الفرنسية للحصول على ثقة برلمان منقسمٍ للغاية هو رهان محفوف بالمخاطر. وقال: "نعم، إنه أمر محفوف بالمخاطر، لكن عدم القيام بأي شيء أكثر خطورة"، في إشارة إلى ما قال إنه الخطر الكبير الذي تواجهه البلاد بسبب تراكم ديونها الضخمة. وأوضح أن البلاد تحتاج إلى "مرحلة توضيح"، وأن التصويت على الثقة بجلسة تحت عنوان البحث في "السؤال الرئيسي" الذي يتمحور حول "إدارة المالية"، سيقيس ما إذا كان لديه ما يكفي من الدعم بين النواب لضغط الميزانية بما يصل إلى 44 مليار يورو (51.51 مليار دولار)، إذ يحاول كبح العجز الذي بلغ 5.8% من الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي، أي ما يقرب من مثلي الحدّ الرسمي للاتحاد الأوروبي البالغ 3%. ولفت إلى أن "هذه المبالغ المقترضة بمئات المليارات، لم تُستخدم كما ينبغي للاستثمار"، لكن "في مصاريف جارية ولحماية مواطنينا". وخلال الجلسة الاستثنائية المقرّرة الشهر المقبل، أكد بايرو أنه سيتحمل وحكومته "المسؤولية" أمام الجمعية الوطنية. ومن شأن التصويت المرتقب أن "يكرّس الجهد المبذول" لخفض العجز العام في فرنسا، وبعده فقط "يناقش كلّ تدبير من هذه الخطة الطارئة"، بحسب شرحه، مشدّداً على أنه من دون موافقة البرلمان، فإن "التحرك" سيكون "مستحيلاً".
تتوالى الدعوات إلى إضراب في 10 سبتمبر لإسقاط الحكومة
هكذا، يتزايد اتجاه الحكومة الفرنسية (حكومة أقلية) التي يرأسها بايرو منذ ديسمبر/ كانون الأول 2024 نحو الانهيار، إذ أكدت ثلاثة أحزاب معارضة رئيسية أنها لن تدعم تصويت الثقة الذي طلبه بايرو، للمضي بالميزانية، بينما تريد أحزاب أخرى التصويت لإسقاط الحكومة. وأكد حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف برئاسة جوردان بارديلا، والذي تقوده فعلياً مارين لوبان، وكذلك الخضر والاشتراكيون، والذين يعتمد مصير بايرو على تصويتهم إلى حدّ كبير، أنهم لا يرون سبباً لدعمه. من جهته، أعلن كل من حزب "فرنسا الأبية" (اليسار الراديكالي بقيادة جان لوك ميلانشون) والشيوعي الفرنسي، أنه سيصوّت "لإسقاط الحكومة الفرنسية". وتوقع بارديلا بذلك "نهاية الحكومة"، فيما أبدت لوبان رغبة بإسقاط الحكومة وطلب حلّ البرلمان لكي "يختار الفرنسيون مصيرهم بأنفسهم". على المقلب اليميني، أكد زعيم حزب "الجمهوريين" برونو روتايو، أمس، أن حزبه سيمنح الثقة للحكومة، رافضاً أخذ البلاد إلى المجهول، فيما عقد الحزب أمس اجتماعات مكثفة.
ويعدّ حزب لوبان، الأكبر في البرلمان الحالي المؤلف من 577 نائباً، وذلك بـ120 نائباً، يليه تجمع "معاً من أجل الجمهورية" الذي يضم حزب الرئيس إيمانويل ماكرون (النهضة) وحلفاءه بـ80 نائباً، ثم حزب "فرنسا الأبية" بـ70 نائباً، والاشتراكيون بـ62 نائباً، واليمين (الجمهوريون) بـ42 نائباً. واستعان بايرو للدعوة إلى الجلسة بالمادة 49.1 من الدستور، التي تخوله ذلك، ولكن لإسقاط الثقة عنه، يحتاج ذلك فقط إلى أغلبية نسبية. أما المادة 49.2 من الدستور، فتحتاج إلى أغلبية قصوى، أي 289 صوتاً، وهي المادة التي يلجأ إليها البرلمان نفسه، عبر نوابه، لطلب طرح الثقة بالحكومة.
تتزايد الدعوات إلى إضراب عام في فرنسا في 10 سبتمبر المقبل، احتجاجاً على مشروع الميزانية
وفي حالة خسارة التصويت على الثقة في الجمعية الوطنية، تسقط الحكومة الفرنسية برئاسة بايرو، ما أثار منذ الآن هلع المستثمرين. وفي حال سقوط الحكومة، يمكن للرئيس الفرنسي تعيين رئيس وزراء جديد على الفور، أو أن يطلب من بايرو البقاء على رأس حكومة تصريف أعمال، كما يمكنه الدعوة إلى انتخابات مبكرة. وكان ماكرون خسر آخر رئيس وزراء له، ميشيل بارنييه، في تصويت بحجب الثقة جراء الميزانية في أواخر العام الماضي، وذلك بعد ثلاثة أشهر فقط من توليه منصبه عقب انتخابات مبكرة أخرى دعا إليها ماكرون، وأجريت في يوليو/ تموز 2024. وكان بايرو نفسه قد نجا من تصويت بحجب الثقة في يوليو الماضي، بعدما رفض حزب التجمع الوطني اليميني دعم اقتراح حجب الثقة الذي قاده الاشتراكيون. ويبدو من الصعب حالياً أن يتمكن رئيس الحكومة من إقناع الحزب الاشتراكي بالامتناع عن التصويت، للنجاة من حجب الثقة، وقد أكد زعيم الحزب أوليفييه فور أنه "ليس متخيلاً أبداً أن يمنح الحزب ثقته للحكومة".
