انتخابات غرينلاند: الرغبة بالاستقلال لا تعني تأييد طموحات ترامب

09 مارس 2025   |  آخر تحديث: 04:12 (توقيت القدس)
خلال تظاهرة ضد العنصرية في نوك، 27 فبراير 2025 (مادس شميدت راسموسن/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تشهد غرينلاند انتخابات برلمانية حاسمة يتنافس فيها ستة أحزاب على 31 مقعدًا، وسط دعوات متزايدة للاستقلال عن الدنمارك وتجدد اهتمام الولايات المتحدة بالجزيرة.
- تتباين مواقف الأحزاب حول الاستقلال؛ حيث يدعو حزب "ناليراك" للاستقلال الفوري، بينما يفضل حزب "سيموت" التروي، ويقترح حزب "أتاسوت" اتفاقية ارتباط حر.
- تزايدت المشاعر السلبية تجاه الدنمارك بين سكان غرينلاند، حيث يشعر 82% بعدم المساواة، مما يعزز الدعوات للاستقلال، مع الحاجة لتفاهمات مستقبلية لضمان الاستقرار.

ستكون غرينلاند، أكبر جزر القطب الشمالي، مع استحقاق مهم الثلاثاء المقبل، حيث سيختار نحو 44 ألف ناخب من شعبها برلمانهم المؤلف من 31 عضواً، وذلك في وقت يتزايد فيه السجال حول مستقبل الجزيرة. فمن ناحية، عاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى تكرار رغبته بالسيطرة على غرينلاند، ومن ناحية ثانية، تتوسع دعوات الاستقلال عن الدنمارك، ما يجعل انتخابات غرينلاند الحالية مهمة جداً، وهي جاءت قبل نحو شهر من موعدها المقرر سابقاً في الرابع من إبريل/نيسان المقبل.

ولا ينطلق ترامب من العبث بطموحاته التوسعية الهادفة لسيطرة الولايات المتحدة على جزيرة غرينلاند (بمساحة مليوني كيلومتر مربع وحوالي 56 ألف نسمة)، فهذه الجزيرة التي تحظى بحكم ذاتي والخاضعة للدنمارك (ضمن كومنولث يضمها مع جزر الفارو للدنمارك)، لطالما عبّر أبناؤها عن رغبتهم بالاستقلال، وسط شكوى متصاعدة فيها تجاه سياسات كوبنهاغن التي يصفها البعض بـ"الاستعمارية"، لتستفيد بعض الأحزاب راهناً من تصريحات الرئيس الأميركي للدفع علناً بخطاب الاستقلال، لكن مع شبه إجماع على رفض الانضمام إلى الولايات المتحدة. وتتنافس ستة أحزاب رئيسية في انتخابات غرينلاند لنيل الأغلبية في البرلمان المحلي لتأمين 16 صوتاً لتشكيل الحكومة. ويتزعم اليساري موتي بوروب إيغيدي منذ 2021 الحكومة المشكّلة من حزبه اليسار الاشتراكي وحزب يسار الوسط، وسط تصاعد الجدل حول ما إذا كان يتعين على غرينلاند الاستقلال عن التاج الدنماركي سريعاً.

إيغيدي: لا نريد أن نكون أميركيين ولا دنماركيين، نحن غرينلانديون

وأعرب إيغيدي أخيراً بشكل صريح عن موقفه تجاه رغبة ترامب ضم الجزيرة قائلاً: "لا نريد أن نكون أميركيين ولا دنماركيين، نحن غرينلانديون"، مضيفاً أنه "ينبغي على الأميركيين ورئيسهم أن يدركوا ذلك. نحن لسنا للبيع ولا يمكن ببساطة الاستيلاء علينا". جاء ذلك رداً على عودة ترامب للإعراب عن رغبته بضم الجزيرة، إذ قال في خطابه أمام الكونغرس مساء الثلاثاء الماضي متوجهاً لشعب غرينلاند بالقول: "نحن نؤيد بقوة حقكم في تقرير مستقبلكم، وإذا رغبتم في ذلك، فنحن نرحب بكم في الولايات المتحدة الأميركية". وتابع: "نحن بحاجة إلى (غرينلاند) حقاً من أجل الأمن العالمي الدولي - وأعتقد أنّنا سنحصل عليها. بطريقة أو بأخرى، سنحصل عليها". وقال "سنضمن أمنكم، وسنجعلكم أغنياء، معاً، سنأخذ غرينلاند إلى آفاق لم تتخيّلها من قبل". وجاء الرد على ترامب من كوبنهاغن أيضاً، إذ قال وزير الدفاع الدنماركي ترويلز لوند بولسن للتلفزيون الدنماركي: "هذا لن يحدث"، مشيراً إلى جانب "إيجابي" في خطاب ترامب، حيث ذكر احترام سكان غرينلاند في تقرير مستقبلهم.

