استمع إلى الملخص
- تاريخياً، طورت فرنسا ترسانتها النووية لمواجهة الخطر السوفييتي، ويعيد ماكرون النقاش حول دور الردع النووي الفرنسي في تعزيز الأمن الأوروبي، مؤكداً أن القرار النهائي بشأن استخدام القوة النووية يظل بيد الرئيس الفرنسي.
- التغيرات الجيوسياسية الأخيرة دفعت بعض القادة الأوروبيين لإعادة النظر في التعاون النووي مع فرنسا، رغم أن القدرات الفرنسية والبريطانية غير كافية لتحل محل الردع الأمريكي.
عاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى محاولة لعب دور القائد الأوروبي، والدعوة من جديد لمناقشة البعد الأوروبي للردع النووي الفرنسي كأحد أدوات الدفاع الاستراتيجية، وذلك في وقت تستعد القارة لمواجهة "شيطانين" لا واحد، هما الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب. يفعل ماكرون ذلك مستغلاً الأثر السلبي العميق الذي تركه لدى الفرنسيين مشهدُ الإهانة الذي وجّهه الرئيس الأميركي دونالد ترامب لنظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض، أخيراً.
فبينما يسود الهلع في أوروبا من العداء والتهميش الذي يظهره ترامب منذ عودته للبيت الأبيض، للقارة، معطوفين على الخطر الروسي التقليدي، عاد ماكرون ليطرح فكرته التي لقيت سابقاً فتوراً أوروبياً، وهي لا تزال تطرح اليوم مع إعادة النقاش حولها الكثير من الإشكاليات العسكرية والتقنية والسياسية، في وقت تبحث دول الاتحاد ما يستوجب أن يكون "ثورة عسكرية" في وجه خطر الانسحاب الأميركي من الالتزام بحماية الحلفاء الأوروبيين. ويأتي كلام ماكرون، الذي وجّهه إلى الفرنسيين، مساء الأربعاء، ليطرح الخيار النووي الفرنسي كردع "أوروبي" وليس "أطلسياً"، ولكن ربما كآخر الحلول المتوفرة، وسط اقتناع فرنسي بصعوبة تكوين جيش أوروبي موحد قريباً، أو تنشيط الصناعات العسكرية الأوروبية، لدرجة تلائم التحدي المطروح في القارة. علماً أن المظلّة النووية التي تطرحها باريس، ليس واضحاً ما إذا كانت تغطي أوكرانيا، المطالبة بضمانات أمنية، وهي دولة ليست عضواً في الاتحاد، وغير موقعة على معاهداته الأمنية والدفاعية.
تملك فرنسا 290 رأساً نووياً، وبريطانيا حوالي 250
من الخطر السوفييتي إلى الخطر الروسي
وكانت فرنسا طوّرت في الأساس ترسانتها النووية، رداً على الخطر السوفييتي، وبهدف الاستقلالية عن الولايات المتحدة، وذلك وفق عقيدة ثابتة مفادها أن الدولة ستستخدم هذه الترسانة الاستراتيجية في حال تعرض مصالحها الحيوية لأي هجوم، على ألا تكون هي المبادرة لحرب نووية. وهكذا، فإن مفهوم سياسة الردع النووي الفرنسية، منذ عقود، دفاعي بالدرجة الأولى، هدفه "منع اندلاع حرب كبرى" تهدد المصالح الفرنسية. وبرأي ماكرون، لا مجال لفصل المصالح الحيوية الفرنسية عن البعد الأوروبي، وبحسب باريس، إن هدف الردع النووي الفرنسي ليس الحلول مكان نظيره الأميركي، بل دعمه، وتعزيز القوة الردعية الأوروبية بمواجهة التهديدات.
وتتشابه الظروف بين اليوم والأمس، في الأسباب الموجبة وراء تحريك فرنسا الخيار النووي. ففي عام 1954، بدأت فرنسا برنامجاً سرّياً لصناعة السلاح النووي الذي جعله الجنرال شارل ديغول رسمياً في 1958. وبحسب الباحث في مركز الدفاع والأمن ومقره إستونيا، جان ولي لوزييه، في ورقة بحثية نُشرت في يناير/كانون الثاني 2023، إن العدوان الثلاثي (الفرنسي البريطاني الإسرائيلي) على مصر عام 1956 أظهر للفرنسيين محدودية الالتزام الأميركي إلى جانب الحلفاء، بالإضافة إلى استخدام السوفييت تقنية الصاروخ الباليستي العابر للقارات لإطلاق القمر الاصطناعي سبوتنيك إلى الفضاء، في 1957، ما جعل الفرنسيين أمام واقع احتمال أن تكون الولايات المتحدة غير محمية تماماً من الصواريخ الروسية، وفتح نقاشاً أوروبياً بشأن مدى رغبة الأميركيين باستخدام مخزونهم الاستراتيجي لحماية القارة. وكان ديغول اتخذ قراراً في 1966 بالانسحاب من هيكل القيادة العسكرية لحلف شمال الأطلسي (ناتو) عقب تنامي مخاوفه من الهيمنة الأميركية على الحلف، معلناً رغبته بالحفاظ على استقلالية بلاده بشأن قراراتها النووية.
