المقاومة الفلسطينية وفواتير مسبوقة الدفع في غزة

المقاومة الفلسطينية وفواتير مسبوقة الدفع في غزة

30 ابريل 2022
تظاهرة في غزة تتوعد التصعيد الإسرائيلي في الأقصى (يوسف مسعود/Getty)
+ الخط -

شهد شهر رمضان في فلسطين المحتلة لهذا العام 2022 هبّة في القدس وعدة مناطق، شبيهة بسابقتها في رمضان 2021، حيث أتت الهبّات المتلاحقة لمواجهة عمليات التهجير والاستيطان في حي الشيخ جراح وحي سلوان وباب العامود. كذلك هدفت إلى التصدي لاعتداءات المستوطنين على المسجد الأقصى ووضع حد لمحاولات التقسيم الزماني والمكاني الذي تسعى إليه الجماعات الدينية الصهيونية المتطرفة لتغيير واقع القدس الإسلامي.

تفاعل الشارع الفلسطيني مع دعوات الرباط في المسجد الأقصى ومسجد قبّة الصخرة، وشهد شهر رمضان توافداً للفلسطينيين من كافة أنحاء فلسطين المحتلة إلى ساحات المسجد. وتذرعت الشرطة الإسرائيلية بعمليات الاعتكاف داخل تلك الساحات ليلاً ونهاراً، وأطلقت عليها اسم أعمال الشغب، وأطلقت في مواجهتها سلسلة إجراءات قمعية.

مثلت العديد من الوقائع الفلسطينية وداخل الحكومة الإسرائيلية وصفة تفجيرٍ جاهزة للأوضاع، وتمثلت تلك العوامل في عدة محاور:

أولاً: محاولات اليمين الإسرائيلي المتطرف مد جسور الثقة بينه وبين الجمهور الصهيوني وبين المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، حيث طمحت قيادات اليمين المتطرف إلى رصد المناطق الفلسطينية التي لديها قابلية للاشتباك مع قوات الاحتلال العسكرية في نقاط محددة، خرجت عن سيطرتها لاحقاً.

ثانياً: معاناة حكومات الاحتلال الإسرائيلي من أزمات متلاحقة، جعلها تحاول خلق حالة من الرعب والتهديد الأمني، بانشغالها بإشعال نقاط مواجهة محددة على الجانب الفلسطيني، لإظهار بطشها وقدرتها على السيطرة الأمنية والعسكرية على الأرض، خاصة بعد العمليات الفدائية التي تم تنفيذها في داخل الأراضي المحتلة عام 1948 من قبل ضياء حمارشة ورعد حازم، وما أحدثته تلك العمليات الفدائية من صدمة أمنية في الجانب الإسرائيلي، الذي رغم إمكانياته الأمنية العالية والمتفوقة إلا أنه وقف عاجزاً أمام تلك العمليات الفدائية الفردية، والتي أثارت ما أثارته من رعب إسرائيلي، خاصة بارتباط شهر رمضان لدى الإسرائيلي بتنامي عمليات المقاومة الفلسطينية، والخطر الأمني المحدق بكافة أماكن تواجده.

ثالثاً: ساهم في تفاقم الاحتكاكات بين الجانب الفلسطيني والإسرائيلي صعوبة الحديث عن تسوية سياسية أو تسويقها داخلياً، سواء في الجانب الفلسطيني أو في الجانب الإسرائيلي، خاصة أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تغيّر وجوهها لكنها ثابتة على نفس العقيدة الصهيونية اليمينية المتطرفة، التي ترى ضرورة القمع الوجودي والمعنوي لكل ما هو فلسطيني، حتى اصطدمت بواقع الهبّات التي كشفت عن جيل فلسطيني جديد رافض لخيار التسوية، خاصة في ظل انهيار دور منظمة التحرير الفلسطينية في رسم خريطة المواجهة وأشكالها الملحّة، وتحوّل ذلك الدور للشارع الفلسطيني الذي بدأ بدوره يقود قيادات الفصائل الفلسطينية بدلاً من أن ينقاد لها.

