ملايين المنشورات ألقاها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة في السنة ونصف السنة الأخيرة من الإبادة التي تبدو بلا نهاية. يظل أقساها تلك التي تأمر الفلسطينيين بإخلاء بيوتهم وأحيائهم؛ إذ يضطرون في غضون وقتٍ قصير إلى ترك كل شيء أملاً بالنجاة، وكثيراً ما وجدوا الموت ينتظرهم حيثما توجّهوا.
وضمن هذه المنشورات، التي سقطت كمطر من ورق، تلك التي تهدِف لتجييش السكان وتأليبهم ضد المقاومة؛ وطالما جمع الفلسطينيون هذه المنشورات، لاستخدامها في إشعال النار للحصول على بعض الدفء، أو لتحضير طعام مما توفر، على قلته وندرته.
ولئن كان ليس جديداً لجوء الاحتلال إلى إسقاط المنشورات (أو المناشير بالعامية الدارِجة) من الجو، تُظهر مراجعة مضامينها ومقارنتها مع منشورات ألقيت قبل اندلاع الحرب وفي سنوات وعقود خلت، أن جيش الاحتلال استخدم هذه المرّة رسائل أكثر قساوة وعدوانية، لتحقيق أهدافه التي تتوزع ما بين ترهيب السكان بهدف تهجيرهم، وإضعاف معنوياتهم، مروراً بتأليبهم على المقاومة وتجييشهم ضدها، وصولاً لجمع معلومات عن قادة المقاومة وعن أسراه.
بالنسبة للاحتلال، تُعد المنشورات التي تُلقى من الجو، إحدى أسهل الطرق وأسرعها لتمرير الرسائل إلى الفلسطينيين في غزة، خصوصاً لأنه يفرض عليهم حصاراً يشمل أيضاً قطع الكهرباء، وفي أحيان معيّنة قطع كُلي لشبكة الإنترنت، وبالتالي يمكنه مخاطبة الفلسطينيين من دون وسيط.
ولكن من يصوغ هذه المنشورات؟ إنها وحدة البحوث التابعة لقسم الحرب النفسية بشعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية؛ إذ تطبع هذه الوحدة رزماً من المنشورات وترسلها إلى طائرات سلاح الجو التي تقوم بدورها بإلقاء المنشورات فوق المراكز السُكانية، وذلك وفقاً لما أورده موقع "هَمكوم هخي حام بجهينوم" (المكان الأكثر سخونة في جهنّم)، وهو موقع إلكتروني عبري يُعرّف عنه نفسه بأنه "مستقل" وينشر تقارير حول مواضيع وعناوين يتحاشى الإعلام العبري الرسمي عادة التطرق لها، بسبب مقص الرقابة المفروض عليه.
بروبغاندا وتأثير في الوعي
"قُصاصات الإقناع" كما عرّفت صحيفة "نيويورك تايمز" استخدام المنشورات أداةَ بروبغاندا في
حرب أفغانستان عام 2001. وقد اعتبرها الجيش الأميركي عموماً جزءاً أساسياً من الحرب النفسية. وفي العموم فإن إلقاء الجيوش المنشورات من الجو بدأ أساساً في القرن الـ19، بواسطة البراشوت. وفقط في بداية القرن العشرين خلال الحرب العالمية الأولى، بدأت ظاهرة إلقاء المنشورات تتسع.
خلال الحرب العالمية الثانية رغب النازيون في إثارة خوف الجنود الأميركيين؛ إذ تركز الاهتمام بشدّة على مضامين المنشورات ورسائلها، ولذلك تضمنت هذه الأخيرة تلميحات حول خيانة الزوجات بينما رجالهن في الحرب.
بالنسبة لإسرائيل، قد تكون أقدم مناشير معروفة ألقاها جيشها هي تلك التي أُلقيت في أغسطس/آب من العام 1968 فوق سكان الضفة الشرقية للأردن، والتي نشطت فيها المقاومة الفلسطينية عقب احتلال الضفة الغربية خلال النكسة العربية الكبرى. في المناشير المحفوظة بأرشيف صحيفة "يديعوت أحرونوت"، كتب جيش الاحتلال: "من يرغب في السلام عليه لفظ الفدائيين... ماذا دهاك أيها المواطن؟ هل هناك من يتحمل ثمن معاناتك؟".
