استمع إلى الملخص
- رغم نجاح الاستعمار الفرنسي في فترات محدودة، تمكنت الثورة الجزائرية من توحيد الجهود لطرد الاستعمار وإقامة دولة وطنية تحترم التنوع الثقافي، لكن محاولات باريس لإثارة النعرات لم تتوقف.
- تستمر فرنسا في دعم حركات انفصالية مثل "ماك"، لكن هذه المحاولات تواجه الفشل بسبب وعي الدولة والنخب الجزائرية بالمخاطر وتفكيكها للألغام الاستعمارية.
جزء من تركيز إعلام اليمين الفرنسي وصحفه، والنخب الفرنسية من الاتجاه نفسه، إزاء الأزمة السياسية القائمة بين باريس والجزائر، يتوجه نحو منطقة القبائل (غالبية السكان من الأمازيغ)، عبر استدعاء الخصوصيات الثقافية والهوياتية، بقصد سياسي واضح لإثارة التمايز المناطقي في بُعده السلبي، وضمن محاولة الاستفادة من دينامية الأقليات التي باتت تُستخدم بمثابة عامل تفتيت وخلق القلاقل والأزمات الداخلية في الدول. فهم المسألة يستدعي بالضرورة العودة إلى التاريخ، منذ الفترة الأولى للاحتلال الفرنسي للجزائر، اشتغل المجال الأكاديمي الفرنسي المرافق للكولونيالية، على الأنثروبولوجيا وسوسيولوجيا المجتمعات المحلية في الجزائر. لم يكن المقصد من ذلك مسعى علمياً، بل توفير أدوات يمكن للمشروع الاحتلالي توظيفها، للسيطرة على الأرض والإنسان والمقدرات، واستغلال كل الفوارق الهوياتية والمناطقية لمنع قيام أي مقاومات محلية أو فكرة وطنية وحدوية.
الواقع التاريخي يقول إن هذا المسعى نجح في فترات ضئيلة بسبب ظروف وملابسات تاريخية، لكنه فشل في النهاية، وحسمته التجربة الثورية الجزائرية، التي تجاوزت كل ذلك واستوعبت كل التوجهات عبر تدبير وسائلها النضالية، بدحر الاستعمار وطرده من البلاد، تحت عنوان مقاومة وطنية موحدة، وإقامة دولة وطنية حافظت على وحدة الجغرافيا واحترام كل الأبعاد الثقافية المحلية، بغض النظر عن الخيارات التي اتخذتها قادة الجزائر، والتي يمكن أن تكون محل نقاش وتقييم يأخذ بعين الاعتبار مخلفات الاستعمار وظروف ما بعد الاستقلال.
هل يستسلم الاستعمار لقدر التحرير؟ للأسف ليس كذلك، القائد الفيتنامي الجنرال فو نغوين جياب يقول إن "الاستعمار تلميذ غبي"، ولذلك يبرز معطى تكرار محاولات باريس توظيف عامل الأقليات وإثارة النعرات في الجزائر والتركيز على منطقة القبائل. في كل الفترات والأزمات بين البلدين منذ الاستقلال، هناك فصل لا يظهر في الغالب في مجال النقاش، وهو أن باريس لها تجربة سابقة في دفع عناصر ونشطاء من الحركة البربرية إلى التمرد المسلح. في عام 1975 عاد نشطاء من الحركة من فرنسا إلى الجزائر وأنشأوا منظمة القوات البربرية المسؤولة عن وضع قنابل في مقر صحيفة المجاهد، كبرى الصحف الحكومية وسط العاصمة الجزائرية، وداخل المحكمة العسكرية في قسنطينة، انفجرتا في نفس اليوم، وخلّفتا عدداً من الضحايا، إضافة إلى قنبلة ثالثة وضعت داخل المحكمة العسكرية في وهران غربي الجزائر.
استكمالاً لذلك، تحتضن فرنسا منذ عقدين، مقر حركة انفصالية تطالب باستقلال منطقة القبائل (ماك، صنفتها السلطات الجزائرية تنظيماً إرهابياً منذ مايو/أيار 2021)، ضمن أوراق الضغط التي تستخدمها في العلاقة مع الجزائر. وتُظهر الوقائع بوضوح تحالفاً بين نخب اليمين المتطرف في فرنسا، وبين قيادات الحركة التي لا تخفي دعمها وإعجابها بالنموذج الإسرائيلي. التطور اللافت هذه المرة، هو توظيف واستخدام نخب ثقافية جزائرية آتية من بيئة مغايرة، تم استيعابها داخل الماكينة الثقافية الكولونيالية في فرنسا، لأجل الحفر وتفجير الهويات والتمايز الثقافي في الجزائر، يمثل الروائي كمال داود وغيره نموذجه الراهن.
يبقى هذا المسعى خائباً ومعطوباً، لثلاثة أسباب رئيسية، أنه يأتي في توقيت تهشم فيه وجه الغرب المتلبس بالحريات وحماية الأقليات، ولأنه يعتمد على فكرة قتلتها الثورة الجزائرية تماماً وبشكل مبكر، فكرة الأقليات في مقابل الأغلبية التي لا وجود لها في الجزائر، ولأن الدولة والنخب السياسية في الجزائر استوعبت هذه المعضلة بوعي، وجرى تفكيك تدريجي لهذه الألغام التي زرعها الاستعمار بداية، وغذتها بكل أسف وموضوعية بعض الممارسات السلطوية الخاطئة. المحنة علّمت الجزائريين أكثر من غيرهم، أن الرماد ابن النار، وأن فرنسا أم المصائب.