أحزاب استقلالية... غرينلاند ليست للبيع

تظهر مواقف أغلبية الأحزاب السياسية في غرينلاند من اليسار إلى القوميين حماسة لقضية الاستقلال عن الدنمارك، وإن اختلفت على التوقيت والوسائل. بينها من يرى ضرورة تفعيل الاستقلال الفوري، وبعضها يريد فترة انتقالية ومفاوضات مع كوبنهاغن. هذا إلى جانب أن مسألة الاستقلال يجب أن تخضع لاستفتاء شعبي، بحسب قانون الحكم الذاتي الموسع، الذي عدّل في عام 2009، وتنص المادة 21 منه حول حق الدخول في مفاوضات مع الدنمارك من أجل الاستقلال عنها، علماً أن الجزيرة حصلت على حكمها الذاتي في عام 1979. طرحت بعض الأحزاب السياسية في 2023 على كوبنهاغن العمل على دستور يذهب بغرينلاند نحو الانفصال عن الدنمارك. وجاءت تصريحات ترامب حول رغبته بالسيطرة عليها لتسرّع من النقاش. واليوم، باتت أغلبية الأحزاب مؤيدة لطلب الاستقلال، وبدرجات متفاوتة حول سرعة الوصول إليه.

أغلبية الأحزاب في غرينلاند مؤيدة لطلب الاستقلال، وبدرجات متفاوتة حول سرعة الوصول إليه

ويأتي في مقدمة تلك الأحزاب الاستقلالية حزب ناليراك (يصنف قومياً شعبوياً) الذي تأسس عام 1970 على خلفية المطالبة بالاستقلال. ومع أن الحزب استفاد من زخم نقاش ترامب عن غرينلاند على مستوى السجال الإعلامي-السياسي، إلا أنه لا يقبل أن تصبح أرضه جزءاً من الولايات المتحدة. ويطالب الحزب اليوم بضرورة الذهاب الفوري إلى الاستقلال. وحصل الحزب في انتخابات  غرينلاند عام 2021 على أربعة مقاعد من أصل 31. آخر استطلاع أجري في يناير/كانون الثاني الماضي يتوقع له تقدماً إلى خمس مقاعد. أما حزب اليسار الاشتراكي "إنويت أكاتيغيت" الذي يحكم اليوم بزعامة إيغيدي بالائتلاف مع حزب "سيموت" من يسار الوسط، فهو يبشر بضرورة الدخول الفوري في مفاوضات الاستقلال، من خلال تفعيل المادة 21 من قانون الحكم الذاتي. ويُتوقَع له أن يحافظ على مقاعده الـ12 (نحو 36.6%) التي حصل عليها في انتخابات غرينلاند البرلمانية الماضية، وإذا تراجع، فبمقعد واحد.

أما حزب يسار الوسط "سيموت"، وهو الذي كان منذ 1979 يهيمن على حكومات الحكم الذاتي، فهو يعاني من انقسام داخله، ليس على الاستقلال بل على طريقة الانفصال عن الدنمارك. ويصنف الحزب اجتماعياً ديمقراطياً شقيقاً للحزب الدنماركي نفسه الذي تتزعمه رئيسة وزراء الدنمارك ميتا فريدركسن. وحصل في انتخابات غرينلاند البرلمانية عام 2021 على عشرة مقاعد ويحكم ائتلافياً مع "إنويت أكاتيغيت". ويعيش خلافات داخلية بشأن "الاستقلال فوراً". فبعض أقطابه يؤيدون الذهاب الفوري نحو استفتاء للاستقلال، بينما آخرون أقل حماسة، داعين إلى التروي والتنسيق مع الدنمارك. وتعتقد بعض شخصياته القريبة من جناح فريدركسن أنه من المبكر الذهاب نحو الانفصال عن كوبنهاغن. وموقف يسار الوسط في حزب "سيموت" ليس أقل رفضاً لتصريحات ترامب من بقية الأحزاب.