وجاء إعلان بايرو، أول من أمس، مع تزايد الدعوات إلى إضراب عام في البلاد في 10 سبتمبر المقبل، احتجاجاً على مشروع الميزانية والخطط التقشفية التي تطرحها الحكومة الفرنسية. وارتفع معدل الدين العام الفرنسي إلى 114% من الناتج المحلي الإجمالي، ما جعل البلاد تسجل واحداً من أعلى معدلات الدين في منطقة اليورو التي تضم 20 دولة من دول الاتحاد الأوروبي (ارتفع الدين ألفي مليار يورو في غضون 20 عاماً). ورفض وزير المالية إريك لومبارد، أمس، "الاستسلام لفكرة سقوط الحكومة" الشهر المقبل، وقال "نحن في خضم المعركة"، لكن "لومانيتيه" رأت أن بايرو قد يفضل ترك الحكومة والتفرغ لـ"التحضير لترشحه للرئاسة" (المقرّرة في 2027). علماً أنه إذا تمكن بايرو من البقاء رئيساً للحكومة، فليس مؤكداً قدرته على تمرير الميزانية، التي لا ترى الكثير من الأحزاب قدرة على تحمل الموافقة عليها، ما قد يدفعه إلى اختيار فرضها عبر المادة 49.3 من الدستور، التي تخوله ذلك من دون العودة للبرلمان. وكان بايرو قد لجأ، في فبراير/ شباط الماضي، مرتين إلى هذه المادة، ما سمح له بتمرير مشروع قانوني الموازنة لعام 2025 والتأمين الصحي من دون تصويت نواب البرلمان، بعد فشل المفاوضات مع أحزاب المعارضة.
وتشمل إجراءات بايرو الجديدة، للعام المقبل، تدابير قاسية على الفرنسيين، مثل "سنة بيضاء ضريبية" وتجميد المعاشات والمساعدات الاجتماعية (تجميد معظم النفقات العامة لعام 2026، وهو ما يُطلق عليه اصطلاحا "العام الأبيض"، حيث تُعاد موازنات الوزارات والبرامج الاجتماعية كما هي دون تعديل رغم ارتفاع الأسعار)، وإلغاء يومي عطلة رسميين، وهي خطوة يرفضها 84% من الفرنسيين بحسب استطلاع أجرته مؤسسة "أودوكسا" لصالح صحيفة لو باريزيان، ونشر أول من أمس الاثنين. ومن ضمن خططه أيضاً ألا يتمّ استبدال موظف حكومي من أصل كل ثلاث موظفين حكوميين يذهبون إلى التقاعد خلال السنوات المقبلة، ما يعني وفق صحيفة لوفيغارو أمس، إلغاء بين 100 و150 ألف وظيفة عامة، إذا ما طُبقت الخطة على مدى عامين أو ثلاثة أعوام. ولم يتمكن بايرو من إقناع المعارضة بإمكانية فرض ما وصفه بـ"مساهمة الأثرياء"، بعدما ذكّر بأن حزبه كان قد عارض إلغاء الضريبة على الثروة عام 2017.
واستبق بايرو بإعلانه، أول من أمس، دعوات انتشرت على وسائل التوصل للعصيان الشعبي في 10 سبتمبر المقبل، وتحظى بدعم من حزب ميلانشون، الذي عبّر عن أمله في إضراب عام. وتقود الدعوات حركة "لنغلق كل شيء"، التي برزت خصوصاً في يوليو الماضي، ودعت إلى إضراب وتظاهرات في 10 سبتمبر، لإسقاط الحكومة ومنع تمرير الميزانية التقشفية. لكن بعض النقابيين، مثل صوفي بينيه من الكونفدرالية العامة للعمّال، أعربوا عن ترددهم إزاء ما وصفوه بـ"الحراك الغامض"، الذي يستدعي ذكريات أزمة "السترات الصفراء" (ظهرت في 2018)، فيما رفضت النقابات جميعها مشروع الميزانية، كما تعارض إصلاح التأمين ضد البطالة، وتبحث عن وسائل للتحرك قبل اجتماع مشترك مرتقب للنقابات في الأول من سبتمبر. من جهتها، بادرت بعض الاتحادات الإقليمية والفيدراليات والنقابات بالإعلان عن مشاركتها في التعبئة يوم 10 سبتمبر.