جدّة، المدينة السعودية الساحلية التي تحولت إلى محطة سياسية مهمة في الأعوام الأخيرة، تستقبل اليوم الجمعة وغداً السبت عدة قمم دولية غير مسبوقة، لمناقشة قضايا الشرق الأوسط، وارتباطها بالنزاعات والتحديات الدولية.
القمة الأولى تنعقد بين الرئيس الأميركي جو بايدن والملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده محمد بن سلمان، والثانية بين بايدن وقادة دول مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وملك الأردن عبد الله الثاني، ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي.
بايدن في السعودية: دور للتقريب مع إسرائيل
ينتقل بايدن اليوم الجمعة إلى السعودية مباشرة، بعد زيارة يقوم به إلى إسرائيل والضفة الغربية، ما يحمل رسائل ذات قيمة رمزية تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، والدور الذي تؤديه واشنطن في التقريب بين إسرائيل والدول العربية، وما يترتب على ذلك من مشاريع أمنية للربط بين الدول الأساسية، من خلال منظومات دفاعية لخلق توازن مع المشروع العسكري الإيراني، ومواجهة الأخطار المحتملة على إسرائيل وبعض دول الخليج العربي.
تعهدت "أوبك"، قبل زيارة بايدن، برفع الإنتاج بمعدل 600 ألف برميل يومياً
جدول أعمال اللقاءات الأميركية في جدة كما هو معلن يتناول قضايا ثنائية، وأخرى متعددة الأطراف تتعلق بالطاقة، الاتفاق النووي الإيراني، حرب اليمن، الحرب الروسية على أوكرانيا، الصين وحضورها الاقتصادي وبرامج التعاون العسكري بينها وبين السعودية والإمارات وإيران.
ومن أجل وضع اللمسات الأخيرة على جدول الأعمال، سافر منسق البيت الأبيض للشرق الأوسط بريت ماكغورك إلى السعودية في السادس من الشهر الحالي، في ثاني زيارة له خلال هذا العام والرابعة منذ وصول إدارة بايدن إلى البيت الأبيض مطلع عام 2021.
تراكمات ثقيلة على العلاقات الأميركية - السعودية
يمنح ذلك الزيارة الأميركية أهمية خاصة، ويسهل من مجرياتها بعد أن كانت تبدو متعثرة، بسبب التراكمات التي تثقل ملفات العلاقات السعودية الأميركية، وتعود إلى فترة إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، التي اختلفت عن الإدارات الأميركية التي سبقتها في النظر إلى الشراكة التاريخية بين الرياض وواشنطن، وأجرت مراجعة، وجّهت بعدها انتقادات صريحة لملف حقوق الإنسان وأوضاع المرأة في السعودية، وأعادت النظر بالعديد من اتفاقات التسليح وتبادل المعلومات. وتوقف هذا التوجه، وسار في خط عكسي خلال إدارة دونالد ترامب، ثم ما لبث أن رجع بقوة مع إدارة بايدن.
وصعد منسوب التوتر بين الرياض وواشنطن إلى درجة عالية، لأن بايدن تعهد خلال حملته الانتخابية بجعل السعودية "منبوذة". ويعود ذلك إلى سلسلة من الخلافات حول عدد من القضايا، وعلى نحو خاص سجلّ المملكة في مجال حقوق الإنسان، وقتل الإعلامي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول عام 2018.
وكان تقرير المخابرات الأميركية قد حمّل ولي العهد محمد بن سلمان المسؤولية عن الجريمة، إلا أن قيام الرئيس الأميركي بزيارة السعودية يعني أن بايدن تراجع عن أمرين: الأول هو تعهده بمعاملة السعودية على أنها "منبوذة"، والثاني هو الانتقادات التي وجهها لانتهاكات السعودية لحقوق الإنسان.
وكي يحفظ خط الرجعة، أكد بايدن أنه "لا يوجد أي التزام يتم التعهد به" مع أنه وافق على عقد لقاء يجمعه مع ولي العهد بعد عدة جولات من التفاوض بين الطرفين، شارك فيها ماكغورك ورئيس المخابرات المركزية الأميركية وليم بيرنز، الذي التقى بن سلمان في جدة في إبريل/ نيسان الماضي.