وفي منشور آخر من الفترة ذاتها وجهه جيش الاحتلال للفدائيين أنفسهم كُتب أنه "بدلاً من إلقاء المنشورات كان بمقدور إسرائيل إلقاء قنابل، ولكن وجهة إسرائيل ليست القتل... عليك أن تعرف أن المشكلة بيننا ستُحل فقط من خلال طرق السلام. من يبحث عن حل بطرق الموت عليه أن يعرف أن الموت أقرب إليه مما يتصوّر".
في يونيو/حزيران 1982 وفي ذروة اجتياح لبنان، ألقت طائرات سلاح الجو الإسرائيلي منشورات على السكان في غرب بيروت؛ دعا فيها الاحتلال اللبنانيين إلى إخلاء منطقة القتال، مشدداً على أنه "ليس بنيّة الجيش المس بالمواطنين الأبرياء ومن لا يقاتله".
في أغسطس/آب من العام 2002 أي بعد أشهر قليلة على عدوان "السور الواقي" الذي شنّه الاحتلال على الضفة الغربية المحتلة، نشر جيش الاحتلال منشورات في أنحاء الضفة دعا خلالها الفلسطينيين إلى الامتناع عن "العمليات الإرهابية". وفيها قال إن "عليك أن تعرف كل من يقدم المساعدة أياً كانت للمخربين سيدفع ثمناً باهظاً. تصرّف بمسؤولية ولا تجبر الجيش على العودة للمدينة". وقد نُشرت هذه المنشورات في حينه على الرغم من أن ضباطاً في الجيش عارضوا الخطوة باعتبارها تُذكر بالأيام الأولى للحكم العسكري والاحتلال على الضفة عام 1967.
مناشير في سماء غزة
في 2003 و2004، بدأت فصائل المقاومة الفلسطينية في إطلاق صواريخ القسّام على المستوطنات المقامة في الجزء الغربي من النقب، خصوصاً على سديروت. في أغسطس/آب من العام 2004، ألقى الجيش للمرة الأولى منشورات فوق المدن الفلسطينية، تضمنت المنشورات رسماً كاريكاتورياً لصورة نمطية عن "الإرهابي"؛ إذ ظهر في الصورة شخصان يلقيان صاروخاً على إسرائيل، بينما يعود الصاروخ ليسقط على بيت فلسطيني وذلك باستخدام "تأثير البمرنغ". تضمن المنشور كلمتيّ: "الإرهاب يقتلكم"، بالإضافة إلى الرسمة. وبحسب مقالة في ذلك الحين نشرتها صحيفة "يديعوت أحرونوت" فإن استخدام الرسم الكاريكاتوري كان هدفه "مخاطبة حتّى أولئك الذين ليس لديهم قدرة على القراءة".
لم تصل جميع المنشورات إلى أهدافها، ففي عام 2005، وخلال عدوان "سماء زرقاء" ألقى جيش الاحتلال منشورات طالب فيها السكان الفلسطينيين بإخلاء مناطق معينة في قطاع غزة. غير أن المظلة التي حملت المنشورات لم تفتح، وسقطت هذه المنشورات في مستوطنة سديروت لتتسبب بحالة من الهلع في صفوف الإسرائيليين.
وعن جدوى هذه المنشورات، كان رئيس قسم فرع الحرب الإلكترونية في شعبة العمليات (لا يُنشر اسمه بسبب منصبه الحسّاس)، قد حدّد في مقابلة مع مجلة سلاح الجو عام 2009، أن "ثمة هدفين رئيسيين لإلقاء المنشورات؛ الأوّل: هو تحذير السكان من القصف. والثاني: هو محاولة التأثير على وعي البيئة السكانية المدنيّة في مناطق القتال" وفق تعبيره.