ويبرز حزب "أتاسوت" الليبرالي المحافظ، وحصل على مقعدين (من 31) في انتخابات غرينلاند الأخيرة ويتوقع أن يحافظ عليهما، وهو حزب متردد وأقل يقيناً في مسألة الاستقلال برمتها. ويعتبر هذا الحزب أنه "ليس من المسؤولية الانفصال عن بلد تعمل فيه علاقتنا بالفعل بشكل جيد ومتين"، كما يحمل برنامجه الانتخابي. وبدلاً من الاستقلال، يطرح الليبراليون دعوة مثيرة للجدل عن "اتفاقية الارتباط الحر" من أجل المستقبل، لتمتين العلاقة بكوبنهاغن وفقاً للقانون الدولي. ويرفض الحزب، شأنه شأن حزبه الشقيق في الدنمارك "فينسترا" الليبرالي، تصريحات ترامب عن تملّك غرينلاند.

حزب "ديموكراتيت" (ليبرالي في يمين الوسط) انضم أخيراً إلى حمى الدعوة إلى الاستقلال أيضاً، ولكنه لا يرغب بتحديد موعد، ويعتبر أن المسألة يجب أن تخضع لتفاوض مع الدنمارك. ويرفض الحزب ما يسميه "سياسة الضم" التي يطالب بها ترامب. وحصل في آخر انتخابات على ثلاثة مقاعد، ويتوقع له إما الحفاظ عليها أو حصوله على مقعد إضافي. أما حزب "قوليك" فتأسس في 2023 من منشقين قوميين ومن يسار الوسط "سيموت". يدخل انتخابات غرينلاند للمرة الأولى بدعم قوي للاستقلال الفوري. ويدعو إلى أن يكون شعب الإنويت (السكان الأصليين لغرينلاند) سيداً على ثرواته، وأنه يجب توسيع نطاق استخراجها. وبطبيعة الحال، يرفض دعوات ترامب للسيطرة على الجزيرة.

بعض الأحزاب في غرينلاند استفاد من تصريحات ترامب، لأجل الدفع بخطاب الدعوة إلى الاستقلال

ويعتبر مراقبون في كوبنهاغن أن بعض الأحزاب في غرينلاند استفادت إلى حد كبير من تصريحات ترامب حيال السيطرة الأميركية على الجزيرة، لأجل الدفع عالياً بخطاب الدعوة إلى الاستقلال عن كوبنهاغن التي أربكها تسارع تأييد البعض "الاستقلال الفوري". وحتى على مستوى الأحزاب الدنماركية في كوبنهاغن، فإن اختلافاتها على قضية منح غرينلاند حق تقرير المصير فرض نفسه بعد اندلاع السجال حوله. معسكر اليسار الدنماركي يؤيد الاستقلال إذا كانت تلك رغبة شعب الجزيرة، بينما يسار الوسط أكثر تحفظاً برئاسة فريدركسن، مثله يعيش يمين الوسط نقاشاً بانتظار نتائج انتخابات غرينلاند الثلاثاء المقبل. ويقف اليمين القومي المتشدد والشعبويون في الدنمارك موقفاً أكثر وضوحاً في التحفظ و"الخشية على تماسك الكومنولث الدنماركي".

ازدياد شعبية الانفصال قبيل انتخابات غرينلاند

مسألة استقلال غرينلاند ليست مرتبطة بالتصريحات الأميركية القديمة-الجديدة، إذ طرح ترامب في ولايته السابقة (2017 ـ 2021) الرغبة نفسها بالسيطرة على الجزيرة. بيد أن تصريحات الرجل على مدار الأسابيع الماضية، وإن لم يكن هناك تأييد شعبي واسع لها سوى من شخصيات وأفراد في غرينلاند، ساهمت في تزايد النقاش حولها وارتفاع نبرة الشكوى من سياسات الدنمارك التي يصفها البعض بأنها "استعمارية"، إذ ليس فقط السياسة ما هو على محك انتخابات غرينلاند الحالية، بل قضايا تهم المواطن الغرينلاندي وهويته.

خلال العقود الأخيرة، عاش مجتمع شعب الإنويت مشاكل اجتماعية كثيرة ساهمت في تزايد رغبة جيله الشاب في الاستقلال عن الدنمارك. المسألة لا ترتبط فقط بمسائل جيوسياسية متعلقة بسياسات كبرى في المنطقة القطبية الشمالية، بل بقضايا ملموسة يعيشها مجتمعهم الصغير. ومن أهمها، وهي لا تغيب أيضاً عن البرامج الحزبية والوعود الانتخابية، مشاكله الاجتماعية ومشاكل هوية أجياله. فظاهرة الإدمان على الكحول وانتشار العنف وحالات الاعتداء الجنسي، وانتحار نحو 40 شخصاً سنوياً، باتت، مع غيرها، تؤرق أحزابهم وحركاتهم.