في المقابل، يطمح بايدن إلى أن يعود من الزيارة، وقد حقق إنجازات عدة. الأول يتعلق بالنفط، وتأمل واشنطن أن تقنع الرياض وبقية دول مجلس التعاون المنتجة للنفط، والعراق، برفع الإنتاج لتعويض النقص الحاصل في الأسواق من جراء الحظر المفروض على النفط الروسي.
وكي لا ترتفع الأسعار بشكل دراماتيكي ويقترب سعر برميل النفط من 300 دولار في الشتاء المقبل، تراهن الولايات المتحدة على ضخ السعودية لوحدها ما بين مليونين وثلاثة ملايين برميل إضافي يومياً، وبذلك تعوض هي والإمارات والكويت والعراق ما يقارب خمسة ملايين برميل.
وربما تكون شهور التحضير للرحلة الرئاسية قد آتت أولى ثمارها بالفعل، ذلك أن منظمة "أوبك" تعهدت في بداية يونيو/ حزيران الماضي بأنها سترفع الإنتاج بمعدل 600 ألف برميل يومياً اعتباراً من الشهر الحالي.
ملف آخر ثنائي، لا يتوقف عليه إصلاح العلاقات السعودية الأميركية، ولا يرقى إلى حاجة الولايات المتحدة لزيادة إنتاج النفط السعودي، وهو يتعلق بخطوات التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل.
ويضفي بايدن على الزيارة طابعاً رمزياً بانتقاله من تل أبيب إلى جدة جواً، مباشرة، وهو عبّر عن ذلك في المؤتمر الذي عقده في مدريد نهاية الشهر الماضي، عندما قال: "إنني أبدأ الرحلة من إسرائيل، ويعتقد الإسرائيليون أنه من المهم حقاً أن أقوم بالرحلة إلى المملكة العربية السعودية". وأضاف الرئيس الأميركي أن الزيارة ستتناول تعميق اندماج إسرائيل في المنطقة.
وترى واشنطن أن مباركة الرياض للتحالف القائم بين إسرائيل وبعض الدول العربية من شأنه أن يشجع المزيد من الدول العربية على تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
وبحسب معلومات نشرتها وسائل الإعلام الغربية في الآونة الأخيرة، فإن واشنطن تطالب الرياض بالانخراط في تعاون عسكري واستخباري أكثر انفتاحاً مع إسرائيل، والعمل على دمج الدفاعات الجوية في جميع أنحاء المنطقة، وإجراء المزيد من التدريبات العسكرية المشتركة، وهناك مشروع قانون أمام الكونغرس الأميركي ينتظر من الرئيس المصادقة، وهو يطالب وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بتطوير نظام دفاع جوي متكامل لإسرائيل والسعودية وثماني دول عربية أخرى.
لا تضغط واشنطن على الرياض لتطبيع سريع للعلاقات مع إسرائيل، وتريد أن يكون التقدم نحو التطبيع الكامل تدريجياً
يقوم هذا المشروع على أساس أن التحالف الذي يضم بعض دول الخليج وإسرائيل والولايات المتحدة سيكون لديه فرصة لردع هجمات إيران بالوكالة وانتشار الصواريخ في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وذلك بغض النظر عما إذا كان الاتفاق النووي الإيراني سيتم إحياؤه أم لا.
ولا تضغط واشنطن على الرياض لتطبيع سريع للعلاقات مع إسرائيل، وتريد أن يكون التقدم نحو التطبيع الكامل تدريجياً، ويجب أن يكون القادة السعوديون مستعدين لتطوير خريطة طريق واضحة للانضمام إلى "تحالف النقب". ويمكن البدء في ذلك بالسماح لمزيد من الرحلات الجوية التجارية الإسرائيلية بعبور المجال الجوي السعودي، وتوسيع العلاقات التجارية والشعبية.