في السنوات الأخيرة تحوّلت رسائل جيش الاحتلال إلى أكثر معلوماتيّة، وأقل ذكاءً وتعقيداً، وتضمنت بالأساس رسائل تُحمّل حماس المسؤولية عن التصعيد في المنطقة. في يناير/كانون الثاني 2010 ألقى الجيش منشورات توجه فيها إلى السكان بالقول: "لا تجلسوا مكتوفي الأيدي بينما تستغلّكم العناصر الإرهابية. تحمّلوا مسؤولية مستقبلكم". فيما كُتب في منشورات رماها خلال عدوان "عامود السحاب" عام 2012، أن: "حماس تجر المنطقة لتصعيد وسفك دماء مجدداً. جيش الدفاع الإسرائيلي مصمم على حماية مواطني دولة إسرائيل".
وفي العام 2014، خلال عدوان "الجرف الصامد"، شدد الجيش مضامينه، ونشر قوائم بالمقاومين الذين اغتالهم خلال الحرب. وفي المنشور كتب: "هذه قائمة جزئية لأسماء الأشخاص الذين يظنون أنهم قادرون على مواجهة قوة الجيش"، فيما تضمن القسم الآخر من المنشور خريطة لقطاع غزة تضم أربعة قبور وتساؤلاً: هل تعلمون أين هو مكان جثث عناصر حماس والجهاد الإسلامي؟".
التجييش وليس الإقناع
في العدوان الحالي على غزة، أمل الجيش في تجييش الفلسطينيين ضد
حماس، وطالب السكان بالتعاون مع إسرائيل للحفاظ على حياتهم. في فبراير/شباط 2024 ألقى منشورات على قطاع غزة بدت كأنها جريدة تُدعى "الواقع". على غلافها كُتب: "ضربوكم وعذبوكم... حرقوا أموال الشعب على الأنفاق والأسلحة"، و"أهانوا كرامتكم، وتركوا عائلاتكم مُعذّبة في الطرقات".
وفي جزء من المنشورات التي أُلقيت كان هدف الجيش الوصول إلى معلومات حول المحتجزين. "إذا كنتم ترغبون في مستقبل جيد لكم ولأولادكم، أبلغونا بمعلومات عن المختطفين في مناطقكم. الجيش سيضمن أمنكم وأمن بيوتكم كما سيقدم لكم جائزة ماليّة". وفي شهر يناير/كانون الثاني 2024 ألقى جيش الاحتلال منشورات فوق مدينة رفح تحمل صور أسراه، أبلغ فيها السكان أنه سيصبح بإمكانهم العودة لبيوتهم في الشمال لو أنهم سلّموه معلومات عن المحتجزين.
وفي منشورات كثيرة جداً طالب الاحتلال الفلسطينيين بإخلاء المنطقة والتوجه من واحدة إلى أخرى ادعى أنها أكثر أمناً ولعل هذا النوع من المنشورات كان الأكثر إيلاماً بالنسبة للفلسطينيين خصوصاً الذين اضطر بعضهم للنزوح عشرات المرات.
إلى ذلك، تبيّن أنه في واحدة من أفظع الأساليب التي استغل فيها جيش الاحتلال عادات يتمسك فيها بعض الفلسطينيين كتدخين السجائر، التي كما تحدث فلسطينيون كثر في غزة عانوا من فقدانها وانقطاعها من الأسواق، ومن أسعارها الخيالية إن وُجدت، ألقى جيش الاحتلال في أغسطس/آب من العام الماضي، منشورات بداخل أكياس نايلون. وفي كل كيس كان هُناك منشور أُلصقت عليه سيجارة كتب عليها "حماس تحرق غزة" وبجانبها صورة لعلبة سجائر حملت رسماً للشهيد القيادي في حماس،
يحيى السنوار، يصوره كشيطان. وكتب على الصورة: "التدخين خطير ولكن حماس أخطر". وفي الجزء الثاني من المنشور تحت السيجارة الحقيقية كُتب "تريد المزيد؟ (المزيد من السجائر) اتصل على الرقم ...".