بعد 3 أشهر وصف أحد المخضرمين سياسة الرئيس الأميركي جو بايدن إزاء الحرب على غزة بأنها "عرضيّة متقلّبة يديرها عناصر من ذوي المستوى المتوسط والمعرفة الهزيلة بهذه الأزمة". في الواقع هي بدت كذلك ما عدا مسألتين ما زالت الإدارة الأميركية فيهما على ثباتها حتى الآن: الدعم المفتوح للعملية العسكرية الإسرائيلية مع قطع الطريق على أي مشروع لوقف إطلاق النار، والمسألة الثانية، منع توسيع الحرب. باستثناء ذلك توصيفه صحيح.
فالإدارة الأميركية بدّلت أو تهاونت في مواقفها المعلنة أكثر من مرة. في البداية نصحت بعدم اجتياح القطاع، لكنها تراجعت أمام إصرار حكومة نتنياهو. أبدت حرصها على "حماية المدنيين" لكنها سرعان ما تولت دور المحامي عما زعموا (مثل السفير الإسرائيلي في واشنطن) بأنها "خسائر جانبية" تقع في سائر الحروب و"يصعب تجنبها"! أدركت أن في الأمر عملية إبادة لكنها تذرعت بأن أرقام وزارة الصحة في القطاع غير موثوقة رغم أن الجهات الأميركية مثل جريدة "واشنطن بوست" أخذت بها. سرّبت، أي إدارة بايدن، معلومات تفيد بأنها "أعطت إسرائيل مدة أسبوع إلى أسبوعين لتنهي عملياتها وربما في أواخر السنة" الماضية، ثم تراجعت في ضوء تعثر العملية العسكرية لتعلن أن السقف الزمني "تحدده إسرائيل" كما قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، تماما كما أكده نتنياهو ووزير الأمن يوآف غالانت ومسؤولون آخرون شددوا على أن الحرب "طويلة" وأن إسرائيل وحدها هي المعنية بتحديد أمدها.
وفيما تردد وعلى الأرجح بإيحاء من مسؤولين كبار خلال ديسمبر/كانون الأول الماضي، بأن العلاقة بين بايدن ونتنياهو باتت على شفير "الانهيار" (المعلق المطلع دافيد روثكوف)، عاد الخطاب الرسمي ليشدد على أن علاقة واشنطن وتل أبيب "صلبة كالصخر" بتعبير وزير الدفاع لويد أوستن. وبالمناسبة، يُذكر أن هذا الأخير فاجأ الجميع، أمس، وبما طرح أسئلة محيّرة ومقلقة بعد انكشاف أمر دخوله سرا إلى المستشفى من دون علم أحد من المسؤولين بمن فيهم الرئيس بايدن ولا حتى نائبه الذي كان خارج واشنطن!
كل هذا التذبذب في الموقف حصل من باب التماهي مع الحكومة الإسرائيلية على أرضية التوافق حول وجوب إعادة تصحيح التوازن في المنطقة بعد زلزال 7 أكتوبر. وإذا كان التماهي هذا ممارسة متوارثة في العلاقة بين واشنطن وإسرائيل، إلا أنه هذه المرة تطور على ما يبدو إلى حدود التمويه على خطوات خطيرة تعدّ لها إسرائيل، وبالتحديد على محاولاتها الجدية لتهجير قسم كبير من فلسطينيي القطاع إلى الخارج، "ربما إلى دول أفريقية لو تيسر ذلك"، وفق ما أوردته تقارير منسوبة معلوماتها إلى مصادر إسرائيلية. فالمواجهة الميدانية تبدو بعد 3 أشهر غير قادرة على تحقيق غاياتها، لا العسكرية ولا المتعلقة باستعادة الأسرى. بل صار من المستبعد تحقيقها في المدى المنظور عبر العملية العسكرية، حسب معظم التقديرات. ومن هنا انتعاش الحديث عن البدائل مثل استبدال "تدمير حماس" بتدمير غزة وجعلها "غير قابلة للسكن". أو تحجيم سكانها إلى الحد الأدنى حسب ما ارتأى نتنياهو منذ البداية.
وكانت تقارير إسرائيلية مبكرة قد ذكرت أن رئيس الحكومة كلف صديقه المقرب رون ديرمر وزير الشؤون الاستراتيجية "بإعداد خطة" للتخلص من الكتلة السكانية في القطاع وتقليصها "إلى أدنى الحدود". وتجدر الإشارة إلى أن المذكور قد قام بزيارة إلى واشنطن قبل أسبوعين التقى خلالها مع الوزير بلينكن ومستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان. ومع أنها أحيطت بالتكتم الشديد إلا أن الموضوع لا بد وأنه كان على جدول الأعمال، بحكم أن الزيارة جاءت وسط تجدد الحديث عن "التهجير الطوعي" هذه المرة وذلك في امتداد للضغوط التي يتعرض لها أكثر من مليون نازح "حشروا في مساحة متضائلة" في جنوب القطاع. وكان هذا موضوع المقابلة التي جرت، الأحد، في برنامج "لقاء مع الصحافة" على شبكة إن بي سي الأميركية مع الرئيس الإسرائيلي إسحق هيرتسوغ الذي قال إن ما يتردد عن "تهجير سكان غزة لا يعبّر عن موقف الحكومة الإسرائيلية". وزعم أن ما أتى على لسان بعض وزرائها في هذا الخصوص لا يمثل سوى صاحبه، زاعما أنه "من حق أي وزير في نظام ديمقراطي أن يقول ما يشاء" (وهو يشير إلى كلام وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش عن ترحيل فلسطينيي غزة).
ثم أضاف مؤكداً بأن ذلك "ليس إطلاقا موقف الحكومة"، لكن عندما طاردته المذيعة بالسؤال عما إذا كان ينبغي على رئيس الحكومة نتنياهو "أن يعلن ذلك على الملأ" ، تهرب من الرد متجاهلا سؤالها.
التفافه على السؤال عزّز علامات الاستفهام الكبيرة المطروحة بشكل متزايد حول هذا الموضوع. وما يزيد الريبة في نفي الإدارة الأميركية ويجعله أقرب إلى التمويه، هو أنها تتعامل مع الموضوع بلغة ملتوية وبتوضيحات رمادية قابلة للتأويل، مثل قول الوزير بلينكن في مؤتمره الصحافي في الدوحة، الأحد، بأن سكان شمال غزة ينبغي عودتهم "متى سمحت الظروف"! وهذه قد لا تسمح لوقت طويل كما تتوعد حكومة نتنياهو وبما يضع هذا الوعد الفضفاض في مهب رياح الحرب غير المعروفة وجهتها وحتى إشعار آخر.
الاكتفاء بتكرار رفض "التهجير القسري" (وليس أي تهجيرمموّه)، من دون ربطه بخطوات رادعة، يُبقي احتمالات الترحيل قائمة بصورة أو بأخرى ويرجح كفة الاعتقاد بأن الدخان في هذا الموضوع ليس بدون نار وأن إدارة بايدن بقدر ما تتماهى مع إسرائيل بقدر ما تقوم بدور تمويهي للتغطية على خطط حكومة نتنياهو التي لا تبخل في الكشف عن نواياها في العودة إلى سياسة الاقتلاع التي اعتمدتها إسرائيل في أربعينيات القرن الماضي.