رابعاً: بعد عمليات التطبيع المستمرة في الجانب العربي، كذلك عمليات التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والجانب الإسرائيلي، واقتصار دور السلطة الفلسطينية على عمليات شجب واستنكار صورية لممارسات الاحتلال الاستيطانية والقمعية، مع رغبة في الحفاظ على الامتيازات المقدمة لها من المجتمع الدولي ومن جانب الاحتلال، في الوقت الذي لم يعجبها ما على الطاولة ولا ما تحت الطاولة ولم تقرر قلب الطاولة على خيار التسوية، فإن انسياقها لترديد خيارات ميتة من قبل الجانب الإسرائيلي كخيار حل الدولتين أو استئناف المفاوضات، قد قضى على دورها السياسي الفعلي في الجانب الفلسطيني، حيث اعتادت على تقديم حقن تخدير سياسية لمدة الثلاثين عاماً التي تلت اتفاقية أوسلو، وهذا ما جعل الشارع الفلسطيني يتحرك بعيداً عن عجز القيادة السياسية المتشبثة بامتيازاتها.

طرحت المقاومة في غزة أمام الشارع الفلسطيني تجربة الممكنات في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي

خامساً: تسريع وتيرة كسر حاجز الخوف كان المسؤول المباشر عنه عملية سيف القدس التي انطلقت من غزة العام الماضي 2021، من أجل إسناد وحماية المرابطين والمرابطات في القدس، حيث أظهرت المقاومة الفلسطينية تطوراً ملحوظاً في تغيير قواعد الاشتباك، فقد وقف الاحتلال الإسرائيلي عاجزاً عن رصد هذا التطور، على الرغم من كافة الإمكانيات والتقنيات الحديثة، حيث تركزت أهدافه حينها على الأبراج السكنية، ومكاتب المؤسسات الإعلامية، كما فشلت في تضليل المقاومة بوهم مواجهة برية، حيث كان من المؤكد حينها اتجاه الجانب الإسرائيلي إلى تشكيل لجان تحقيق بهدف التحقيق في التقصير في تقدير الموقف الأمني والعسكري، ورصد تطور إمكانيات المقاومة، مما وضع رؤوسا أمنية وسياسية وعسكرية صهيونية في مرمى منتقديها، فحاولت التعافي من تجربة سيف القدس بمحاولة صنع سجل متطرف جديد، بإطلاق يد العنف والتنكيل الأمني الصهيوني في الجانب الفلسطيني.

في هذه الأثناء وبعد إشعال نقاط مواجهة خرجت عن سيطرة الجانب الإسرائيلي الذي كان يطمح إلى حصر تلك المواجهة في مدن محددة ونقاط اشتباك محددة وتحت سيطرته، فإن الجانب الإسرائيلي معنيّ بعدم توسع دائرة الاشتباكات كي لا تصل إلى الأراضي المحتلة عام 1948، والتي أبدت وحدة غير مسبوقة مع أجزائها الفلسطينية في الضفة وغزة في معركة سيف القدس وبعد معركة سيف القدس، حيث أثبتت الحراكات داخل المجتمع الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948 فشل مشروع التهويد والأسرلة لذلك المجتمع الفلسطيني الذي ضاق ذرعاً بسياسات التمييز العنصري التي يمارسها عليه الكيان المحتل لعقود.