تزايد حجم المشاعر السلبية من أهالي غرينلاند تجاه الدنمارك يوسع شعبية الانفصال عن التاج الدنماركي

كذلك، فإن تزايد حجم المشاعر السلبية من أهالي غرينلاند تجاه الدنمارك يوسع شعبية الانفصال عن التاج الدنماركي. وذلك ما أظهرته استطلاعات قامت بها مؤسسة فيريان لقياس الرأي لمصلحة مؤسسة "بيرلنغسكا للإعلام" الدنماركية وللصحيفة الغرينلاندية "سيرميتسياك"، ونشرت نتائجها نهاية يناير الماضي، إذ عبّر 82% من المستطلعين عن رأيهم بأن الدنمارك لا تعاملهم بطريقة متساوية أو باعتبارهم شريك في الكومنولث (الدنمارك وغرينلاند وجزر الفارو). وفقط 13% اعتبروا أنهم عوملوا على قدم المساواة، بينما 5% لم يبدوا رأياً. ذلك يأتي معاكساً لاعتقاد الحكومات الدنماركية المتعاقبة أنها تعاملهم كمعاملة الدنماركيين منذ وسعت حكمهم الذاتي في عام 1979. في الواقع، يعتقد 87% من شعب غرينلاند أن على الدنمارك الاعتذار لهم عن فترة استعمارهم.

ويشكو أهالي غرينلاند من عنصرية وتنميط الدنمارك. فعلى الرغم من أنهم جميعاً يحملون الجنسية الدنماركية، إلا أن مشاعر الإحباط تسيطر بشكل كبير بسبب كشف بعض الوثائق عن ممارسات دنماركية ممتدة لعقود طويلة، وبينها التصرف  كـ"دولة استعمارية"، بحسب اتهامات ساسة شباب في غرينلاند لسياسات الدنمارك تجاه شعبهم، في محاولتها منع الإنجاب، من خلال تركيب لوالب للفتيات والنساء دون علمهن أو علم الأهالي فترة الستينيات والسبعينيات، ما حرم كثيرات من الأمومة. وهذه القضية في صلب الحملة الانتخابية، إذ تقوم نسوة تعرضن لمنع الانجاب قسراً بالتظاهر في الجزيرة، ويرفعن قضية تعويض ضد الدولة الدنماركية.

مجمل القضايا المطروحة على أجندة الانتخابات غرينلاند الحالية، سواء منها المتعلقة بطلب الاستقلال أو تلك التي يكررها ترامب في طلب الاستحواذ على جزيرتهم، تفيد، وفقاً للمتابعة الدنماركية والسياسيين المحليين، بأنها لن تكون عنواناً مؤقتاً في الأخبار القادمة عنها. وسواء فازت الأحزاب التي تحكم اليوم أو خسرت بعض مقاعدها، يبدو قطار الاستقلال قد انطلق بمعزل عن رغبات البيت الأبيض. هذا القطار سيحتاج ربما إلى تحديد محطاته من خلال تفاهمات مع الدنمارك، وهو الأرجح بفعل اتفاقية الحكم الذاتي التي تفرض التفاوض على مسألة استفتاء على الاستقلال.

كوبنهاغن تنتظر نتيجة الانتخابات لترى ما إذا كان معسكر الاستقلال غير الفوري سيتغلب في نهاية المطاف حتى بين الأحزاب الداعية للذهاب فوراً نحو طلب الاستفتاء الشعبي. وعلى الرغم من أن المواقف واضحة عند الأغلبية بأنه لا بد من الاستقلال، إلا أن علاقة ونفوذ كوبنهاغن في الجزيرة ومجتمعها ليسا سهلين لتخطيها، خصوصاً أن بعض أحزاب غرينلاند تعيش سجالاً داخلياً حول سرعة الاستقلال، وضرورة ترتيب العلاقة التمويلية والاقتصادية مع الدنمارك، من دون القفز في هواء شعارات شعبوية، كما يحذر بعض المراقبين والمتخصصين على الجانبين.

المساهمون