وعندما أعاد ماكرون إطلاق دعوته في المدرسة الحربية عام 2020، للتفكير في الاستعانة أوروبياً بخيار الردع النووي الفرنسي، جاء ذلك على خلفية مرحلة انكفاء أميركي كان أسّسها ترامب بولايته الأولى (2017 -2021)، ومرتبطة أيضاً بالتصعيد الروسي بعد ست سنوات من احتلال القرم. بعد ذلك بعامين، كشفت فرنسا عن المراجعة الوطنية الاستراتيجية الجديدة التي ضمّنتها التحديات الماثلة إثر غزو روسيا لأوكرانيا، حيث التزمت بعقيدتها النووية التي تقوم على مبدأ الردع النووي الفرنسي وعدم المبادرة لشنّ حرب نووية. ومع بداية 2025، نشرت باريس تحديثاً مبكراً للمراجعة الاستراتيجية 2022. وبحسب المراجعة، التي يفترض أن تستمر حتى 2030، فإن فرنسا بحسب رئيسها "تريد أن تكون قوة مستقلة، تتمتع بالاحترام، ورشيقة في صلب الاستقلالية الأوروبية الاستراتيجية، مع ارتباط قوي بالتحالف الأطلسي"، مشدداً على أن مفتاح ذلك هو "ردع نووي (أوروبي) حديث وذات مصداقية"، علماً أن فرنسا هي الدولة الوحيدة النووية في أوروبا، إذا استثنيت بريطانيا.
معايير الردع النووي الفرنسي
ولم تكن ردّة الفعل الأوروبية مرحّبة بدعوة ماكرون في 2020، لفتح نقاش بشأن استغلال أوروبي للمظلة النووية الفرنسية، حيث كان المزاج الألماني والأوروبي الشرقي خصوصاً، يميل إلى إبقاء الاعتماد على المظلة النووية الأميركية، لا سيما مع عودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض بعد ولاية أولى لترامب. ومع الغزو الروسي، والتهديد الروسي باستخدام السلاح النووي في الحرب (وتغيير العقيدة النووية)، ثم رئاسة ترامب الثانية، وفتحه قناة حوار مع موسكو على حساب الأوروبيين، ثم طلبه من أوروبا تحمّل العبء الأكبر من الضمانات الأمنية التي يمكن تقديمها لكييف، بدا المزاج الأوروبي مستنفراً هذه المرة، وفي مقابلة له خلال حملته الانتخابية، اقترح المستشار المقبل لألمانيا فريديريش ميرز إجراء مباحثات مع فرنسا وبريطانيا بشأن وضع نهج نووي ردعي شامل. وردّ ماكرون بأنه "استجابة للدعوة التاريخية" لميرز، قرّر "فتح مناقشة استراتيجية حول حماية حلفائنا بالقارة الأوروبية عبر قوة ردعنا". وأوضح أنه "بغض النظر عما سيحدث، فإن القرار كان وسوف يظل دائماً بيد رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة"، في رسالة إلى زعيمة اليمين المتطرف بفرنسا، مارين لوبان، التي أعلنت رفض مشاركة فرنسا في الردع النووي لحماية أوروبا.
طوّرت فرنسا ترسانتها النووية رداً على الخطر السوفييتي
وكان البيان الختامي لقمة الناتو في عام 1974 أكد أن القوتين النوويتين، فرنسا وبريطانيا، "قادرتان على لعب دور ردعي بمفردهما، ما يساهم في تعزيز ردع الحلف". من جهته، فإن الالتزام الأميركي بتمديد الردع النووي إلى أوروبا، متجذر بالمادة الخامسة من معاهدة الحلف الذي يعتمد على الأسلحة النووية الأميركية في أوروبا، وكذلك على القدرات والبنية التحتية (النووية) للحلفاء. ويعتبر الحلف أن الدول النووية داخله هي "الضمانة الكبرى" لأمن التحالف، لكن التطمينات "هي سياسية أكثر من كونها ملزمة قانوناً"، بحسب مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، بتقرير له نشر الثلاثاء الماضي.
واعتبر المركز أنه حتى الآن، فإن الردع النووي الفرنسي يبقى مكمّلاً للردع الأميركي ولا يشكّل مع الردع النووي البريطاني بديلاً مقبولاً بحال الانسحاب النووي الأميركي من المنطقة. فمن جهة، العقيدة النووية والهيكلية لهاتين الترسانتين تجعلانهما غير قادرتين على أن تحلا محل قوة الردع النووي الأميركي، لأنهما مصممتان خصيصاً للاستجابة لهجوم بناء على مصالحهما الحيوية المباشرة. إذ تملك فرنسا 290 رأسا نوويا، وبريطانيا حوالي 250، فيما تملك الولايات المتحدة ما مجموعه 1600 رأس نووي منشور بالفعل. روسيا أيضاً تملك 1600 رأس نووي منشور، و2800 رأس نووي في الاحتياط (بالإضافة إلى حوالي 1500 بوضع التقاعد وقد تكون سليمة). ولم تعد فرنسا تتمتع بثالوث نووي (أرض - جو - بحر)، إذ أبطلت مفاعيل جميع صواريخها النووية الأرضية، فيما اختبرت روسيا أخيراً صاروخ سارمات (الشيطان 2) القادر على حمل رؤوس نووية لضرب أهداف بعيدة يمكن أن تصل إلى الولايات المتحدة وأوروبا، وهو من صواريخ الجيل الجديد الروسية. وبحسب التلفزيون الروسي، فإن الصاروخ بحاجة لـ200 ثانية لتدمير باريس بأكملها وإخفائها. وبحسب موقع "ذا كونفرزايشون"، فإن "جعل القوة النووية أوروبية"، يعني زيادة القدرات النووية، وتوسيع الترسانة النووية الفرنسية، لتغطي الدول الـ27 بالاتحاد، ما يتطلب إنشاء مخزونات إضافية من المواد الانشطارية، وإعادة تشغيل مفاعل إنتاجية في بييرلات وماركول، والتي تمّ تفكيكها في أواخر تسعينيات الماضي
(العربي الجديد)