تتجه الأنظار في هذه الأثناء إلى حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، وكيفية رد المقاومة على اقتحامات المسجد الأقصى. وفي الواقع، فإن المقاومة الفلسطينية في غزة تمارسُ دوراً مزدوجاً على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، حتى بدون عمل عسكري مباشر كما حدث في سيف القدس. فمن جهة، ساهمت المقاومة الفلسطينية حين وضعت تل أبيب تحت مرمى نيرانها، في استعادة البوصلة الفلسطينية نحو الواقعية السياسية الصادمة، حين وضعت الشعب الفلسطيني أمام تجربتين مختلفتين، تجربة التسوية السياسية التي تمثلها السلطة وما جلبتها من نسف للمشروع الوطني الفلسطيني، وتجربة المقاومة الفلسطينية التي حققت توازن الرعب، وأصبح المحتلون بحكم إخطارات قائدها محمد ضيف أبو خالد يخرجون أو يدخلون للملاجئ. لقد حصرت المقاومة الفلسطينية خيارات الفلسطيني بين خيارين: الإذلال المطلق أو الكرامة، واتضح لاحقاً عبر أحداث بيتا حراس الجبل، والعمليات الفدائية الفردية، ومواجهات مخيم جنين وبلدة جنين، بأن الشارع الفلسطيني لم يعد ينصت لقيادة منظمة التحرير، التي فقدت قدرتها على الإقناع والجدل السياسي بخيار التسوية، أمام خيار المقاومة الذي يلتف حوله الخيار الجماهيري.

لقد ساهمت حركة المقاومة الفلسطينية في غزة في تطوير فكر وأساليب وأدوات وخطاب المقاومة الفلسطينية في بيتا وجنين والخليل والقدس والأراضي المحتلة عام 1948، حيث طرحت أمام الشارع الفلسطيني تجربة الممكنات الفلسطينية من غزة المحاصرة منذ سنوات، والتي أثبتت قدرتها على خلق واقع جديد على الأرض رغم محدودية الإمكانيات.

انشدّ الفلسطينيون المتعطشون لنموذج المقاومة بالممكنات إلى تجربة المقاومة في غزة، حيث زوّدتهم تجارب المقاومة بالروح الفلسطينية المقاومة، والتي حاولت قيادات السلطة الأمنية لما بعد أوسلو تدميرها، وإيهامها بالعجز المطلق أمام ترسانة الاحتلال الأقوى في المنطقة العربية، كي تحافظ تلك القيادات على الأوضاع القائمة، خاصة في حقبة أبو مازن، التي شهدت محاولات تشذيب المقاومة الفلسطينية من سلاحها في الضفة ومناطق سيطرتها.

تؤدي المقاومة الفلسطينية في غزة دوراً محورياً في الوقائع الحالية، كونها تمثل مركز ثقل ردات الفعل الفلسطينية التي يتوقى منها الجانب الإسرائيلي، والذي هو معنيّ باستعراضات قوته الأخيرة عبر اقتحامات المسجد الأقصى واقتحامات المدن الفلسطينية بمغازلة اليمين المتطرف الإسرائيلي، من دون الانخراط في مواجهة عسكرية مباشرة مع المقاومة الفلسطينية في غزة، وما يجعل احتمالات مواجهة عسكرية مباشرة بين الاحتلال والمقاومة مستبعدة، هو ديمومة الردع الذي حققته معركة سيف القدس، حيث يدرك الجانب الإسرائيلي حجم الخسائر التي سيتكبدها عبر مواجهة عسكرية مباشرة، كذلك في ظل المزاج الشعبي الفلسطيني في غزة الرافض لمواجهة مباشرة من أجل التعافي وإعادة التحشيد وإعادة بناء ما خلفته سنوات الحرب والحصار المتعاقبة، ما دام هذا الخيار ممكناً، وما دام هناك هامش لمناورة فعالة بتوجيه التهديدات للجانب الإسرائيلي، بحيث تلجمه عن الانتهاكات المستمرة في القدس وبقية المدن الفلسطينية.

في المحصلة، فإنَّ كل المواقف الداخلية، سواء من رام الله التي أجلت الرئاسة فيها اجتماعاً كان مقرراً لبحث الأوضاع في يوم الأحد 17 إبريل/نيسان 2022، والذي أعقب الإعلان عن تأجيله سخرية وغضباً شعبياً فلسطينياً واسعاً، أو سواء في غزة مركز ثقل المقاومة الفلسطينية الداعية إلى الرباط والتحشيد، فإن الفيصل يبقى في ثبات المقاومين الرافضين لتغيير هوية القدس من بوابة الحرم المقدسي الشريف.

المساهمون