وفي ما يخص حرب اليمن، فإن الإدارة الأميركية معنية بالحفاظ على الهدنة القائمة، التي تم التوصل إليها في إبريل الماضي، وتطويرها وتوسيع نطاقها لمعالجة مناطق التوتر بين البلدين. وهناك تقديرات بأن بايدن عازم على أن يضغط على السعودية للعمل بشكل مكثف مع الأمم المتحدة، لتحويل وقف إطلاق النار إلى تسوية سلمية دائمة.
ومن طرف السعودية، تشكل مسألة استمرار مبيعات الأسلحة الأميركية نقطة جوهرية. وحتى عام 2021، وافق البنتاغون على ما قيمته 54.6 مليار دولار من الأسلحة للسعودية والإمارات. والخلاف يدور اليوم حول تعريف دقيق للأسلحة "الهجومية" و"الدفاعية".
ريبةٌ أميركية من التقارب السعودي - الصيني
ونشرت الصحافة الأميركية العديد من الآراء حول الزيارة، يركز بعضها على أن القيام بها لا يعني استرضاء السعودية. وإذا كانت الولايات المتحدة ستعيد تأكيد التزامها بالأمن السعودي، فيجب على القادة السعوديين التراجع عن الانفتاح على الروس والصينيين.
وبحسب "وول ستريت جورنال"، فإن الخطر بالنسبة لواشنطن يكمن في أن الرياض سوف تتعاون بشكل أوثق مع بكين وموسكو، أو على الأقل، قد تظل محايدة بشأن القضايا ذات الأهمية الحيوية لواشنطن، كما فعلت مع الأزمة الأوكرانية. وتنظر واشنطن بقلق إلى التطورات في علاقات الرياض مع موسكو وبكين.
ولا تخفي أميركا قلقها من مبادرات سعودية علنية تجاه الصين، منها تعهد نائب وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان، في يناير/كانون الثاني الماضي، بتعميق العلاقة العسكرية لبلاده مع الصين. وترأس وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في مارس/آذار الماضي وفداً من الكويت وعمان والبحرين ودول مجلس التعاون الخليجي إلى بكين.
وقالت "وول ستريت جورنال" إن المملكة تفكر في تحويل تجارتها النفطية إلى العملة الصينية "يوان"، وهذا تهديد لهيمنة الدولار الأميركي. ويجري ذلك في ظل زيارة محتملة للرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السعودية، لكنها تأخرت لأسباب تتعلق بالاحتياطات الصينية الصحية حيال كورونا.
ينوي بايدن أن يشرح للسعوديين ما يمثله الخطر الصيني من منظور مساعدات الصين لإيران
وتمهد هذه الخطوات من جانب الصين لاتفاقية تجارة حرة مع مجلس التعاون الخليجي. وعلى الرغم من عدم عقد أي صفقات كبيرة حتى الآن، فإن فشل واشنطن في إصلاح العلاقات الاستراتيجية السعودية قد يدفع المملكة بقوة نحو الصين.
ويمكن لبايدن البدء بإصلاح تلك العلاقات في هذه الرحلة إذا جرت مراجعة مُركّزة لواقع الشراكة السعودية الأميركية. ومن ذلك ينوي الرئيس الأميركي شرح ما يمثله الخطر الصيني، من منظور مساعدات الصين لإيران، بعدما أصبحت بكين في السنوات الأخيرة الشريك الاقتصادي المفضّل لطهران.
وتجاوزت مشتريات النفط الصينية عقوبات "الضغط الأقصى" الأميركية ضد طهران، وتعهدت بكين في العام الماضي بتقديم 400 مليار دولار لاستثمارات في الطاقة والبنية التحتية في إيران على مدار 25 عاماً.
ويعمل البلدان على تنمية شراكتهما الأمنية. وأجرت إيران والصين وروسيا مناورات بحرية مشتركة في يناير الماضي. ومن المتوقع أن يضع بايدن المسؤولين السعوديين في صورة تقييمات المخابرات الأميركية للتعاون الاقتصادي والأمني بين الصين وإيران، وكيف يمكن أن تضر هذه الروابط بالرياض على المدى الطويل.